الأطروحة الصحيحة هي الوسط بين اطروحات المجيء
لقد ارتبطت قضية المسيح بكثير من الأسرار الالهية شانها شأن قضايا ومسائل العديد من انبياء ومقدسي الله الخالق ، وان معنى قولنا "سر" في اللغة والأصطلاح هو الشيء المخفي المستتر ، ويرى العديد من الباحثين والمفسرين ان كشف حقيقة كيفية ظهور او مجيء المسيح الثاني وتحقق وعود مملكة الرب او ملكوته المرتقب انما يحتاج الى فك العديد من الشفرات والرموز ، وتعد رؤيا يوحنا اللاهوتي هي بوابة للدخول الى مدينة فك رموز هذه القضية المهمة والخطيرة للمؤمنين والعالم بأسره ، حتى اننا نجد كلمة اسرار تكررت في غير موضع من مواضع سفر الرؤيا منها : (سرّ السبعة الكواكب التي رأيت على يميني والسبع المناير الذهبية ) رؤ 1 :20 ، (بل في ايام صوت الملاك السابع متى ازمع ان يبوّق يتم ايضا سرّ الله كما بشر عبيده الانبياء ) رؤ 10 : 7 ، (وعلى جبهتها اسم مكتوب.سرّ.بابل العظيمة ام الزواني ورجاسات الارض ) رؤ 17 : 5 ، (ثم قال لي الملاك لماذا تعجبت.انا اقول لك سرّ المرأة والوحش الحامل لها الذي له السبعة الرؤوس والعشرة القرون. ) رؤ 17 : 7 ، اذن نفهم ان هذا السفر هو موضع ومحط اسرار الله وما ادخره من خفايا ورموز قضية مجيء المسيح الملخص ، وسننطلق بمساعدة وعون الرب كي نفك بعض من هذه الرموز من خلال النعمة التي افاضها علينا الله وشفاعة الرب ، وبعد اللجوء الى نصوص الكتاب وربطها بعضها ببعض وخاصة" سفر الرؤيا سنصل الى الحقائق التي ضلت خافية لسنوات عن العديد من الكتاب والباحثين والآباء والمفسرين من الوسط الكنسي او خارجه . أننا نرى ان كل الطوائف المسيحية الموجودة اليوم يوجد بينها العديد من المشتركات على الرغم من وجود المفترقات طبعا" ، وقد قلنا اننا سنركز على المشتركات كي تتوحد صفوف المؤمنين ولا تكون هناك فوارق طائفية او قويمة او عنصرية لأن عودة المسيح مرتبطة بنزع كل العلائق النفسية والمجتمعية والوضعية التي خلقها ابليس الملعون على طول الزمان ، وبما ان موضوعنا هو حول كيفية وماهية وطريقة مجيء المسيح الثاني وملكه الموعود ، فقد وجدنا بعد قراءة تلك الأفكار والنظريات لأغلب الطوائف الموجودة ، ان كل فرقة وجماعة وجهة كانت قد اصابت جزء من الحق في مسالة المجيء الثاني وتحقق الملكوت الألهي لكن ليس بصورة كاملة ، اذ قد اصاب هذا الحق والصواب شيئا" من الباطل ، بمعنى ان الحق مخلوط لدى تلك النظريات بشيء من الخطأ واللبس والأشتباه ربما مقصود ، وقد تكون الحكمة السماوية من هذه الحال بين الفرق ان يأتي المسيح يوم يقدم في مجده فيقيم حلا" وسطا" بين الأطياف المتنازعة والمتناحرة على مر الأجيال ، وهناك بعد ان يبين الحقائق ويكشف المستور ويدين الأمم يقوم بوعده بعزل الخراف عن الجداء يمينا" وشمالا" ، لكن حتى ذلك اليوم وتلك الساعة التي لا يعلمها احد الا الله خالق السماوات والأرض ، يتوجب على من وصل للحقيقة تبيانها للناس كي يكون مبرءا" امام الرب يوم المجيء .
ان الذي نريد قوله ان الذين قالوا بالملك الروحي قد اصابوا جزء من الحقيقة والصواب في قضية مجيء المسيح المرتقب ، اي ان قضية المجيء مرتبطة بشكل كبير برجوع الأرواح للأنبياء والقديسين وسيكون لها دور في تحقيق الوعد الألهي بملك المخلص ومجيء الملكوت ولكن ليس بالكيفية التي طرحها وقال بها آباء الكنيسة ومن امثالهم الانبا شنودة وآخرين ، فالمسيح لم يملك على خشبة او صليب وانتهى الأمر ، لا بل ان القضية لها اترابط وثيق بمجيء ابن الأنسان الذي تحدث عنه المسيح بشكل خاص في انجيله ، حيث سيكون المسيح مؤيدا" بأرواح بعض انبياء الله القدامى مثل موسى وأيليا في الزمان الأخير ليتم وعد الله بالملكوت ، وسنفصل هذا الموضوع في الفصل اللاحق وليس هنا ، ولهذا قد اخطأ الآباء الآرذدوكس والكاثوليك بنفي الملك الأرضي المادي ، فمسالة تحقق الملك الأرضي هي مسألة عليها العديد من المثبتات في الكتاب المقدس كما اشرنا اليه سابقا" ، فملكوت الله ليس له معنى ان كان بالمعنى الروحي فقط ، والا لن تتحقق العدالة الألهية بانصاف المظلومين والجياع والمقهورين في العالم ان كانت من وجهة نظر روحية غيبية فقط ، لا بل ان العدل والأنصاف ان ينتقم المظلوم من الظالم في يوم ما وعلى الأرض وقبل الدينونة الكبيرة كما قيل في الكتاب : (.اللهم اعطي احكامك للملك وبرك لابن الملك يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحق. 3 تحمل الجبال سلاما للشعب والاكام بالبر. يقضي لمساكين الشعب.يخلص بني البائسين ويسحق الظالم. يخشونك ما دامت الشمس وقدام القمر الى دور فدور ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الذارفة على الارض. يشرق في ايامه الصديق وكثرة السلام الى ان يضمحل القمر ويملك من البحر الى البحر ومن النهر الى اقاصي الارض امامه تجثو اهل البرية واعداؤه يلحسون التراب. ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة.ملوك شبا وسبا يقدمون هدية. ويسجد له كل الملوك.كل الامم تتعبد له ، لانه ينجي الفقير المستغيث والمسكين اذ لا معين له. يشفق على المسكين والبائس ويخلص انفس الفقراء. من الظلم والخطف يفدي انفسهم ويكرم دمهم في عينيه. ويعيش ويعطيه من ذهب شبا.ويصلي لاجله دائما .اليوم كله يباركه تكون حفنة بر في الارض في رؤوس الجبال.تتمايل مثل لبنان ثمرتها ويزهرون من المدينة مثل عشب الارض. يكون اسمه الى الدهر.قدام الشمس يمتد اسمه.ويتباركون به.كل امم الارض يطوبونه ..) مزمور 72 : 1-18 ، صحيح ان النص هذا الذ اوردناه هو من مزمور داوود ويخص ابنه سليمان ، لكن جملة من المفسرين يرون ان هذا الوعد لم يتحقق كله في عهد سليمان بل لا بد انه سيتحقق على يد ابن داود الأخير " المسيح ابن الأنسان" الذي سيملك الأرض من شمالها الى جنوبها ومن شرقها وغربها ، وما دام سليمان قد انصف المساكين ونصر المظلومين يكون قد حقق الوعد الألهي وكانت مملكته مادية بالأضافة الى المملكة الروحية ، والمسيح افضل من سليمان كما نعلم جميعا" ولا يقل قداسة عنه ومملكته اقوى واعدل واشمل من مملكة سليمان النبي ، هذا المزمور يعملنا ان ارادة الله هو انصاف المخذولين على الأرض وهي نموذج الحكومة الالهية العادلة ومثال لتحقق مشيئة الرب على الأرض وسكانها ، اما النص الذي يقول : (ولذته تكون في مخافة الرب فلا يقضي بحسب نظر عينه ولا يحكم بحسب سمع اذنيه. بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالانصاف لبائسي الارض ويضرب الارض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه. ويكون البر منطقة متنيه والامانة منطقة حقويه فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل والمسمن معا وصبي صغير يسوقها والبقرة والدبة ترعيان.تربض اولادهما معا والاسد كالبقر ياكل تبنا. ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على حجر الافعوان. لا يسوؤون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لان الارض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر ..) اشعياء 11 : 3-10 ، هذه هي صورة مملكة الله المنتظرة على الأرض ، فان طبيعة الحيوانات المفترسة انما هي طبيعة دخيلة بعد ان تغيرت نفس الأنسان من الخير الى الشر فحدث انعكاس لصورة الشر الى ما يحيط الأنسان ، فصارت الحيوانات مفترسة منذ الجريمة البشرية الأولى حين قتل قايين هابيل وسفك اول دم حرام ، والى اليوم لم يشهد العالم هذا التغيير كما قلنا مسبقا" حيث لا زالت الحيوانات الضارية تتصف بهذه الطبيعة المفترسة الشرسة مع باقي نظيراتها الأليفة ، ولذلك فان العصر المسيياني كما يسمى سيكون عصر اللاشر ولا ظلم ولا حيف ولا اجرام ، وليس كما صور البعض من المفسرين حول هذا النص قائلا" : (لا يوجد تضاد أعظم من هذا، يسكن سافك الدم مع الحمل الوديع العاجز عن الدفاع عن نفسه. يعيش صاحب القلب الذئبي المحب للافتراس مع الإنسان الوديع كالحمل، يحملان طبيعة جديدة دستورها الحب والوفاق. لم يعد من كان ذئبًا يهدد الحمل، ولا الحمل يخشى من كان قبلًا من فئة الذئاب، إذ صار الكل قطيعًا واحدًا يحمل الخليقة الجديدة التي في المسيح يسوع ... في اختصار عمل السيد المسيح هو تغيير الطبيعة البشرية الشرسة خلال خدامه المتسمين بروح الوداعة، فتحمل الكنيسة كلها - خدامًا ومخدومين - روح الحب والوحدة. بهذا لا يُصيب الكنيسة - جبل قدس الرب - فساد "لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب .) تفسير الكتاب المقدس / تادرس يعقوب ملطي ص ؟...وقد بينا ان الأرض لم تمتلا يوما" ولحد الىن بمعرفة الرب فما زال الملايين جاهلون ومنكرون للرب ولوجوده فضلا" عن دينه وناموسه .
اما القائلين بالملك الألفي والأرضي من باقي طوائف الكنيسة فقد اخطأ العديد منهم في فهم النصوص والأسفار والنبؤات الكتابية ، حيث قالوا ان المسيح سينزل بجسده القديم وهيكله الأرضي السابق على الأرض ليحكم العالم ويدين البشر ، لكن الواقع ان هذا المفهوم صحيح من وجه وخاطيء من وجه آخر ، اذ ان عالم السماء لا يناسب الأجساد المادية الأرضية ، بل هو عالم آخر له قوانين اخرى تختلف تماما" عن عالمنا المادي هذا ولا يمكن للانسان باي حال من الأحوال ان يصعد للسماء بجسده هذا ، حتى المسيح نفسه ، ويسمى بأصطلاح آباء الكنيسة بانه (الجسد الممجد او الجسد الروحاني) وهو ذات الجسد الذي ظهر فيه للتلاميذ بعد قامته من القبر ، وفي هذا الخصوص ذكر الأنبا شنودة في كتابه "تأملات في القيامة" قضية الصعود بالجسد الممجد ومجيئه بالكفية ذاتها قائلا" : (هذا الجسد الممجد الروحاني هو الذي صعد إلى السماء.وعملية الصعود قد لا تتفق مع جسد مادي، يخضع لقانون الجاذبية الأرضية لأنه أثقل من الهواء. ولكنه صعد بجسد روحاني، يرتفع إلي فوق في مجد، وبنفس المجد يجلس عن يمين الآب. ونفس الجسد الممجد هو الذي سيأتي به في مجيئه الثاني "في مجده" ) كتاب تأملات في القيامة / شنودة الثالث ص ؟... ومن هنا نفهم ان جسد المسيح المادي لم يصعد به للسماء بل صعد بكيفية ثانية تسمى من قبل البعض بالجسد الروحاني ، وبهذه الكيفية نجد في الكتاب ان يوحنا اللاهوتي صعد الى السماء بالروح كما يعبر هو في سفره ويقول بأن الملك صعد به بالروح ليريه تلك الرؤيا الطويلة والمهمة في قضية المخلص : (فمضى بي بالروح الى برية فرأيت امرأة جالسة على وحش قرمزي مملوء اسماء تجديف له سبعة رؤوس وعشرة قرون.) رؤيا 17 : 3 ، وقال ايضا" في موضع ثاني : (وذهب بي بالروح الى جبل عظيم عال وأراني المدينة العظيمة اورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله ) رؤيا 21 : 10 ، وهذا دليل واضح على ان الصعود بالسماء لا يكون بالجسد المادي الأعتيادي وانما يكون بالروح او الجسد الروحاني ، والمجيء سيكون بهذا الكيفية ، حيث سيكون المجيء للمسيح هو بالروح والجسد معا" ، لكن ليس ذلك الجسم القديم الذي عاش في عهد اورشليم القديمة وعاصر هيرودس الحاكم الروماني ، ولكنه جسد ابن الأنسان او شبيه المسيح المذكور في الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم والجديد كما سنثبت في الفصل القادم ، وابن الأنسان هذا سيكون انسان يعيش في الزمن الأخير لكنه مؤيد بروح المسيح ويسير معه وهو من ستتقق على يديه مملك الرب وياتي الملكوت المرتقب منذ سالف الزمان .
عن كتاب (المسيح قادم في العراق) / بقلم أحد تلامذة السيد المسيح