نقد نظرية الملك الروحي من وقت الصليب
بعد ان قرانا واطلعنا سوية" على مجمل الادلة التي طرحها المفسرين من آباء الكنيسة سواء القدامى او المعاصرين وجدنا العديد من الأشكالات التي يمكن ان توجه للقائلين بهذه النظرية ، وقبل الشروع في تحديد نقاط الضعف في مبتنيات هذه العقيدة المترسخة لدى الكنيسة الآرذدوكسية واختها الكاثوليكية نحتاج ان نسلط الضوء قليلا" على تلك الحقبة الزمنية التي شهدت بزوغ ضوء تلك العقيدة في القرن الثالث الميلادي كما قلنا سابقا" في الكنيسة الشرقية في الأسكندرية ، فقد عانى المسيحيين الأوائل كما نعلم من اضطهاد كبير سواء من قبل اليهود الذين عاصروا حركة المسيح وما بعدها او من قبل الأمم الأخرى التي اضطهدتهم بالأضافة الى الحكام الرومان الذين لم يدخلوا بعد في المسيحية ونكلوا بتلاميذ المسيح الأثني عشر ، وبعد رحيلهم نكلوا بأتباع المسيح اينما ذهبوا ، لنقرأ ما كتبه الأنبا يوأنس اسقف الغربية المتنيح في كتابه عيد النوروز ، كتب كلاما" موجزا" عن تأريخ اضطهاد المسيحية ، يقول : (وأرتبط الاضطهاد بالمسيحية وهو يسير معها جنبا إلي جنب، وأحيانا يصل إلي النهاية وهو ما نقول عنه الاستشهاد، وأول اضطهاد تعرضت له المسيحية كان من اليهودية إذ ولدت المسيحية في وسط المجتمع اليهودي، ورفض اليهود السيد المسيح وصلبوه، واضطهدوا أتباعه بالقتل والتعذيب أو بالوشاية وإثارة الجماهير أو بالمقاومة الفكرية.. بعدها دخلت المسيحية الناشئة في صراع طويل مع الوثنية متمثلة في الإمبراطورية الرومانية بما لها من سلطة الدولة وقوة السلاح وقد وصل هذا الصراع إلي حد الإبادة أي الاستشهاد، وكان الصراع غير متكافئا إذ لم يكن للإيمان الجديد ما يسنده من قوة زمنية أو سلاح اللهم إلا ترس الإيمان ودرع البر وخوذة الخلاص وسيف الروح (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 6)، وأستمر الصراع حتى أوائل القرن الرابع حين قبلت الإمبراطورية الرومانية الإيمان بالمسيح وسقطت الوثنية. لقد بدأ اضطهاد المسيحية في روما علي يد نيرون في القرن الأول المسيحي وانتهي علي بعد ميل واحد من روما علي يد قسطنطين في القرن الرابع وكان القصد منه إبادة المسيحية ولكن علي العكس كان سببا في تنقيتها وإظهار فضائلها وبطولات شهدائها الأمر الذي أدي انتشارها ودخول الوثنيين في الإيمان المسيحي، وكما عبر عن ذلك العلامة ترتليانوس "دماء الشهداء بذار الكنيسة ، منذ القرن الخامس الميلادي تعود المؤرخون علي تقدير الاضطهادات التي خاضتها الدولة الرومانية ضد الكنيسة المسيحية بعشرة اضطهادات كبيرة تحت حكم عشرة أباطرة هم علي الترتيب: (نيرون – دومتيانوس – تراجان – مرقس أوريليوس – سبتيموس ساويرس – مكسيمينوس – ديسيوس – فالريان – أوريليان – دقلديانوس.) ، ولكن هذا التقسيم عرفي اصطلح عليه ولا يعني أن الاضطهادات حدثت عشر مرات فقط، لأن أكثر الفترات هدوءا كانت فيها شهداء.
لا شك ان حدوث مثل هكذا مستوى من الأضطهاد لأجل الأيمان في المسيحية سيلقي بضلاله شاء ام ابى على التفكير والتنظير وحتى المعتقد لدى عموم المسيحيين ، وربما راى المسيحيين الاوائل ان اصل هذا الأضطهاد ومنشاه ومسببه الرئيسي الفعلي انما يعود الى رؤساء الكهنة اليهود والذين كانوا اول من وقف بوجه المسيح ودعوته في اليهودية آنذاك خصوصا" ان التأريخ يذكر انهم المحرضين الأوئل لقتل المسيح واعتقاله مع تلامذته وقيامهم بالوشاية عليه وعلى اتباعه لدى الحكام الروماني هيرودس وبيلاطس ، وهذا العداء من قبل اليهود لهم جعل ردة الفعل لدى اولئك المسيحيين تقفز بكل الأتجاهات ، وان اي حركة ما في العالم عندما تواجه بشتى انواع التنكيل القاسية والأضطهاد انما يتحول ابناء تلك الحركة الى رجال ثوريين ومستقتلين في سبيل المبدا الذي يضطهدون لأجله ، وقد تصل درجة الانفعال ان يشمئز من كل فكرة وعقيدة يحملها العدو المقابل له ،خاصة" ان مملكة المسيح الموعودة في الكتاب تتحدث بشكل واضح على ارجحية كفة اليهود وابناء اسرائيل في ملك المسيح ، وهذا بالتالي يدفع الشخصية المسيحية الى محاولة النيل والانتقام ممن اضطهدهم وكذب وكفر بالمسيح وهم اليهود ، فتكون الخطوة التالية هي سحب البساط من تحتهم واقناع الناس ان المسيح لن ينقذ اليهود حيث فشلوا بالأمتحان الألهي ، بل ان المسيح قد ملك اصلا" على الصليب ومن هنا لا توجد حصة لأبناء ابراهيم كما يعدهم التوراة .
ان ما يتجلى امامنا واضحا" هو ما نراه حصل مع المسيحيين الاوائل في زمن الأضطهاد ، حيث كانت عقيدة الحكم الأرضي هي الرائدة الاولى والفكرة الأشد رسوخا" في الذهنية اليهودية والمسيحية على حد سواء الى ان جاءت تلك المجموعة من استهزءت بالفكر اليهودي في اتجاهات شتى ، ومن تلك الاتجاهات كان موضوع الحكم الألفي ، والى هذا المعنى اشار القس عبد المسيح ابو الخير في كتابه حول هذا الموضوع بقوله : (وقد أختفي القول بالملك الألفي الحرفي بنهاية القرن الثالث بعد أن انتهت فترة الاضطهاد وانتبهت إليه مدرسة الإسكندرية وتصدى له آباء مثل العلامة أوريجانوس والبابا ديونسيوس الإسكندري في القرن الثالث الميلادي . ثم جاء القديس اوغسطينوس ( 354 - 430م ) ودافع عن الملك الألفي الروحي وملكوت المسيح الذي بدأ على الصليب ، وأن الكنيسة في الحاضر هي ملكوت المسيح علي الأرض ، وان المسيح يحكم الآن مع قديسيه وأننا نجوز الآن قيامتنا الأولى غير المنظورة وان الموت الثاني ، الجسدي ، لن يكون له سلطان علينا لأننا غلبنا الموت الأول ، الخطية . واعتبر أن كل من ينادي بالملكوت الألفي - دون أن يدري - يلغي حقيقة هذا الملكوت الحاضر الذي أسسه السيد المسيح علي الأرض ..) (المصدر كتاب المجيء لأبو الخير ص 160) هنا من الممكن ان نربط بين قول القس ان فترة الأضطهاد وانتهائها اعقبها تغير في فكر الكنيسة ومنها موضوع الحكم الأرضي مما يثبت ما نشير اليه حول العلاقة الوطيدة بين الأضطهادات التي مورست على آباء كنائسنا القديمة الاوئل وبين بزوغ او ظهور نظرية الحكم الروحي للمسيح على الصليب .
لم تتحقق كل النبؤات
:لقد قلنا في مقدمة الكتاب اننا سننهج منهجا" موضوعيا" علميا" ونحاول ان نكون منصفين ومعتدلين فلا نميل الى جانب دون آخر تحيزا" ، بل ان ما نبغي الوصول اليه هو رضا الله اولا" والمسيح ثانيا" في ما نكتب ونقول ونناقش وحتى لا يكون سببا" لطردنا من ملكوت الرب القادم قريبا" الينا ، وبعد ان ثبتنا المنهج المتين للبحث والنقاش وهو يتسند على الكتا المقدس وحده دون الآراء اليمينية او اليسارية هنا او هناك نقول اننا حين نرجع للكتاب ونطالع نصوص النبؤات المقدسة نجد ان جميع ما ذكر هناك لم يتحقق جميعه للآن ، نعم قد جاء المسيح المخلص بنفس الشرائط والاوصاف مولود من عذراء من نسل داوود من غير اب ارضي ، وذهب الى مصر ودعي ناصريا" ورفضه اليهود واقترع على ثيابه وبيع بثلاثين فضة ومحاكمته وموته ثم قيامته وو ..الخ من عشرات النبؤات حول شخصية المسيح ، لكن السؤال هنا هل تحققت نبؤات اخرى عن ملكه الموعود وتفاصيله الدقيقة ؟.... للأجابة على هذا السؤال نعود فنستعرض اجزاء من تلك النبؤات والتي نراها لم تتحقق لليوم وهي :-
1. (فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل والمسمن معا" وصبي صغير يسوقها ، والبقرة والدبة ترعيان تربض اولادهما معا" والأسد كالبقر ياكل تبنا" ، ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على حجر الأفعوان لا يسوؤون ولا يفسدون في كل جبل قدسي ..) اشعياء 11 : 6-9 ، لم يصل العالم في اي يوم من ايامه منذ فجر التأريخ والى الىن الى هذه المسرة والحالة السلمية والتعايش ، بل ان الحيوانات لا زالت للىن في الغابات والبراري ياكل بعضها بعضا" ويبطش بعضها ببعض ، وحتى البشر ما زالت الذئاب والسباع البشرية الضارية تاكل لحوم واجساد وحقوق المظلومين والفقراء والمضطهدين في كل زمان ومكان .
2. ( لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر) اشعياء 11 : 9 ، لم تمتلئ الأرض يوما" من معرفة الرب بل الى الآن هناك مساحات واسعة من الكرة الأرضية لا تعبد الله ولا تعرف ان هنالك خالقا" ولا تؤمن به وهناك الملايين من الناس لم يعرفوا الرب ولا يقدسونه ، ومثال ذلك ان الكوريتين والصي واليابان ودول اخرى في الشرق والغرب لا زالت غارقة في الألحاد والأنظمة الوضعية البعيدة عن الدين والناموس الألهي ، فكيف تحققت هذه النبؤة يا ترى ؟..وفي اي زمن ؟...فان قيل ان المعرفة وصلت الى اقاصي الأرض نقول ان تعبير الكتاب واضح ولا يحتاج الى شرح فهو وصف المعرفة انها ستطغى على الساكنين على الأرض كما يغطي الماء البحر والمعلوم ان الماء له خاصية الانتشار خاصية الموائع فهي تغطي المساحات بطريقة فيزيائية بحتة بحيث لا تبقى اي مساحة ولو صغيرة حتى لنفاذ الهواء الى دالخ البحار والمحيطات ، والحال ان هذا الوصف الدقيق لا يماثل وجود ملايين من البشر لم يمتلاوا معرفة ربانية كما يقول الكتاب .
3. (ويخرج سكان مدن اسرائيل ويشعلون ويحرقون السلاح والمجان والأتراس والقسي والسهام والحراب والرماح ويوقدون بها النار سبع سنين ...) حزقيال 39 : 9 ، لم يحدث هذا الحدث في اي فترة من الزمان تأريخيا" ، ولم تدمر اسرائيل اسلحتها ولم توقد فيها النيران بل العكس فان اليهود اليوم لديهم اعظم ترسانة اسلحة مدمرة في العالم .
4. (ها ايام تاتي يقول الرب يدرك الحارث الحاصد ودائس العنب باذر الزرع وتقطر الجبال عصيرا" وتسيل جميع التلال ) عاموس 9 : 13-14 ، (فان الرب قد عزى صهيون عزى كل خبرها ويجعل بريتها وباديتها كجنة الرب ) اشعياء 51 : 3 ، لم نسمع يوما" ان الأرض اعطت كل خيراتها الى هذا الحد الموصوف في السفر ، ولذلك نتوقع ان هذا سيحدث في عصر المجيء الثاني .
5. (فيطبعون سيوفهم ككا" ورماحهم مناجل لا ترفع امة على امة سيفا" ولا يتعلمون الحرب فيما بعد..) اشعياء 2 : 4 ، لم تضع الحرب اوزارها منذ قتل ابن آدم اخاه ، والى اليوم لا زالت الدماء تسيل وبني البشر بعضهم يقتل بعضا" .
6. (فرحا افرح بالرب.تبتهج نفسي بالهي لانه قد البسني ثياب الخلاص كساني رداء البر مثل عريس يتزين بعمامة ومثل عروس تتزين بحليها. لانه كما ان الارض تخرج نباتها وكما ان الجنة تنبت مزروعاتها هكذا السيد الرب ينبت برا وتسبيحا امام كل الامم ) اشعياء 61 : 10-11 .
هذا موجز من النبؤات الكثيرة التي تتحدث عن كيفية ملك المسيح على الأرض ونرى انها جميعا" لم تتحقق الى الآن ، وهذه اول نقطة تسجل على ضعف نظرية الملك الروحي تلك والتي يتبناها آباء كنائسنا الشرقية .
تعليق