ارتباط دعوة المهدي (ع) بدعوة النبي (ص)
كما يعلم الجميع إن الله سبحانه تعالى عندما خلق الخلق وأجرى عليهم السنن لم يكن ذلك عبثاً أو محض صدفة لأنه عز وجل خلق العباد لعناية ومهمة شريفة وهي عبادته جل وعلا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }( ).
وتلك العبادة بطبيعة الحال لم يكن محتاجاً إليها تقدست آلائه، وإنما هي طريقة لأيصال الفرد إلى درجة الكمال، الذي يقربه من رضوان الله عز وجل وإلى مرافقة أولياءه، الذين هم أول من عبد الله وقدسه والذين لأجلهم خلق الكون كله بسمائه وأرضه وإنسه وجنه وكواكبه وجميع مكونات خلقه وهم محمد وآل محمد ( عليهم افضل الصلاة وأتم التسليم ).
فإن جميع الأديان السماوية التي سبقت الإسلام هي بالإصل تدور على إقرار وتأكيد مبدأ العبودية والربوبية لله عز وجل وهو الشرط الأول من الميثاق وتبشر بقيام الإمام المهدي (عليه السلام) الذي تقوم على يديه دولة العدل الإلهي.
فالأنبياء أقروا وبينوا صراحة إيمانهم بالدين الإسلامي الذي يجيء بعدهم والمبني على اركان الميثاق الثلاثة التوحيد والنبوة والإمامة.
إن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي جاء ممثلاً وداعياً إلى تطبيق ما جاء في الميثاق الإلهي، وبطبيعة هذه الدعوة التي بدأ بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) من حيث التنزيل واستمر بها من بعده الأئمة الإثنا عشر المعصومين (عليهم السلام) من حيث التأويل وذلك لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما): ( يا علي أنت أخي وأنا أخوك وأنا المصطفى للنبوة وأنت المجتبى للإمامة وأنا صاحب التنزيل وأنت صاحب التأويل ...)( ).
وجاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) إن منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل. فسئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) من هو فقال: خاصف النعل يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)...)( ).
وغيرها من الروايات التي تثبت علمهم (عليهم السلام) بالتأويل.
وبطبيعة الحال فإن هذا التأويل للرسالة ومكنونها هو تأويل جزئي غير تام، وذلك تبعاً للظروف التي مر بها الأئمة (عليهم السلام) وما لاقوه من طغات عصرهم، إلى أن يأتي الدور إلى الإمام المهدي (عليه السلام) فهو من سيقوم بإظهار التأويل الباطني للرسالة الإسلامية المحمدية الأصيلة الكاملة المبنية على الميثاق الآنف الذكر، فعليه يكون الإمام العدل المنتظر (عليه السلام) هو الداعي والمطبق في نفس الوقت لما جاء في الميثاق.
وبعد أن تعرفنا بعد هذه المقدمة على الأصل في دعوة الأنبياء وهي الدعوة إلى الله عز وجل وتوحيده والتي يكملها الأوصياء من بعدهم، لنا أن نتسائل عن الكيفية التي يدعون الناس بها، لنتعرف بالتالي على مراحل دعوة الإمام المهدي (عليه السلام) بوصفه المكمل لما بدأه مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والتي سيتممها بإقامة دولة العدل الإلهي التي وعد الله بها جميع انبياءه ورسله وأولياءه (عليهم السلام) في إقامتها.
فإن قضية الإمام المهدي (عليه السلام) ودعوتها كسائر دعوات الأنبياء والرسل (عليهم السلام) تمر بمرحلتين مرحلة الدعوة السلمية ثم مرحلة المواجهة العسكرية، فمن المعلوم إن الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله عز وجل كانوا في بداية بعثاتهم دعاة إلى الله ولم يلجئوا إلى القوة أو التهديد بالعقاب والعذاب الإلهي إلا عند انتهاء واستنزاف جميع السبل السلمية الممكنة، من أجل إقناع أقوامهم بما جاءوا به من عند الله سبحانه وتعالى، فعلى سبيل المثال إن نبي الله نوح (عليه السلام) لبث في قومه تسعمائة وخمسون سنة يدعوهم إلى توحيد الله قبل أن يجيئهم العذاب الإلهي لتكذيبهم إياه والمتمثل بالطوفان، ونبي الله إبراهيم (عليه السلام) كذلك لبث في قومه سنيناً يدعوهم إلى توحيد الله تعالى ونبذ عبادة الأوثان وذلك قبل أن يصطدم بهم مباشرة، مما أدى إلى اعتقاله من قبل النمرود الذي ألقاه في النار، وكذلك الحال مع موسى (عليه السلام) الذي دعا هو وأخاه هارون (عليهما السلام) فرعون إلى عبادة الله الواحد الأحد بصورة سلمية إلى إن انتهى الأمر بالمواجهة العسكرية والتي انتهت بإغراق الله تعالى لفرعون وجنوده في اليم، ومثل ذلك ما وقع مع عيسى (عليه السلام) الذي دعا إلى الله عز وجل أيضاً بالكلام إلى أن أنتهى الأمر إلى اعتقاله من قبل الرومان المسيطرين آنذاك على بلاد الشام وبالتعاون مع اليهود وأرادوا صلبه ولكن الله نجاه من كيدهم بعد أن شبه لهم.
وكذلك الحال مع أوصياء الأنبياء (عليهم السلام) أيضاً الذين كانوا لا يدعون أحد إلى قتال إلا بعد دعوتهم بالكلمة وذلك لإقامة الحجة عليهم .
كما هو حال الإمام علي (عليه السلام) مع أهل الجمل حيث لم يبدأ بقتالهم إلا بعد دعوته إليهم ليفيئوا إلى أمره ويدخلوا في طاعته وحتى إنه أخرج إليهم أحد أصحابه حاملاً القرآن لتذكيرهم بما جاء به من الأمر بطاعته إلا أنهم رموه بسهم وقتلوه وعند ذلك يأس منهم وأضطر إلى قتالهم.
وهذه المرحلة بطبيعة الحال في دعوات الأنبياء (عليهم السلام) تنطبق أيضاً على دعوة خاتم الأنبياء والرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) والكل يعرف إن رسالته الإسلامية مرت بمرحلتين الأولى مرحلة الدعوة والتي تركزت بشكل خاص على مكة ثم مرحلة المواجهة العسكرية التي كانت بعد هجرته إلى المدينة المنورة وذلك عندما أمره الله تعالى بقتال المشركين في واقعة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة وهذه من الأمور الشهيرة في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما).
وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: ( إن الله تبارك وتعالى عندما أرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) أمره في بدء أمره أن يدعو الدعوة فقط وأنزل عليه { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }فبعثه الله بالدعوة فقط وأمره أن لا يؤذيهم، فلما أرادوه بما هموا به ثبت أمر الله تعالى بالهجرة وفرض عليه القتال فقال سبحانه {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ })( ).
وعليه تكون بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) قائمة على أساس الدعوة أولاً ثم القتال.
وسيصير الحال كذلك في قضية الإمام المهدي (عليه السلام) فإن قضيته تتكون من مرحلتين الأولى مرحلة الدعوة وجمع الأنصار وذلك قبل قيامه المقدس ثم المرحلة الثانية وهي قيامه بالسيف من مكة، وذلك من حيث شبه دعوته بدعوة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) في أغلب تفاصيلها، وقد وردت طائفة من الروايات تشير إلى الشبه بين دعوة الإمام المهدي (عليه السلام) وبين دعوة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما).
الرواية الأولى:
عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: ( الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء، فقلت: أشرح لي هذا أصلحك الله فقال: يستأنف الداعي منا دعاءاً جديداً كما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) )( ).
الرواية الثانية: عن أبي خديجة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ( إذا قام القائم جاء بأمر جديد كما دعا رسول الله في بدو الإسلام إلى أمر جديد )( ).
الرواية الثالثة:
وردت عن عبد الله بن عطاء أنه سأل الإمام الباقر (عليه السلام) فقال: ( سألت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) فقلت: إذا قام القائم (عليه السلام) بأي سيرة يسير في الناس ؟ فقال: يهدم ما قبله كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) ويستأنف الإسلام جديداً )( ).
ولا يتبادر إلى الذهن إن الإمام المهدي (عليه السلام) عند قيامه يستأنف الإسلام جديداً بمعنى أنه يأتي بدين جديد أو إسلام جديد غير الإسلام الذي نزلت احكامه على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما).
بل معناه يأتي بتعاليم الإسلام الحقيقية التي أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) والذي أنحرفت الأمة الإسلامية عنه شيئاً فشيئاً منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) وحتى الآن، فقد أشار الرسول إلى أن الإسلام سينقض عروة عروة بقوله: ( لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما ينقضون من دينكم الإمامة وآخره الصلاة )( ).
لذلك عند قيام الإمام المهدي (عليه السلام) ومجيئه بتلك التعاليم التي تبدو غريبة وجديدة عما هو مألوف لديهم من تعاليم وأحكام( ).
وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ان لله خليفة يخرج من عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) من ولد فاطمة ( عليها السلام ) يواطئ اسمه اسم رسول الله، جده الحسين بن علي ( عليهما السلام )، يبايع بين الركن والمقام، يشبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم تسليما ) في الخَلق وينزل عنه في الخُلق أسعد الناس به أهل الكوفة، يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا، يضع الجزية، ويدعو إلى الله بالسيف، ويرفع المذاهب، فلا يبقى الا الدين الخالص، أعداؤه مقلدة العلماء أهل الاجتهاد، لما يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمتهم، فيدخلون كرها تحت حكمه خوفا من سيفه، وتفرح به عامة المسلمين أكثر من خواصهم. يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف الهي، له رجال الهيون يقيمون دعوته وينصرونه، ولولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله، ولكن الله يظهره بالسيف والكرم، فيطمعون ويخافون ويقبلون حكمه من غير ايمان، ويضمرون خلافه، ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهب أئمتهم أنه على ضلال في ذلك. لأنهم يعتقدون أن أهل الاجتهاد وزمانه قد انقطع، وما بقي مجتهد في العالم، وان الله لا يوجد بعد أئمتهم أحدا له درجة الاجتهاد. وأما من يدعي التعريف الإلهي بالأحكام الشرعية ، فهو عندهم مجنون فاسد الخيال)( ) .
كما ورد عن الإمام الحسين (عليه السلام) أنه قال: ( في القائم منا سنة من الأنبياء سنة من نوح ... وأما من أيوب فالفرج بعد البلوى وأما من محمد فالخروج بالسيف )( ).
وورد أيضاً عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: ( يا محمد بن مسلم إن في القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) شبهاً من خمسة من الرسل ... وأما شبهه من جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فخروجه بالسيف وقتله أعداء الله ورسوله ...)( ).
وهذا يعني إن قيامه المقدس يمثل المرحلة الثانية من حيث الشبه بدعوة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) وهي المواجهة العسكرية.
وبقيت لدينا حلقة مفقودة وهي المرحلة الأولى من دعوة المصطفى ومن دعوات جميع الأنبياء والرسل (عليهم السلام) وهي مرحلة الدعوة السلمية.
ولو عدنا إلى الروايات التاريخية نجدها تشير كما سيأتينا مفصلاً إلى وجود دعوة قبل قيام الإمام المهدي (عليه السلام) بمكة بالسيف وهذه الدعوة تقوم على أساس تهيئة الناس لقيامه المقدس وجمع الأنصار والموالين له.
والذي يهمنا في هذه المسألة هو من سيقوم بتلك الدعوة ويبينها ويقوم بنشرها وهو السيد اليماني الذي يقوم بالتمهيد للإمام المهدي (عليه السلام) من خلال التبليغ والدعوة وتبيان علامات ظهوره لتتهيء أذهان الناس لأستقباله بعد طول الغيبة، فضلاً عن جمع الأنصار ولا سيما الثلاثمائة وثلاثة عشر والعشرة آلاف والذين لا يقوم الإمام في مكة إلا بعد إكتمالهم.
كما يعلم الجميع إن الله سبحانه تعالى عندما خلق الخلق وأجرى عليهم السنن لم يكن ذلك عبثاً أو محض صدفة لأنه عز وجل خلق العباد لعناية ومهمة شريفة وهي عبادته جل وعلا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }( ).
وتلك العبادة بطبيعة الحال لم يكن محتاجاً إليها تقدست آلائه، وإنما هي طريقة لأيصال الفرد إلى درجة الكمال، الذي يقربه من رضوان الله عز وجل وإلى مرافقة أولياءه، الذين هم أول من عبد الله وقدسه والذين لأجلهم خلق الكون كله بسمائه وأرضه وإنسه وجنه وكواكبه وجميع مكونات خلقه وهم محمد وآل محمد ( عليهم افضل الصلاة وأتم التسليم ).
فإن جميع الأديان السماوية التي سبقت الإسلام هي بالإصل تدور على إقرار وتأكيد مبدأ العبودية والربوبية لله عز وجل وهو الشرط الأول من الميثاق وتبشر بقيام الإمام المهدي (عليه السلام) الذي تقوم على يديه دولة العدل الإلهي.
فالأنبياء أقروا وبينوا صراحة إيمانهم بالدين الإسلامي الذي يجيء بعدهم والمبني على اركان الميثاق الثلاثة التوحيد والنبوة والإمامة.
إن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي جاء ممثلاً وداعياً إلى تطبيق ما جاء في الميثاق الإلهي، وبطبيعة هذه الدعوة التي بدأ بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) من حيث التنزيل واستمر بها من بعده الأئمة الإثنا عشر المعصومين (عليهم السلام) من حيث التأويل وذلك لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما): ( يا علي أنت أخي وأنا أخوك وأنا المصطفى للنبوة وأنت المجتبى للإمامة وأنا صاحب التنزيل وأنت صاحب التأويل ...)( ).
وجاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) إن منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل. فسئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) من هو فقال: خاصف النعل يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)...)( ).
وغيرها من الروايات التي تثبت علمهم (عليهم السلام) بالتأويل.
وبطبيعة الحال فإن هذا التأويل للرسالة ومكنونها هو تأويل جزئي غير تام، وذلك تبعاً للظروف التي مر بها الأئمة (عليهم السلام) وما لاقوه من طغات عصرهم، إلى أن يأتي الدور إلى الإمام المهدي (عليه السلام) فهو من سيقوم بإظهار التأويل الباطني للرسالة الإسلامية المحمدية الأصيلة الكاملة المبنية على الميثاق الآنف الذكر، فعليه يكون الإمام العدل المنتظر (عليه السلام) هو الداعي والمطبق في نفس الوقت لما جاء في الميثاق.
وبعد أن تعرفنا بعد هذه المقدمة على الأصل في دعوة الأنبياء وهي الدعوة إلى الله عز وجل وتوحيده والتي يكملها الأوصياء من بعدهم، لنا أن نتسائل عن الكيفية التي يدعون الناس بها، لنتعرف بالتالي على مراحل دعوة الإمام المهدي (عليه السلام) بوصفه المكمل لما بدأه مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والتي سيتممها بإقامة دولة العدل الإلهي التي وعد الله بها جميع انبياءه ورسله وأولياءه (عليهم السلام) في إقامتها.
فإن قضية الإمام المهدي (عليه السلام) ودعوتها كسائر دعوات الأنبياء والرسل (عليهم السلام) تمر بمرحلتين مرحلة الدعوة السلمية ثم مرحلة المواجهة العسكرية، فمن المعلوم إن الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله عز وجل كانوا في بداية بعثاتهم دعاة إلى الله ولم يلجئوا إلى القوة أو التهديد بالعقاب والعذاب الإلهي إلا عند انتهاء واستنزاف جميع السبل السلمية الممكنة، من أجل إقناع أقوامهم بما جاءوا به من عند الله سبحانه وتعالى، فعلى سبيل المثال إن نبي الله نوح (عليه السلام) لبث في قومه تسعمائة وخمسون سنة يدعوهم إلى توحيد الله قبل أن يجيئهم العذاب الإلهي لتكذيبهم إياه والمتمثل بالطوفان، ونبي الله إبراهيم (عليه السلام) كذلك لبث في قومه سنيناً يدعوهم إلى توحيد الله تعالى ونبذ عبادة الأوثان وذلك قبل أن يصطدم بهم مباشرة، مما أدى إلى اعتقاله من قبل النمرود الذي ألقاه في النار، وكذلك الحال مع موسى (عليه السلام) الذي دعا هو وأخاه هارون (عليهما السلام) فرعون إلى عبادة الله الواحد الأحد بصورة سلمية إلى إن انتهى الأمر بالمواجهة العسكرية والتي انتهت بإغراق الله تعالى لفرعون وجنوده في اليم، ومثل ذلك ما وقع مع عيسى (عليه السلام) الذي دعا إلى الله عز وجل أيضاً بالكلام إلى أن أنتهى الأمر إلى اعتقاله من قبل الرومان المسيطرين آنذاك على بلاد الشام وبالتعاون مع اليهود وأرادوا صلبه ولكن الله نجاه من كيدهم بعد أن شبه لهم.
وكذلك الحال مع أوصياء الأنبياء (عليهم السلام) أيضاً الذين كانوا لا يدعون أحد إلى قتال إلا بعد دعوتهم بالكلمة وذلك لإقامة الحجة عليهم .
كما هو حال الإمام علي (عليه السلام) مع أهل الجمل حيث لم يبدأ بقتالهم إلا بعد دعوته إليهم ليفيئوا إلى أمره ويدخلوا في طاعته وحتى إنه أخرج إليهم أحد أصحابه حاملاً القرآن لتذكيرهم بما جاء به من الأمر بطاعته إلا أنهم رموه بسهم وقتلوه وعند ذلك يأس منهم وأضطر إلى قتالهم.
وهذه المرحلة بطبيعة الحال في دعوات الأنبياء (عليهم السلام) تنطبق أيضاً على دعوة خاتم الأنبياء والرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) والكل يعرف إن رسالته الإسلامية مرت بمرحلتين الأولى مرحلة الدعوة والتي تركزت بشكل خاص على مكة ثم مرحلة المواجهة العسكرية التي كانت بعد هجرته إلى المدينة المنورة وذلك عندما أمره الله تعالى بقتال المشركين في واقعة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة وهذه من الأمور الشهيرة في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما).
وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: ( إن الله تبارك وتعالى عندما أرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) أمره في بدء أمره أن يدعو الدعوة فقط وأنزل عليه { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }فبعثه الله بالدعوة فقط وأمره أن لا يؤذيهم، فلما أرادوه بما هموا به ثبت أمر الله تعالى بالهجرة وفرض عليه القتال فقال سبحانه {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ })( ).
وعليه تكون بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) قائمة على أساس الدعوة أولاً ثم القتال.
وسيصير الحال كذلك في قضية الإمام المهدي (عليه السلام) فإن قضيته تتكون من مرحلتين الأولى مرحلة الدعوة وجمع الأنصار وذلك قبل قيامه المقدس ثم المرحلة الثانية وهي قيامه بالسيف من مكة، وذلك من حيث شبه دعوته بدعوة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) في أغلب تفاصيلها، وقد وردت طائفة من الروايات تشير إلى الشبه بين دعوة الإمام المهدي (عليه السلام) وبين دعوة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما).
الرواية الأولى:
عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: ( الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء، فقلت: أشرح لي هذا أصلحك الله فقال: يستأنف الداعي منا دعاءاً جديداً كما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) )( ).
الرواية الثانية: عن أبي خديجة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ( إذا قام القائم جاء بأمر جديد كما دعا رسول الله في بدو الإسلام إلى أمر جديد )( ).
الرواية الثالثة:
وردت عن عبد الله بن عطاء أنه سأل الإمام الباقر (عليه السلام) فقال: ( سألت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) فقلت: إذا قام القائم (عليه السلام) بأي سيرة يسير في الناس ؟ فقال: يهدم ما قبله كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) ويستأنف الإسلام جديداً )( ).
ولا يتبادر إلى الذهن إن الإمام المهدي (عليه السلام) عند قيامه يستأنف الإسلام جديداً بمعنى أنه يأتي بدين جديد أو إسلام جديد غير الإسلام الذي نزلت احكامه على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما).
بل معناه يأتي بتعاليم الإسلام الحقيقية التي أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) والذي أنحرفت الأمة الإسلامية عنه شيئاً فشيئاً منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) وحتى الآن، فقد أشار الرسول إلى أن الإسلام سينقض عروة عروة بقوله: ( لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما ينقضون من دينكم الإمامة وآخره الصلاة )( ).
لذلك عند قيام الإمام المهدي (عليه السلام) ومجيئه بتلك التعاليم التي تبدو غريبة وجديدة عما هو مألوف لديهم من تعاليم وأحكام( ).
وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ان لله خليفة يخرج من عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) من ولد فاطمة ( عليها السلام ) يواطئ اسمه اسم رسول الله، جده الحسين بن علي ( عليهما السلام )، يبايع بين الركن والمقام، يشبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم تسليما ) في الخَلق وينزل عنه في الخُلق أسعد الناس به أهل الكوفة، يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا، يضع الجزية، ويدعو إلى الله بالسيف، ويرفع المذاهب، فلا يبقى الا الدين الخالص، أعداؤه مقلدة العلماء أهل الاجتهاد، لما يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمتهم، فيدخلون كرها تحت حكمه خوفا من سيفه، وتفرح به عامة المسلمين أكثر من خواصهم. يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف الهي، له رجال الهيون يقيمون دعوته وينصرونه، ولولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله، ولكن الله يظهره بالسيف والكرم، فيطمعون ويخافون ويقبلون حكمه من غير ايمان، ويضمرون خلافه، ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهب أئمتهم أنه على ضلال في ذلك. لأنهم يعتقدون أن أهل الاجتهاد وزمانه قد انقطع، وما بقي مجتهد في العالم، وان الله لا يوجد بعد أئمتهم أحدا له درجة الاجتهاد. وأما من يدعي التعريف الإلهي بالأحكام الشرعية ، فهو عندهم مجنون فاسد الخيال)( ) .
كما ورد عن الإمام الحسين (عليه السلام) أنه قال: ( في القائم منا سنة من الأنبياء سنة من نوح ... وأما من أيوب فالفرج بعد البلوى وأما من محمد فالخروج بالسيف )( ).
وورد أيضاً عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: ( يا محمد بن مسلم إن في القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) شبهاً من خمسة من الرسل ... وأما شبهه من جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فخروجه بالسيف وقتله أعداء الله ورسوله ...)( ).
وهذا يعني إن قيامه المقدس يمثل المرحلة الثانية من حيث الشبه بدعوة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) وهي المواجهة العسكرية.
وبقيت لدينا حلقة مفقودة وهي المرحلة الأولى من دعوة المصطفى ومن دعوات جميع الأنبياء والرسل (عليهم السلام) وهي مرحلة الدعوة السلمية.
ولو عدنا إلى الروايات التاريخية نجدها تشير كما سيأتينا مفصلاً إلى وجود دعوة قبل قيام الإمام المهدي (عليه السلام) بمكة بالسيف وهذه الدعوة تقوم على أساس تهيئة الناس لقيامه المقدس وجمع الأنصار والموالين له.
والذي يهمنا في هذه المسألة هو من سيقوم بتلك الدعوة ويبينها ويقوم بنشرها وهو السيد اليماني الذي يقوم بالتمهيد للإمام المهدي (عليه السلام) من خلال التبليغ والدعوة وتبيان علامات ظهوره لتتهيء أذهان الناس لأستقباله بعد طول الغيبة، فضلاً عن جمع الأنصار ولا سيما الثلاثمائة وثلاثة عشر والعشرة آلاف والذين لا يقوم الإمام في مكة إلا بعد إكتمالهم.