إن مراحل هذه الدعوة يكون لها شبه بمراحل الدعوة المحمدية في صدر الإسلام والتي قام بها وتحمل أعبائها الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) وهذه المراحل كالآتي:
الدعوة السرية
إن دعوة الإمام المهدي (عليه السلام) كباقي الدعوات الإلهية التي تمر بمرحلة الخفاء والعلن أو الدعوة السرية والعلنية، وفق المخطط الإلهي المرسوم لها، ودعوة الإمام المهدي كما سبق وأشرنا امتداد لدعوات الأنبياء (عليهم السلام).
فإن دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) بدأت بمرحلة ( الدعوة السرية ) حيث اتخذت الجانب السري، فبدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) بالدعوة بشكل فردي، فكان يلتقي ببعض الأفراد من أهل مكة ويبشرهم بنبوته، واستمر على هذه الحال ثلاثة سنوات تقريباً وهذه المرحلة تمر بها معظم الدعوات، فلا بد من كسب الأنصار المؤمنين لصاحب الدعوة وما جاء به من عند الله عز وجل من مفاهيم ومبادئ وعقائد، والعمل على تقوية الشوكة عن طريق جمع هؤلاء الأنصار وتهيئتهم عقائدياً وسلوكياً وحتى جسدياً، ومن ثم أعلان الدعوة، لأن القيام بالدعوة بشكل مباشر في بدايتها يؤدي إلى إجهاضها لأنه لم يتح لها القوة والعدد الكافي للنهوض بها وحملها ونشرها بين الناس.
وبعد أن علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) انه لا يخرج من مكة غير من آمن به خلال هذه السنوات الثلاثة، وبعد أن صنع من أولئك النفر القليل الذين اتبعوه وصدقوه قوماً موحدين أقوياء لا تأخذهم في الله لومة لائم أشداء في الحق، أخبرهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) بوجوب إعلان الدعوة وعليهم أن يستعدوا لذلك، علماً إنهم فيما مضى من تلك السنين كانوا يهيئون أنفسهم إلى ذلك اليوم الموعود الذي ترى فيه دعوتهم النور وتخرج من تحت اجنحة الليل (السر) إلى ضياء النهار (العلن).
ومروا بحالة من التكتم والتخفي خشية على عقيدتهم ودعوتهم، حتى كان الرجل منهم ليخفي أمر إسلامه عن أمه وأبيه وزوجته وبنيه، وأحياناً كان يدعوا المقربين إليه ممن يثق بهم ويتوسم بهم الخير في قبول الدعوة الإسلامية إذا ما عرضها عليه.
وهكذا فإن دعوة الإمام المهدي (عليه السلام) لا بد أن تمر بهذه المرحلة وهي مرحلة الدعوة السرية لكسب الأنصار وأعدادهم، وصنع قوم موحدون في تلك المجتمعات المشركة.
أما السبب الثاني والذي له ارتباط بالسبب الأول فهو إن الإمام المهدي (عليه السلام) غائب ولا يستطيع بنفسه إقامة تلك الدعوة بشكل مباشر، وعليه وجب وجود شخص ينوب عنه ويمثله في أداء هذه المهمة.
وهذا الداعي هو الآخر له شبه بجده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فهو من سيقوم بالدعوة السرية للإمام المهدي (عليه السلام) وللإسلام الجديد الذي سيأتي به وكما سبقت الإشارة، فإذا عرف شخص الداعي ولم تكن دعوته سرية فإن أعداء الإمام المهدي سيحاولون تتبعه وتقصي أخباره، ومن ثم القبض عليه ظناً منهم إن ذلك سيوصلهم إلى غايتهم وهي القبض على الإمام المهدي (عليه السلام) والله موهن كيد الكافرين.
فالداعي سيقوم بدعوة الناس سراً إلى أمر الإمام المهدي (عليه السلام) ويبشرهم بقرب القيام المقدس ويحملهم بالتالي على تهيئة أنفسهم استعداداً لذلك اليوم الموعود ونصرة إمامهم وإعلان البيعة والطاعة له. وسوف يعمل في سنوات الدعوة السرية على صنع قوم موحدين أقوياء يؤمنون بالله وبالإمام المهدي (عليه السلام)، وإن دعوته هي دعوة الحق التي جاءت من عند الحق سبحانه، وتهيئتهم حتى يكونوا مستعدين لمثل ما حصل في دعوة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) عقائديا وسلوكياً وجسدياً ليكونوا في اعلى مراحل الجهوزية عند إعلان الدعوة.
وخلال هذه الفترة سيجري على الأنصار الكثير من الإمتحانات والأختبارات إذ يمحص الأنصار ويغربلون ويسقط من الغربال خلق كثير، كما أشارت الرواية الشريفة، وهذا سيكون في صالح الدعوة المهدوية لأن المهم في أي دعوة إلاهية هو النوع وليس الكم.
ولما كان الإيمان لا يابه بالكثرة فإن ما يجري على أنصار الإمام المهدي (عليه السلام) في مرحلة الدعوة السرية سيكون سبباً في تمييز الأنصار الحقيقيين والمخلصين لإمام زمانهم المهدي الموعود (عليه السلام) ونبذ المنافقين والمغرضين وطلاب الدنيا ممن يلهث وراء الدينار والدرهم، لتصفوا بذلك تلك الثلة الذي يستطيع معها السيد اليماني إعلان دعوته ويكون مطمئناً لديمومتها ووصوله إلى اليقين التام بأن تلك الدعوة أصبحت من القوة بمكان تستطيع أن تظهر للعيان وأن تكون على مرأى ومسمع من الجميع.
ولما كان لزاماً إتخاذ الجانب السري في بث الدعوة، فلا بد والحال هذه أن يكون مكان انبثاق تلك الدعوة السرية وانطلاقها في مكان مشابه للمكان الذي بدأت منه دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) ليس من حيث الموقع الجغرافي ولكن من حيث أن يكون ذلك المكان محط أنظار المسلمين وخاصة الشيعة منتظرين الإمام المهدي (عليه السلام)، ويكون محلاً للعبادة ومهوى قلوب الشيعة في العالم هذا أولاً.
وثانياً أن تبدأ الدعوة السرية بكبار قادة المجتمع الشيعي لا بعوام الناس، فقد بدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) دعوته في قريش وهم سادة العرب كما هو معلوم، وسادة أهل مكة وزعمائها قال تعالى: { وانذر عشيرتك ألأقربين }( ).
وكذلك الحال بالنسبة للإمام المهدي (عليه السلام) فإنه يبدأ دعوته حينما يبدأ بعشيرته وهم الشيعة بصورة عامة والعلماء ولا سيما بني هاشم بصورة خاصة، أي لا بد أن تبدأ دعوة الإمام المهدي (عليه السلام) في الوسط العلمي لكي تعرف بين الناس وتظهر قوتها لأن عوام الناس يمكن أن يخدعوا بينما أهل العلم لا يمكن خداعهم بسهولة، وعليه فإن انبثاق الدعوة من ذلك الوسط هو حجة عليهم وحجة لصاحب الدعوة واحقية دعوته، لأنها لو كانت دعوة كاذبة لما ابتدأت بكبار القوم وعلمائهم، ولأكتفت بعوام الناس ممن يسهل تضليلهم.
أما المكان الذي تبدأ منه الدعوة السرية والذي يمثل المكان المشابه لمكة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما)والذي يجتمع فيه كبار القوم وساداتهم في المجتمع الشيعي وضمن الوسط العلمي بما فيه من علماء ورجال دين وطلاب حوزة علمية، فهذا المكان هو الكوفة ( مكة الإمام المهدي حسب التأويل )( ).
ومما يدل على وجود دعوة وأنصار في الكوفة ما ورد عن الحسين بن عطاء عن أبي بصير عن الإمام ابي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: ( إن لولد فلان في مسجدكم يعني مسجد الكوفة لوقعة في يوم عروبة يقتل فيها أربعة آلاف من باب الفيل إلى أصحاب الصابون فإياكم وهذا الطريق فاجتنبوه وأحسنهم حالاً من أخذ بدرب الأنصار )( ).
والمقصود بدرب الانصار هنا هو انصار المهدي (عليه السلام) مما يدل على وجود هؤلاء الانصار في خضم تلك الاحداث، وان لهم دعوة سرية تكون في الكوفة لتنتشر الى ما يجاورها من المدن الاخرى لتشمل العراق بأسره، الذي يمثل عاصمة الإمام المهدي (عليه السلام) عند قيامه المقدس، وهؤلاء الأنصار سيكونون تحت قيادة وإمرة السيد اليماني الذي يقوم بجمعهم وتكوين القاعدة الصلبة منهم.
الدعوة العلنية
من المعلوم ان أي دعوة سرية قديماً أو حديثاً لا بد لها أن تتحول إلى دعوة علنية لغرض تحقيق أهدافها التي قامت من أجلها، وهذه هي السنن الإلهية التي تعبد الله تعالى بها الأنبياء كنبي الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فبعد انتهاء مرحلة الدعوة السرية أمره الله أن يجهر بدعوته ويعلنها للناس كما في قوله تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }( ).
وهكذا بدأ مرحلة الدعوة العلنية التي أعلن فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) دعوته المباركة كما أمره الله عز وجل بإعلانها في قريش ومكة والمدن المجاورة، ففعل (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) ما أمر به واعلن الدعوة عند بيت الله الحرام، وقد أحاط به أصحابه، ومحاولة رجال قريش صد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) بقتله هو وأصحابه ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيل، فقاموا بإتهام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) بشتى الإتهامات لأنهم فشلوا في قتله مادياً فحاولوا قتله معنوياً، بإلصاق التهم والأكاذيب به وحاولوا قتل شخصيته لدى الناس حتى لا يؤمن به أحد.
وهذه سنة من سنن الله تعالى في أنبياءه ورسله وأولياءه حيث يقوم أعداء الله بكيل التهم والأراجيف الباطلة وإثارة الشبهات حول ذواتهم المقدسة ورميهم بالباطل، ووصفهم بالكذب والسفاهة والسحر والجنون والجنة، وما إلى ذلك من الأباطيل، فإذا ما أستطاعوا أن يقنعوا أحداً ما بأباطيلهم تلك نجحوا في قتل شخصية ذلك النبي.
فهذا نبي الله نوح (عليه السلام) نسبوه إلى الضلالة قال تعالى حكاية عن ذلك: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }( ).
أما نبي الله هود (عليه السلام) فنسبوه إلى الكذب قال تعالى حكاية عنهم {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }( ).
وهذ نبي الله موسى (عليه السلام) اتهموه بالسحر قال تعالى: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }( ).
كما إن أعداء الله إتهموا نبي الله عيسى (عليه السلام) بشتى الإتهامات التي لا يقوى اللسان على التلفظ بها، وكيف إنه ولد من غير أب، وما إلى ذلك من الأباطيل والتهم التي حاولوا بها قتل شخصيات الأنبياء وتسقيطهم في نظر الناس معنوياً حاشاهم من ذلك.
أما النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فإنه تعرض للكثير من التهم والأباطيل وتعرض للضغط وبشتى الوسائل لغرض ثنيه عن دعوته ونبذها ومنعه من مواصلتها حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) عن نفسه: ( ما أوذي نبي مثل ما أوذيت )( ).
وأيضاً اتهمه كفار قريش بالكذب والجنون والسحر كما في قوله تعالى حكاية عن قولهم في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما): {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ }( )
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }( )
وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }( ).
وحاولوا بذلك قتل شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) والحط منه في نظر الناس وأتباعه لكي لا يؤمنون به، وهذا من أشد ما لاقاه الأنبياء من اقوامهم، لكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) لم يأبه بهم وأظهره الله عليهم ونصره ونشر دعوته وأظهر أمره، فنشر الخبر في كل أنحاء مكة وما حولها من المدن عن أمر الدين الجديد.
وأخذ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) يبشرون القوافل القادمة إلى مكة للتجارة بالدعوة، وهكذا إنتشرت الدعوة المحمدية إنتشاراً واسعاً وسريعاً، وكثر أتباع الدين الجديد ومعتنقيه الذين وجدوا فيه ضالتهم، مما حدى بسادة مكة إلى إتباع إسلوب آخر معهم بعد فشلهم في محاولة إلصاق التهم بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فقام مشركوا قريش بالتعرض لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) وإلقاء القبض عليهم وتعذيبهم وأحياناً يصل الأمر إلى قتلهم لأجبارهم على ترك ذلك الدين الجديد، مما حدى بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) بعد ذلك الضغط المتواصل الذي وصل إلى حد محاولة إغتياله وقتله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) أضطر والحال هذه إلى أعطاء أوامره للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة ( يثرب ) وبإذن الله عز وجل.
علماً إن هذه الهجرة هي الثانية لهم فقد سبقتها قبل ذلك هجرة إلى الحبشة ، فكانت هجرة عامة هاجر بها المسلمون كلهم إلى يثرب مدينة الرسول والتي سميت بالمدينة المنورة.
تعليق