شبهة ان المسيح رفض الملك الأرضي
ان القائلين بهذه الشبهة او مثيرينها ان صحت العبارة هم آباء الكنيسة التقليدية منذ ان بدات اطروحة الملك الروحي على الصليب ، وكان الأساس الذي بنوا عليه بناء هذه الشبهة هو ينبثق من الحديث الذي جرى بينه وبين بيلاطس الحاكم الروماني حين سأله عن قول الناس فيه انه ملك اليهود المنتظر : ( ثم دخل بيلاطس ايضا" الى دار الولاية ودعا يسوع ، وقال له : ( أنت ملك اليهود ؟) اجابه يسوع : " امن ذاتك تقول هذا ام آخرون قالوا لك عني؟" ، أجابه بيلاطس :" العلي ان يهودي ؟امتك ورؤساء الكهنة اسلموك الي ماذا فعلت ؟" أجاب يسوع :"مملكتي ليست من هذ العالم ، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا اسلم الى اليهود ، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" ..) يوحنا 18 : 33 – 36 ، وعلى اثر هذا الكلام للسيد المسيح فقد اسست نظرية الحكم الروحي والقائلين بها اليوم في كل كتاب ومحفل ومؤتمر ومناظرة ونقاش يصرحون ويدعون ان المسيح رفض الملك الأرضي ، انظر ما يقوله الأنبا شنودة في اللاهوت المقارن بهذا الصدد : (نحن نعرف أيضًا أن المسيح قد رفض الملك الأرضي ... لقد أراد ملكًا روحيًا علي قلوب الناس، لا سلطانًا عالميًا.) اللاهوت المقارن ج3 ص ؟..هم طبعا" من أسس ذلك البناء على ذلك النص من الانجيل ، لكن دعونا نناقش كلام المسيح بطريقة علمية صحيحة بعيدة عن الميول النفسية والقول بالأجتهاد الشخصي ، ماذا قال يسوع : ( مملكتي ليست من هذا العالم ) هذا صحيح لأن المسيح لا يكذب فهو القديس الصادق الألهي حيث يقول ان لديه مملكة لكنها ليست هنا ، وقد يتسآءل اي باحث قادم من خارج الوسط الكنسي عن السر وراء عدم قبول المسيح لهذا الملك مع انه ملك اليهود المنتظر وانطبقت اكثر النبوءات في العهد القديم على شخصه المقدس وهناك العديد من الناس والمدن آمنت برسالته وبشارته حين اتاهم بها آنذاك ، وظاهرا" فان شروط اعتلاءه كرسي المملكة تحقق جزء منها مثل القاعدة الشعبية والمواصفات التي يتحلها بها الملك الموعود ، فما سبب التريث او تأخر تحقق الوعد ؟...لندع السيد المسيح يجيبنا عن هذا التسآؤل في تتمة كلامه السابق حيث يقول : (لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا اسلم الى اليهود ، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا ..) اذن هذا هو بيت القصيد وهذه هي العلة وضع المسيح اصبعه المقدس عليها لو صحت العبارة ، لم يكن المسيح المنتظر ليرفض الملك الألهي المعد له منذ تأسيس العالم والمهيء له بأسم الرب منذ الأزل الا لسبب مقنع وعلة رئيسية ، السبب هو في الحقيقة تخاذل الأتباع وعدم جاهزيتهم للنصرة وتنصيب الملك ، واننا نجد ان ثورة في العالم على مدى الـتأريخ تكون مقومات نجاحها الرئيسي هي التنظير المحكم والمحبك والمركز وهو بدوره يحتاج الى ادوات هي وجود الأرضية المناسبة ونعني بها الظروف المحيطة التي تكون ملائمة لأستقبال التغيير التي ستأتي بها الثورة ونتائجها بعد نجاحها ، اضافة" الى عامل مهم ومفصلي وهو وجود القاعدة المناصرة للثورة او النظرية الثائرة تلك ، وهذا المثال ضربناه لتقريب المعنى لا لتجسيد الواقع والا ان قضية مجيء المخلص لا تشبه اي ثورة ولا اي انتفاضة على مدى التأريخ ، الا ثورة واحدة هي ثورة (الحسين بن علي بن ابي طالب) امام الطائفة الشيعية المسلمة وسبط محمد نبي الأسلام ، حيث لا زال اتباعه للآن يبكون و ينوحون على مقلته بعد خذلان اتباعه وشيعته له في ارض كربلاء في القصة المعروفة لدى القاصي والداني ، والحقيقة ان الحسين بن علي كان رجلا" يريد ان يحدث تغييرا" في الدولة الأسلامية في وقته بعد ان استولى عليها رجل سكير ويلعب بالقمار والكلاب والقرود وزير نساء هو يزيد بن معاوية العدو اللدود لأهل بيت محمد ، وقد كانت هذه الثورة تمتلك من العوامل والمواصفات والأرضية المناسبة الى حد ما لكي تحقق اهادفها وتصل الى مبتغاها الذي رسمه له سبط النبي ، لكن حدوث خلل في تلك الأرضية وانعطافة كبيرة حين قام والي الكوفة الذي نصبه يزيد آنذاك ويدعى (عبيد الله بن زياد) وهو رجل في غاية المكر والدهاء والخسة حيث قام بشراء ذمم بعض الكوفيين المقربين من السلطان واستخدمهم لنشر دعاياته بان جيش يزيد سيزحف نحو العراق لقتل الحسين ومن معه الى الدرجة التي ينقل التأريخ ان كل امرأة قامت تمسك بزوجها من المحسوبين على جيش الحسين وكل أم تفعل ذلك مع ابنها لتمنعه من نصرة الحسين والتزام مباديء ثورته الى النهاية المرسومة لها ، والواقع ان هذه العملية الماكرة التي قام بها ابن زياد ناجحة الى حد كبير لأن الشيعة وقتها كانوا على درجة ضعيفة من الأيمان والثبات والصدق ، فخذلوا معلمهم الحسين كلهم الا 72 نفرا" من اهله واصحابه الخلص ممن ثبت معه الى النهاية فقتلوا معه على ارض كربلاء لتبكيهم العيون جيلا" بعد جيل ، وأننا نجد العديد من المؤلفين يقارب بين القصتين (قصة المسيح والحسين) في كتاباته ونرى ان لديهم حق من هذه الزاوية التي ناقشناها آنفا" ، حيث ان ثورة المسيح كانت لتنجح لولا تخاذل التلاميذ والأتباع كما قال هو بلسانه ، وأنا نعلم جيدا" ان هذا الكلام لن يكون مقبولا" لدى اكثر المسيحيين اليوم لأن يمس بصورة شخصية التلاميذ الأثني عشر المقدسين ما عدا الأسخريوطي اللعين ، فهم رجال لا يدانيهم احد في الفضل والشرف فكيف نقول عنهم انهم خذلوا المسيح معلمهم الأوحد !؟..لكن الحقيقة اننا لا نتلكم جزافا" من غير دليل كما قلنا ، فها هو يسوع المسيح قد صرح بتخاذلهم بل وحتى شكهم في معلمهم المخلص الألهي : (وقال لهم يسوع ان كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة.لانه مكتوب اني اضرب الراعي فتتبدد الخراف.) مرقس 14 : 27 ، ان المسيح لم يفرض الملك المقدم له من اليهود ولم يهرب للجبل بعد ان رحب به اهالي اورشليم وارادوا ان ينصبوه ملكا" : (قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلي العالم. وأما يسوع، فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكًا انصرف إلي الجبل وحده) (يو6: 14، 15) ، لم يفعل ذلك كله لأنه يرفض الحكم الأرضي او لانه يريد ان يثبت الحكم الروحي على الصليب ، فاذا كان هو من وعد انه سيخلص المنسحقين وينصف المظلومين في العالم : (روح الرب عليّ لانه مسحني لابشر المساكين ارسلني لاشفي المنكسري القلوب لانادي للمأسورين بالاطلاق وللعمي بالبصر وارسل المنسحقين في الحرية ) لوقا 4 : 18 ، هذه هي رسالة المسيح ان يخلص الناس ويحقق الحكم الأرضي الذي يرفع الحيف والظلم والجور عن المنسحقين فيكف يخذلهم ويذهب الى عالم آخر بحجة انه يرفض الحكم والملك المعد له منذ تأسيس العالم ، نعم ان رسوخ المسيح على اراوح المؤمنين به له اكبر الأُثر على تغيير الواقع الذي يعيشه الأنسان ليتحول من شخص مملوء ظلمة وحيرة وخوف وكفر الى انسان آخر مفعم بالايمان والتقوى والقيم الأنسانية والسلام والحب ، لكن هذه العناوين غير كافية والنتيجة غير مرضية ان كانت محصورة بعالم الروح والنفس الأنسانية دون تطبيقها على ارض الواقع ودون ان يكون لها اثرا" ملموسا" مثل اقامة الحكومة العادلة التي يحيا بكنفها الناس وهم غير خائفين آمنين ان يطالهم غضب الجبابرة وظلم السلاطين وسوط الجلاد المؤلم وسرقة الأغنياء لقوتهم واعتداء المجرمين ، ولهذا فان المسيح رجل ألهي علم ان الظروف قد خذلته لتحقيق حلمه بأقامة الحكومة الألهية وحلم الأنبياء المقدسين ، ونعني بخذلان الظروف عدم استعداد الناس بشكل كافي لتقبل ملك اليهود القادم وان طلبوه باللسان لكن الواقع ان قلوبهم مع السلطان ومع كهنة اليهود الرافضين للمخلص الآتي : (هذا الشعب يكرمني بشفتيه واما قلبه فمبتعد عني بعيدا. ) مرقس 7 :6 ، اضافة" الى تخاذل الثلة او الفئة المؤمنة القليلة التي كان يعول عليها تغيير العالم من خلال تفانيهم للدفاع عن معلمهم لكنهم تخاذلوا وتركوه : ( ثم جاء ووجدهم نياما فقال لبطرس يا سمعان انت نائم.اما قدرت ان تسهر ساعة واحدة. اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة.اما الروح فنشيط واما الجسد فضعيف. ومضى ايضا وصلى قائلا ذلك الكلام بعينه. ثم رجع ووجدهم ايضا نياما اذ كانت اعينهم ثقيلة فلم يعلموا بماذا يجيبونه. ثم جاء ثالثة وقال لهم ناموا الان واستريحوا.يكفي.قد اتت الساعة.هوذا ابن الانسان يسلم الى ايدي الخطاة. قوموا لنذهب.هوذا الذي يسلمني قد اقترب ..) مرقس 14 : 37-42 ، ان المقربين منه وتلاميذه المخلصين نائمين بل غارقين في الغفلة والنوم عن السهر والخدمة والحراسة لسيدهم ومعلمهم الذي حررهم من القيود التي كانت تحيط بهم من كل جانب ، فكيف تكون هذه المجموعة على اتم الأستعداد للتفاني والتضحية لأجل تحقيق الغاية والهدف من ثورة المسيح الألهية السماوية ؟! . (فاجاب يسوع وقال لهم كانه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتاخذوني. 49 كل يوم كنت معكم في الهيكل اعلم ولم تمسكوني.ولكن لكي تكمل الكتب. 50 فتركه الجميع وهربوا. ) مرقس 14 : 48 -50 ، وهل بعد هذا الحال كلام يقال ؟..الجميع هربوا كما يقول الكتاب دون استثناء وتركوا المسيح وحده بين الجلاوزة والظلام والسلطة والكهنة الخائنين ، ومن هذا يتبين جليا" ان انصاره لم يكونوا على مستوى تحمل المسؤولية ولم يصلوا الى درجة يستحقون بها ان يشهدوا تحقيق مجيء الملكوت الألهي ، ومع انهم افضل من كان موجودا آنذاك على الساحة قياسا" بغيرهم ممن عاصر الحركة والدعوة ، وكل تلك العوامل وغيرها دعت الأرادة السماوية لتأجيل مشروع الحكومة الألهية العادلة التي يلعب فيها الذئب مع الغنم والرضيع على جحر الصل ، ان المسيح نفسه اكد ان هناك خراف ليست من هذه الحظيرة : (ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي ان آتي بتلك ايضا فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد.) يوحنا 10 : 16 ، ان المقصود من هذا الكلام هو من ادخرهم الرب ليوم مجيئه الثاني واعد لهم مجلسا" الى جنبكرسيه يوم ياتي مجده على الأرض ، وهم اكثر استعدادا" من تلاميذه الأوائل ، بل انهم تلامذيه حقا" التي سيقود بهم العالم الجديد لتتحقق السماء والأرض الجديدتين ، ان هذا النص اشارة واضحة الى تأجيل مشروع الحكم الألهي على يد المسيح المخلص ولكن اكثر الناس لا تعلم هذه الحقائق ولا تقف عند هذه النصوص والآيات بشكل موضوعي وعلمي وواقعي ، فقد ذهب اكثر المفسرين ان المقصود من الخراف التي ليست من هذه الحظيرة انها اشارة الى الأمم الأخرى من غير اليهود والتي ستقبل الخلاص عن طريق الأيمان بيسوع المسيح ، وهذا الكلام وان كان صحيحا" في معنى من المعاني التي قصدها المسيح في ذلك الوقت ، لكننا مع المنهج الذي اشرنا اليه في اول الكاتب ان كلام الرب يصلح لكل الازمان وغير محدد بمكان او زمان معينين ، لذلك نقول ان المراد اضافة" الى المعنى الأخير هو ان المقصود من الخراف هم اتباع المسيح والمؤمنين به في كل العصور ، لكنه بعد ان خذلته الخراف الاولى يعول على الخراف التي ليست من هذه الحظيرة ولا من هذا العالم ، ان معنى كلامه ان مملكته ليست من هذا العالم هو ان الزمن الذي عاش فيه المسيح اول مرة في زمن اليهود ، لم يكن عالمه المقدر له ان يملك فيه بل الزمان الذي تتحقق فيه كل الشروط والظروف والامكانات التي تعد العامل الرئيسي في تحقيق الهدف المنشود ، وانما هو زمان آخر ومجموعة أخرى من الناس ستضع هم اقامة الدولة العادلة ونصرةالمسيح على عاتقها ولن يهدا لها بال او تستريح حتى تراه جالسا" على كرسي الملوك الذي هو حقه من ابيه داوود وجميع الأنبياء المقدسين .
عن كتاب ( المسيح قادم في العراق) / بقلم تلامذة السيد المسيح