سيرة حياة السيد القحطاني
لا إله إلا الله الملك الحق المبين الذي علا فقهر وبطن فخبر وعصي فغفر حصن المؤمنين وملجأ الهاربين وغياث المستغيثين ومبير الظالمين ومهلك المتجبرين وناصر أولياءه يوم الدين ونحمده فوق حمد الحامدين على آلاءه المتواصلة ونعمه المترادفة الذي خلق الإنسان وجعله خليفته في أرضه فامتحنه بالطاعة والصبر والقناعة وجعل له دلائل تدل عليه وعلامات تشير إليه، ليهتدي الخلق إلى نوره وينتهلوا من عذب معينه ويتجنبوا سخطه ونقمته ويحذروا ناره وعذابه، وجعل أكبر علاماته إليه وأدلها عليه رسله وأنبياءه ليقيموا له حججه على خلقه ويدلونهم على طريق مرضاته وإرادته، فتتابعت الرسل رسول بعد رسول ونبي بعد نبي وحجة بعد حجة {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } فكلما اضمحل الدين وضعف في نفوس العالمين، جدد الله تعالى طريق الحق بإرسال رسول من عنده يقوّم به الاعوجاج السالف ويظهر الحق المندثر ليَظهر النور ويعم من جديد .
ورغم الصعوبات التي يواجهها رسل الله في إعادة الحق إلى نصابه، فالأمم تتبَع ما اعتادت عليه وإن كان غاية في البعد عن الحق قال تعالى {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } فكلما جاء نبي أو حجة من الله لاقى ما لاقى من قومه من العذاب والصدود والتكذيب والتعذيب والجحود، فالكل رافضين للتغيير وإن كان حق يقين قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }.
وخير ما شهدته هذه الأرض من الرسالات السماوية هي رسالة سيد الأنبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فكان متتم للشرائع وخاتم لها، فلا نبي بعده ولا شريعة ناسخة لشريعته، فلاقى من قومه ما لم يلاقي نبي قبله حتى قال ( صلى الله عليه وآله وسلم تسليما ): ( ما أوذي نبي مثلما أوذيت ) فتحمل عبئ الرسالة وجاهد المخالفين إلى أن تمكن من نشر الدين ودخول الناس في طاعة رب العالمين فاستقامت الأمة على نهجه ولكن يأبى الله إلا أن تجري سننه في خلقه بأن تحذو هذه الأمة حذو الأمم السالفة من تغيير الشرائع وإتباع البدع والأكاذيب قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ } وجاء في تفسير هذه الآية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) حيث قال: (والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لا تخطئون طريقهم ولا تخطئكم سنة بني إسرائيل)( ).
فكان كما قال النبي فقد أُقصي الوصي وسلكت هذه الأمة مسلك أخواتها من الأمم السالفة من تحريف الدين وسن البدع في شريعة رب العالمين وإماتة السنن وعاش أولياء الله مقهورين مستضعفين ليس لهم سامع ولا لإرادتهم طائع فبقوا صابرين بين قتيل وأسير ومسموم وسجين والأمة مسترسلة في غيها وانحرافها عن الصراط القويم .
وشاء الله أن تكون سنته في آخر حججه أن يغيبه عن الناظرين وجعل له نوافذ يشرق من خلالها على أمة سيد المرسلين فلا بد أن تجري فيهم هذه السنة لا محالة لأن الناس مولعة بالجهالة، فالأمة بدلاً من أن تستنير بالنور الداخل إليهم من الكوة ليبصروا الطريق راحوا يضعون الحجب والموانع التي جعلوها تحول بين الناس ونور الحجة لأنهم لا يريدون أن يستمعوا لمن نصبهم الإمام سبلاً للوصول إليه وكأن لسان حالهم يقول: { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }.
وبذلك قد شابهوا من كان قبلهم من المكذبين والرافضين لاختيار رب العالمين، فكان الاعتراض ظاهر على من اختارهم الإمام أبواباً له، لأن الناس يريدون أن يضع لهم الإمام من يناسب أهواهم الفارغة وعقولهم الخاوية، فاعترضوا على السفراء لكونهم من عوام الناس وبسطائهم فمنهم الخلال الذي يبيع الخل والسمان فكيف يقتنع الناس بأن يكون السفير من البسطاء، فلم يرضوا بما أراد الله ونسوا أن الأمر له وحده يختار من يريد قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
فكان الناس لا يسألون السفير بل يسألون الفقيه ، فأصبحت أبواب الإمام مهجورة فلا سؤال ولا سائل وخير شاهد على ذلك قلة التواقيع التي خرجت على طول فترة الغيبة الصغرى من الناحية المقدسة، والتي امتدت لأكثر من سبعين سنة وهي فترة طويلة فلو جمعت تلك التواقيع على طول تلك الفترة لما كانت كتيب فضلاً عن أن تكون كتاب، فكانت الأمة هي التي حكمت على إمامها بالغيبة كما هُجر الأولياء طوال الزمان وهُجر كذلك القرآن فلا تكاد تجد في أوساط الدين درساً من دروس القرآن ولا لأحكام تلاوته فضلا عن تفسيره، فحقق إبليس اللعين وعده المشئوم بقوله {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } فوسوس للناس هو وأعوانه ترك إمامهم وإقعاده عن القيام بالأمر لأنه (عليه السلام) لا يقوم حتى يجتمع له الأنصار والأعوان فكان الغياب لازماً لهذه الأمة لأنهم تركوا إمامهم فاستحقوا غضب الجبار والسقوط في النار.
قال أبو جعفر(عليه السلام): (إذا غضب الله تبارك وتعالى على خلقه نحانا عن جوارهم )( ).
فعبد القوم أهوائهم ونتاج عقولهم كما عبد بنو إسرائيل العجل اللعين وأبدلوه برب العالمين، ومات الحق وظهر الباطل وكأن هذه الأمة شابهت بأفعالها أفعال أخواتها من الأمم بالبقاء على الباطل ووصلوا إلى النقطة المنحطة التي يكون بعدها ظهور الحق، ليتم الله وعده بحجته ويظهره على الدين كله ولو كره المشركون وسيكون المجدد للحق والمنقذ من هذه الجهالة في زمننا هو الإمام المهدي (عليه السلام) .
وبما إن الأمة قد ابتعدت كثيراً عن جادة الصواب والحق فيكون من الصعب قبول الإمام ودون تمهيد لذلك المقدم المبارك، فلا بد أن يبعث إلى هذه الأمة رسلاً من عنده يمهدون له الطريق ويحاولون تغيير بعض المسارات التي يصل الناس من خلالها إلى حال الاستعداد لقبول الحق، وهؤلاء الرسل المبعوثين من قبله (عليه السلام) يكونون بمراتب ومهام متباينة فيأتي الأمر بالتدريج إلى أن يصل إلى آخر ممهد والذي يكون هو الممهد الرئيسي الذي يوصل الأمة إلى حالة الاستعداد والتهيوء لقبول وتحمل أمر الله وأمر وليه وخليفته في أرضه المهدي (عليه السلام) وخير شاهد ما ورد في القرآن في ذكر هذا المعنى قال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} فهؤلاء الرسل المعنيين في الآية يكون انطباقهم في زماننا على رسل الإمام إلى الناس قبل مقدمه المبارك، وكذلك ما جاء في الكتاب المقدس في مَثَل الكرامين فقد شبّه عيسى (عليه السلام) الإمام المهدي (عليه السلام) بصاحب الكرم (العنب) الذي غاب عن أرضه وعنبه لوقت طويل وأوكل الأمر إلى قوم ليرعوا أرضه إلى أن يعود من سفره وعندما حان وقت الحصاد بدأ بإرسال هؤلاء الرسل الذين يكونون بمثابة الممهدين الذين يسبقونه، وبعد ذلك يكون مقدمه المبارك الذي يقطع فيه تلك الرؤوس الخائنة التي رفضت تسليم الأمانة إلى أهلها فقد جاء في الإنجيل: (وابتدأ يقول للشعب هذا المثل إنسان غرس كرماً وسلمه إلى كرامين وسافر زمانا ًطويلاً وفي الوقت أرسل إلى الكرامين عبداً لكي يعطوه من ثمر الكرم فجلده الكرامون وأرسلوه فارغاً فعاد وأرسل عبداً آخر فجلدوا ذلك أيضاً وأهانوه وأرسلوه فارغا ثم عاد فأرسل ثالثاً فجرحوا هذا أيضاً وأخرجوه، فقال صاحب الكرم ماذا افعل أرسل ابني الحبيب لعلهم إذا رأوه يهابون فلما رآه الكرامون تآمروا فيما بينهم قائلين هذا هو الوارث هلموا نقتله لكي يصير لنا الميراث فأخرجوه خارج الكرم وقتلوه فماذا يفعل بهم صاحب الكرم يأتي ويهلك هؤلاء الكرامين ويعطي الكرم لآخرين فلما سمعوا قالوا حاشا فنظر إليهم وقال إذا ما هو هذا المكتوب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية كل من يسقط على ذلك الحجر يترضرض ومن سقط هو عليه يسحقه فطلب رؤساء الكهنة والكتبة ان يلقوا الأيادي عليه في تلك الساعة ولكنهم خافوا الشعب لأنهم عرفوا إنه قال هذا المثل عليهم)( ).
وكذلك فإن نبوة يحيى (عليه السلام) كانت تمهيداً لقدوم المسيح وكان يبشر به بين الناس ليهيئهم لقبوله، فجاب السهول والقفار يبشر بذلك المولود الذي يخلص العباد من عبادة العباد فقد جاء في الإنجيل: (وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».
وَيُوحَنَّا( ) هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا. حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ، وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ.
فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: «يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ.
وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ.
وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفأُ».
حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!»
فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ.
فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ)( ).
يتبع
لا إله إلا الله الملك الحق المبين الذي علا فقهر وبطن فخبر وعصي فغفر حصن المؤمنين وملجأ الهاربين وغياث المستغيثين ومبير الظالمين ومهلك المتجبرين وناصر أولياءه يوم الدين ونحمده فوق حمد الحامدين على آلاءه المتواصلة ونعمه المترادفة الذي خلق الإنسان وجعله خليفته في أرضه فامتحنه بالطاعة والصبر والقناعة وجعل له دلائل تدل عليه وعلامات تشير إليه، ليهتدي الخلق إلى نوره وينتهلوا من عذب معينه ويتجنبوا سخطه ونقمته ويحذروا ناره وعذابه، وجعل أكبر علاماته إليه وأدلها عليه رسله وأنبياءه ليقيموا له حججه على خلقه ويدلونهم على طريق مرضاته وإرادته، فتتابعت الرسل رسول بعد رسول ونبي بعد نبي وحجة بعد حجة {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } فكلما اضمحل الدين وضعف في نفوس العالمين، جدد الله تعالى طريق الحق بإرسال رسول من عنده يقوّم به الاعوجاج السالف ويظهر الحق المندثر ليَظهر النور ويعم من جديد .
ورغم الصعوبات التي يواجهها رسل الله في إعادة الحق إلى نصابه، فالأمم تتبَع ما اعتادت عليه وإن كان غاية في البعد عن الحق قال تعالى {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } فكلما جاء نبي أو حجة من الله لاقى ما لاقى من قومه من العذاب والصدود والتكذيب والتعذيب والجحود، فالكل رافضين للتغيير وإن كان حق يقين قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }.
وخير ما شهدته هذه الأرض من الرسالات السماوية هي رسالة سيد الأنبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فكان متتم للشرائع وخاتم لها، فلا نبي بعده ولا شريعة ناسخة لشريعته، فلاقى من قومه ما لم يلاقي نبي قبله حتى قال ( صلى الله عليه وآله وسلم تسليما ): ( ما أوذي نبي مثلما أوذيت ) فتحمل عبئ الرسالة وجاهد المخالفين إلى أن تمكن من نشر الدين ودخول الناس في طاعة رب العالمين فاستقامت الأمة على نهجه ولكن يأبى الله إلا أن تجري سننه في خلقه بأن تحذو هذه الأمة حذو الأمم السالفة من تغيير الشرائع وإتباع البدع والأكاذيب قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ } وجاء في تفسير هذه الآية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) حيث قال: (والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لا تخطئون طريقهم ولا تخطئكم سنة بني إسرائيل)( ).
فكان كما قال النبي فقد أُقصي الوصي وسلكت هذه الأمة مسلك أخواتها من الأمم السالفة من تحريف الدين وسن البدع في شريعة رب العالمين وإماتة السنن وعاش أولياء الله مقهورين مستضعفين ليس لهم سامع ولا لإرادتهم طائع فبقوا صابرين بين قتيل وأسير ومسموم وسجين والأمة مسترسلة في غيها وانحرافها عن الصراط القويم .
وشاء الله أن تكون سنته في آخر حججه أن يغيبه عن الناظرين وجعل له نوافذ يشرق من خلالها على أمة سيد المرسلين فلا بد أن تجري فيهم هذه السنة لا محالة لأن الناس مولعة بالجهالة، فالأمة بدلاً من أن تستنير بالنور الداخل إليهم من الكوة ليبصروا الطريق راحوا يضعون الحجب والموانع التي جعلوها تحول بين الناس ونور الحجة لأنهم لا يريدون أن يستمعوا لمن نصبهم الإمام سبلاً للوصول إليه وكأن لسان حالهم يقول: { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }.
وبذلك قد شابهوا من كان قبلهم من المكذبين والرافضين لاختيار رب العالمين، فكان الاعتراض ظاهر على من اختارهم الإمام أبواباً له، لأن الناس يريدون أن يضع لهم الإمام من يناسب أهواهم الفارغة وعقولهم الخاوية، فاعترضوا على السفراء لكونهم من عوام الناس وبسطائهم فمنهم الخلال الذي يبيع الخل والسمان فكيف يقتنع الناس بأن يكون السفير من البسطاء، فلم يرضوا بما أراد الله ونسوا أن الأمر له وحده يختار من يريد قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
فكان الناس لا يسألون السفير بل يسألون الفقيه ، فأصبحت أبواب الإمام مهجورة فلا سؤال ولا سائل وخير شاهد على ذلك قلة التواقيع التي خرجت على طول فترة الغيبة الصغرى من الناحية المقدسة، والتي امتدت لأكثر من سبعين سنة وهي فترة طويلة فلو جمعت تلك التواقيع على طول تلك الفترة لما كانت كتيب فضلاً عن أن تكون كتاب، فكانت الأمة هي التي حكمت على إمامها بالغيبة كما هُجر الأولياء طوال الزمان وهُجر كذلك القرآن فلا تكاد تجد في أوساط الدين درساً من دروس القرآن ولا لأحكام تلاوته فضلا عن تفسيره، فحقق إبليس اللعين وعده المشئوم بقوله {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } فوسوس للناس هو وأعوانه ترك إمامهم وإقعاده عن القيام بالأمر لأنه (عليه السلام) لا يقوم حتى يجتمع له الأنصار والأعوان فكان الغياب لازماً لهذه الأمة لأنهم تركوا إمامهم فاستحقوا غضب الجبار والسقوط في النار.
قال أبو جعفر(عليه السلام): (إذا غضب الله تبارك وتعالى على خلقه نحانا عن جوارهم )( ).
فعبد القوم أهوائهم ونتاج عقولهم كما عبد بنو إسرائيل العجل اللعين وأبدلوه برب العالمين، ومات الحق وظهر الباطل وكأن هذه الأمة شابهت بأفعالها أفعال أخواتها من الأمم بالبقاء على الباطل ووصلوا إلى النقطة المنحطة التي يكون بعدها ظهور الحق، ليتم الله وعده بحجته ويظهره على الدين كله ولو كره المشركون وسيكون المجدد للحق والمنقذ من هذه الجهالة في زمننا هو الإمام المهدي (عليه السلام) .
وبما إن الأمة قد ابتعدت كثيراً عن جادة الصواب والحق فيكون من الصعب قبول الإمام ودون تمهيد لذلك المقدم المبارك، فلا بد أن يبعث إلى هذه الأمة رسلاً من عنده يمهدون له الطريق ويحاولون تغيير بعض المسارات التي يصل الناس من خلالها إلى حال الاستعداد لقبول الحق، وهؤلاء الرسل المبعوثين من قبله (عليه السلام) يكونون بمراتب ومهام متباينة فيأتي الأمر بالتدريج إلى أن يصل إلى آخر ممهد والذي يكون هو الممهد الرئيسي الذي يوصل الأمة إلى حالة الاستعداد والتهيوء لقبول وتحمل أمر الله وأمر وليه وخليفته في أرضه المهدي (عليه السلام) وخير شاهد ما ورد في القرآن في ذكر هذا المعنى قال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} فهؤلاء الرسل المعنيين في الآية يكون انطباقهم في زماننا على رسل الإمام إلى الناس قبل مقدمه المبارك، وكذلك ما جاء في الكتاب المقدس في مَثَل الكرامين فقد شبّه عيسى (عليه السلام) الإمام المهدي (عليه السلام) بصاحب الكرم (العنب) الذي غاب عن أرضه وعنبه لوقت طويل وأوكل الأمر إلى قوم ليرعوا أرضه إلى أن يعود من سفره وعندما حان وقت الحصاد بدأ بإرسال هؤلاء الرسل الذين يكونون بمثابة الممهدين الذين يسبقونه، وبعد ذلك يكون مقدمه المبارك الذي يقطع فيه تلك الرؤوس الخائنة التي رفضت تسليم الأمانة إلى أهلها فقد جاء في الإنجيل: (وابتدأ يقول للشعب هذا المثل إنسان غرس كرماً وسلمه إلى كرامين وسافر زمانا ًطويلاً وفي الوقت أرسل إلى الكرامين عبداً لكي يعطوه من ثمر الكرم فجلده الكرامون وأرسلوه فارغاً فعاد وأرسل عبداً آخر فجلدوا ذلك أيضاً وأهانوه وأرسلوه فارغا ثم عاد فأرسل ثالثاً فجرحوا هذا أيضاً وأخرجوه، فقال صاحب الكرم ماذا افعل أرسل ابني الحبيب لعلهم إذا رأوه يهابون فلما رآه الكرامون تآمروا فيما بينهم قائلين هذا هو الوارث هلموا نقتله لكي يصير لنا الميراث فأخرجوه خارج الكرم وقتلوه فماذا يفعل بهم صاحب الكرم يأتي ويهلك هؤلاء الكرامين ويعطي الكرم لآخرين فلما سمعوا قالوا حاشا فنظر إليهم وقال إذا ما هو هذا المكتوب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية كل من يسقط على ذلك الحجر يترضرض ومن سقط هو عليه يسحقه فطلب رؤساء الكهنة والكتبة ان يلقوا الأيادي عليه في تلك الساعة ولكنهم خافوا الشعب لأنهم عرفوا إنه قال هذا المثل عليهم)( ).
وكذلك فإن نبوة يحيى (عليه السلام) كانت تمهيداً لقدوم المسيح وكان يبشر به بين الناس ليهيئهم لقبوله، فجاب السهول والقفار يبشر بذلك المولود الذي يخلص العباد من عبادة العباد فقد جاء في الإنجيل: (وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: «تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».
وَيُوحَنَّا( ) هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا. حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ، وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ.
فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: «يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ.
وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ.
وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفأُ».
حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!»
فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ.
فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ)( ).
يتبع
تعليق