منقول من موسوعة القائم ( من فكر أبي عبد الله الحسين القحطاني)
فلسفة الدعوة والداعي
الداعي مفهوم شاع وانشر منذ قديم الزمان وإلى وقتنا الحاضر، حيث نسمع بين الفينة والأخرى ظهور الداعي الفلاني في هذا المكان أو ذاك من أرض المعمورة.
إن الأصل في الدعوة قائم على أساس وجود مجموعة من المفاهيم والعقائد والمبادئ التي يقوم الداعي ببثها وبيانها على أمل نشرها بين الناس، ومن ثم الدعوة إلى طاعته من خلال ما جاء في هذه المفاهيم والعقائد والمبادئ والتي هي في أصلها طاعة لصاحبها، لأن الداعي إنما يدعوا إلى غيره وليس إلى نفسه - وهذا ما سنبينه لاحقاً- علماً إن روايات أهل البيت (عليهم السلام ) تبين أن الله عز وجل هو أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته وإتباع أمره.
فقد ورد عن أبي عمرو الزبيدي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: (...انه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته وأتباع أمره فبدأ بنفسه ثم ثنى برسوله فقال {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } يعني بالقرآن ولم يكن داعيا إلى الله عز وجل من خالف أمر الله ويدعو إليه بغير ما أمر به في كتابه والذي أمر أن لا يدعى إلا به.
ثم ثبت بالدليل بكتابه أيضاً فقال تبارك وتعالى {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }.
أي يدعو ( ويبشر المؤمنين ) ثم ذكر من أذن له بالدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه فقال {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
ثم اخبر عن هذه الأمة وممن هي وإنها من ذرية إبراهيم وإسماعيل من أهل البيت الذي أخبر عنهم في كتابه إنه اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، الذين وصفناهم قبل هذا فصفة أمة إبراهيم الذين عناهم الله سبحانه وتعالى في قوله: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.
يعني أول من اتبعه على الإيمان به والتصديق له بما جاء به من عند الله عز وجل من الأمة التي بعث فيها ومنها وإليها قبل الخلق ممن لم يشرك بالله قط ولم يلبس إيمانه بظلم وهو الشرك ثم ذكر أتباع نبيه وأتباع هذه الأمة التي أمرها في كتابه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلها داعية إليه وأذن لها في الدعاء فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }.
ثم وصف أتباع نبيه من المؤمنين فقال عز وجل: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .
وقال {يوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
يعني أولئك المؤمنين وقال { قد افلح المؤمنون } ثم حلاهم ووصفهم كي لا يطمع في اللحاق بهم إلا من كان منهم فقال فيما حلاهم ووصفهم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (- الكافي ج5 ص13, تهذيب الاحكام ج6ص127 ، وسائل الشيعة ج15ص34
).
ومن الرواية المتقدمة نستنتج عدة أمور أولها:
إن الله عز وجل هو أول من دعا, ودعواه كانت لنفسه، فعندما يدعو يدعو لنفسه وإلى طاعة أمره واجتناب نهيه.
أما الأمر الثاني:
فإن الله عز وجل عندما خلق البشرية كان لزاماً أن يكون هنالك وسيلة اتصال بينه وبين خلقه وهذه الوسيلة هي الأنبياء, فالأنبياء هم دعاة إلى الله عز وجل وهم من يحملون الناس على الطريق الصحيح المؤدي إلى الله عز وجل، بما فيه الأمر بترك معصية الله والأمر بطاعته والامتثال لأوامره فما نوح وهود وصالح وغيرهم من الأنبياء (عليهم السلام ) إلا مصاديق هذا الأمر.
الأمر الثالث:
إن الرواية المتقدمة أكدت إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) هو الداعي الثاني بعد الله عز وجل, وإن كان الله جل وعلا يدعو إلى نفسه فإن المصطفى الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
الأمر الرابع:
إنهم الدعاة إلى الله عز وجل وكانوا يبشرون ويدعون إلى الإسلام المحمدي الذي هو شخص الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) الذي يمثل الداعي الرئيسي والأول إلى الله عز وجل.
ثم إن الدعوة لا تنقطع باستشهاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) بل هي مستمرة ما دام لله حجة في هذه الأرض, وعليه وجب أن يكون بعده (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) دعاة, والدعاة هم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) والتي عبرت عنهم الرواية الآنفة الذكر بذرية إبراهيم وإنهم من أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا, ومن المعلوم إن هذه الآية نزلت في أهل البيت ( عليهم السلام ) فكانوا هم الدعاة إلى الله عز وجل وهذا ما سيتبين في الصفحات اللاحقة من هذا المبحث.
الأمر الخامس:
إن هناك بعد الأئمة (عليهم السلام) دعاة والذين عبرت عنهم الرواية الآنفة الذكر بالمؤمنين من أتباع النبي محمد والأئمة (عليهم السلام)، فهم أيضاً دعاة إلى الله عز وجل ولعل في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) : ( كونوا لنا دعاة صامتين ) خير دليل على هذا المعنى.
وهنا تثبت حقيقة وجود داعي من المؤمنين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) والأئمة (عليهم السلام).
ولو جئنا إلى هذه الدعوة فهي تدعوا إلى الله عز وجل ولكن يعبر عنها بأكثر من معنى، فمرة يعبر عن الداعي بأنه ( داعي الله )، وهذه العبارة مطروحة ومطروقة فنحن في زيارتنا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) نقول:
( لبيك داعي الله ان كان لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري...)( بحار الأنوار ج98 ص336).
أي إن الحسين (عليه السلام) هو داعي إلى الله عز وجل بصورة مباشرة وهناك صنف آخر والذي عبرت عنه الرواية الآنفة الذكر ( كونوا لنا دعاة صامتين) فهم يدعون إلى الله عن طريق الدعاة وإلى من هم الوسيلة إلى الله وهم لأئمة المعصومون (عليهم السلام), وهذا المعنى أكد عليه القرآن وندب إليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( ).
والوسيلة هم أهل البيت (عليهم السلام).
وعليه فهؤلاء الدعاة يدعون إلى الله عز وجل بصورة غير مباشرة وهي الدعوة للأئمة (عليهم السلام) التي هي في أساسها الدعوة إلى الله عز وجل.
ومن المعلوم إن الداعي في هذا الزمان وبحسب ما تقدم من تدريج وتصنيف هو الإمام المهدي (عليه السلام) فهو الداعي إلى الله في هذا الزمان، وبما إنه في حال غيبة لا يستطيع معها مزاولة هذه المهمة بشكل مباشر، لذا وجب وجود من يقوم بهذه المهمة نيابة عنه وبأمر منه وهذا الشخص من الفئة الخامسة ( المؤمنين ) الذين هم أيضاً من الدعاة إلى الله عز وجل.
ومهمة هذا الشخص هي شبيهة بمهمة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فهو من جهة داعي يدعوا إلى الله بأمر من الإمام المهدي (عليه السلام) كما بينا.
ومن جهة أخرى فإن هذا الشخص يدعو إلى سبيل الله ( الإمام المهدي) (عليه السلام), ودعوته تكون منصبة في هذا المجال.
وهذا الداعي شخصه ومصداقه وماهية دعوته سنتابعها في الصفحات اللاحقة من هذا البحث إن شاء الله تعالى.
ومن الجدير بالذكر إن في قبال دعوة الحق هناك دوماً دعوة للباطل وداعي للباطل, وما وجدت دعوة الباطل تلك وصاحبها إلا لمعرفة دعوة الحق وأصحابها وبيانها للناس، فقد قيل ( عرفت الأمور بأضدادها) .
علماً إن هذا البحث يتركز على معرفة داعي الإمام المهدي (عليه السلام) ودعوته التي يدعوا الناس إليها قبيل قيام الحجة بن الحسن (عليه السلام).
فضلاً عن ذلك أشارت الرواية المتقدمة إلى أمر بغاية الأهمية بالنسبة للدعوة والداعي, وهذا الأمر هو ان يكون الداعي ممتثلاً لأوامر الله تعالى, ومن خالف أمره عز وجل ودعا بغير ما أمره به الله فإنه ليس بداعي إلى الله, ثم إن من دعا إلى نفسه أو دعا إلى غيره بغير إذن من الله فإنه ليس بداعي أيضاً.
وما يميز الداعي إن يكون له نهج يسير وفقه وهذا النهج متجسد في القرآن الكريم الذي يدعو إلى ما هو خير وصالح لأمر العباد, ومن ثم يدعو إلى الله سبحانه, وعليه فالداعي يجب أن يدعو بالقرآن وبما جاء به, ومن لم يفعل فليس بداعي أيضاً.
وهذا الشيء يلفت النظر إلى أمر مهم وهو إن أحد أهم صفات الداعي هو معرفته بالقرآن وأحكامه فضلاً عن معرفته بتفسيره وتأويله، ليكون قادراً على دعوة الناس إلى الله عز وجل متمكناً من دعوته تلك، ويكون على بصيرة من أمره وهذا ما لا يكون إذا كان الداعي غير ملم بالقرآن وما يتعلق به من الأمور.
وهذا الأمر هو أحد أهم الأشياء التي تدل على صدق دعوة الداعي ، فأصحاب الدعوات الإلهية المدخرين لها لا بد أن تكون لهم تلك المعرفة ومن لم يمتلك تلك المعرفة فهو ليس من أهلها وغير مؤهل لينصب نفسه داعياً إلى الله, بينما الداعي الحقيقي إلى الله تكون له صورة واضحة عن القرآن تفسيراً وتأويلاً لكي يدعو إلى المحاججة عن بينة ودليل ساطع واضح .
ثم إن على الداعي أن يجادلهم بالتي هي أحسن، أي أن يقوم بدعوة الناس بالحكمة والموعضة الحسنة والحجج البالغة, ومناظرتهم بالقرآن وحملهم على الإيمان به بالترغيب بما فيه, والتزهيد عما سواه.
وقد ورد في تفسير هذه الآية {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }( ).
أي ناظرهم بالقرآن بأحسن ما عندك من الحجج وقيل هو أن يجادلهم على قدر ما يتحملونه كما جاء في الحديث ( أمرنا معاشر الأنبياء أن نحدث الناس على قد عقولهم )( بحار الأنوار ج18 ص160).
وهذا شأن الدعوات إلى الله فإن استجاب لهم الناس كان بها وإلا فسينابذهم ويتركهم فيما هم فيه من العمى والكفر حتى يأذن الله تعالى بمناجزتهم وحربهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
فلسفة الدعوة والداعي
الداعي مفهوم شاع وانشر منذ قديم الزمان وإلى وقتنا الحاضر، حيث نسمع بين الفينة والأخرى ظهور الداعي الفلاني في هذا المكان أو ذاك من أرض المعمورة.
إن الأصل في الدعوة قائم على أساس وجود مجموعة من المفاهيم والعقائد والمبادئ التي يقوم الداعي ببثها وبيانها على أمل نشرها بين الناس، ومن ثم الدعوة إلى طاعته من خلال ما جاء في هذه المفاهيم والعقائد والمبادئ والتي هي في أصلها طاعة لصاحبها، لأن الداعي إنما يدعوا إلى غيره وليس إلى نفسه - وهذا ما سنبينه لاحقاً- علماً إن روايات أهل البيت (عليهم السلام ) تبين أن الله عز وجل هو أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته وإتباع أمره.
فقد ورد عن أبي عمرو الزبيدي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: (...انه تبارك وتعالى أول من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته وأتباع أمره فبدأ بنفسه ثم ثنى برسوله فقال {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } يعني بالقرآن ولم يكن داعيا إلى الله عز وجل من خالف أمر الله ويدعو إليه بغير ما أمر به في كتابه والذي أمر أن لا يدعى إلا به.
ثم ثبت بالدليل بكتابه أيضاً فقال تبارك وتعالى {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }.
أي يدعو ( ويبشر المؤمنين ) ثم ذكر من أذن له بالدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه فقال {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
ثم اخبر عن هذه الأمة وممن هي وإنها من ذرية إبراهيم وإسماعيل من أهل البيت الذي أخبر عنهم في كتابه إنه اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، الذين وصفناهم قبل هذا فصفة أمة إبراهيم الذين عناهم الله سبحانه وتعالى في قوله: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.
يعني أول من اتبعه على الإيمان به والتصديق له بما جاء به من عند الله عز وجل من الأمة التي بعث فيها ومنها وإليها قبل الخلق ممن لم يشرك بالله قط ولم يلبس إيمانه بظلم وهو الشرك ثم ذكر أتباع نبيه وأتباع هذه الأمة التي أمرها في كتابه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلها داعية إليه وأذن لها في الدعاء فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }.
ثم وصف أتباع نبيه من المؤمنين فقال عز وجل: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .
وقال {يوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
يعني أولئك المؤمنين وقال { قد افلح المؤمنون } ثم حلاهم ووصفهم كي لا يطمع في اللحاق بهم إلا من كان منهم فقال فيما حلاهم ووصفهم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (- الكافي ج5 ص13, تهذيب الاحكام ج6ص127 ، وسائل الشيعة ج15ص34
).
ومن الرواية المتقدمة نستنتج عدة أمور أولها:
إن الله عز وجل هو أول من دعا, ودعواه كانت لنفسه، فعندما يدعو يدعو لنفسه وإلى طاعة أمره واجتناب نهيه.
أما الأمر الثاني:
فإن الله عز وجل عندما خلق البشرية كان لزاماً أن يكون هنالك وسيلة اتصال بينه وبين خلقه وهذه الوسيلة هي الأنبياء, فالأنبياء هم دعاة إلى الله عز وجل وهم من يحملون الناس على الطريق الصحيح المؤدي إلى الله عز وجل، بما فيه الأمر بترك معصية الله والأمر بطاعته والامتثال لأوامره فما نوح وهود وصالح وغيرهم من الأنبياء (عليهم السلام ) إلا مصاديق هذا الأمر.
الأمر الثالث:
إن الرواية المتقدمة أكدت إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) هو الداعي الثاني بعد الله عز وجل, وإن كان الله جل وعلا يدعو إلى نفسه فإن المصطفى الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
الأمر الرابع:
إنهم الدعاة إلى الله عز وجل وكانوا يبشرون ويدعون إلى الإسلام المحمدي الذي هو شخص الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) الذي يمثل الداعي الرئيسي والأول إلى الله عز وجل.
ثم إن الدعوة لا تنقطع باستشهاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) بل هي مستمرة ما دام لله حجة في هذه الأرض, وعليه وجب أن يكون بعده (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) دعاة, والدعاة هم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) والتي عبرت عنهم الرواية الآنفة الذكر بذرية إبراهيم وإنهم من أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا, ومن المعلوم إن هذه الآية نزلت في أهل البيت ( عليهم السلام ) فكانوا هم الدعاة إلى الله عز وجل وهذا ما سيتبين في الصفحات اللاحقة من هذا المبحث.
الأمر الخامس:
إن هناك بعد الأئمة (عليهم السلام) دعاة والذين عبرت عنهم الرواية الآنفة الذكر بالمؤمنين من أتباع النبي محمد والأئمة (عليهم السلام)، فهم أيضاً دعاة إلى الله عز وجل ولعل في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) : ( كونوا لنا دعاة صامتين ) خير دليل على هذا المعنى.
وهنا تثبت حقيقة وجود داعي من المؤمنين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) والأئمة (عليهم السلام).
ولو جئنا إلى هذه الدعوة فهي تدعوا إلى الله عز وجل ولكن يعبر عنها بأكثر من معنى، فمرة يعبر عن الداعي بأنه ( داعي الله )، وهذه العبارة مطروحة ومطروقة فنحن في زيارتنا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) نقول:
( لبيك داعي الله ان كان لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري...)( بحار الأنوار ج98 ص336).
أي إن الحسين (عليه السلام) هو داعي إلى الله عز وجل بصورة مباشرة وهناك صنف آخر والذي عبرت عنه الرواية الآنفة الذكر ( كونوا لنا دعاة صامتين) فهم يدعون إلى الله عن طريق الدعاة وإلى من هم الوسيلة إلى الله وهم لأئمة المعصومون (عليهم السلام), وهذا المعنى أكد عليه القرآن وندب إليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( ).
والوسيلة هم أهل البيت (عليهم السلام).
وعليه فهؤلاء الدعاة يدعون إلى الله عز وجل بصورة غير مباشرة وهي الدعوة للأئمة (عليهم السلام) التي هي في أساسها الدعوة إلى الله عز وجل.
ومن المعلوم إن الداعي في هذا الزمان وبحسب ما تقدم من تدريج وتصنيف هو الإمام المهدي (عليه السلام) فهو الداعي إلى الله في هذا الزمان، وبما إنه في حال غيبة لا يستطيع معها مزاولة هذه المهمة بشكل مباشر، لذا وجب وجود من يقوم بهذه المهمة نيابة عنه وبأمر منه وهذا الشخص من الفئة الخامسة ( المؤمنين ) الذين هم أيضاً من الدعاة إلى الله عز وجل.
ومهمة هذا الشخص هي شبيهة بمهمة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) فهو من جهة داعي يدعوا إلى الله بأمر من الإمام المهدي (عليه السلام) كما بينا.
ومن جهة أخرى فإن هذا الشخص يدعو إلى سبيل الله ( الإمام المهدي) (عليه السلام), ودعوته تكون منصبة في هذا المجال.
وهذا الداعي شخصه ومصداقه وماهية دعوته سنتابعها في الصفحات اللاحقة من هذا البحث إن شاء الله تعالى.
ومن الجدير بالذكر إن في قبال دعوة الحق هناك دوماً دعوة للباطل وداعي للباطل, وما وجدت دعوة الباطل تلك وصاحبها إلا لمعرفة دعوة الحق وأصحابها وبيانها للناس، فقد قيل ( عرفت الأمور بأضدادها) .
علماً إن هذا البحث يتركز على معرفة داعي الإمام المهدي (عليه السلام) ودعوته التي يدعوا الناس إليها قبيل قيام الحجة بن الحسن (عليه السلام).
فضلاً عن ذلك أشارت الرواية المتقدمة إلى أمر بغاية الأهمية بالنسبة للدعوة والداعي, وهذا الأمر هو ان يكون الداعي ممتثلاً لأوامر الله تعالى, ومن خالف أمره عز وجل ودعا بغير ما أمره به الله فإنه ليس بداعي إلى الله, ثم إن من دعا إلى نفسه أو دعا إلى غيره بغير إذن من الله فإنه ليس بداعي أيضاً.
وما يميز الداعي إن يكون له نهج يسير وفقه وهذا النهج متجسد في القرآن الكريم الذي يدعو إلى ما هو خير وصالح لأمر العباد, ومن ثم يدعو إلى الله سبحانه, وعليه فالداعي يجب أن يدعو بالقرآن وبما جاء به, ومن لم يفعل فليس بداعي أيضاً.
وهذا الشيء يلفت النظر إلى أمر مهم وهو إن أحد أهم صفات الداعي هو معرفته بالقرآن وأحكامه فضلاً عن معرفته بتفسيره وتأويله، ليكون قادراً على دعوة الناس إلى الله عز وجل متمكناً من دعوته تلك، ويكون على بصيرة من أمره وهذا ما لا يكون إذا كان الداعي غير ملم بالقرآن وما يتعلق به من الأمور.
وهذا الأمر هو أحد أهم الأشياء التي تدل على صدق دعوة الداعي ، فأصحاب الدعوات الإلهية المدخرين لها لا بد أن تكون لهم تلك المعرفة ومن لم يمتلك تلك المعرفة فهو ليس من أهلها وغير مؤهل لينصب نفسه داعياً إلى الله, بينما الداعي الحقيقي إلى الله تكون له صورة واضحة عن القرآن تفسيراً وتأويلاً لكي يدعو إلى المحاججة عن بينة ودليل ساطع واضح .
ثم إن على الداعي أن يجادلهم بالتي هي أحسن، أي أن يقوم بدعوة الناس بالحكمة والموعضة الحسنة والحجج البالغة, ومناظرتهم بالقرآن وحملهم على الإيمان به بالترغيب بما فيه, والتزهيد عما سواه.
وقد ورد في تفسير هذه الآية {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }( ).
أي ناظرهم بالقرآن بأحسن ما عندك من الحجج وقيل هو أن يجادلهم على قدر ما يتحملونه كما جاء في الحديث ( أمرنا معاشر الأنبياء أن نحدث الناس على قد عقولهم )( بحار الأنوار ج18 ص160).
وهذا شأن الدعوات إلى الله فإن استجاب لهم الناس كان بها وإلا فسينابذهم ويتركهم فيما هم فيه من العمى والكفر حتى يأذن الله تعالى بمناجزتهم وحربهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
تعليق