الإجتهاد عند الإمامية
أولاً : الشريعة على لسان الرسول وآل البيت ﴿عليهم السلام﴾ :
لقد بين الرسول الكريم ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ كمال الشريعة الإسلامية من جميع جوانبها ووضع المسلمون على الخط الصحيح الذي رسمه الله لعباده الصالحين حين بلغهم بكمال الدين وتمام النعمة قال تعالى : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾﴿ ﴾.
وسوف نأتي الآن لبيان هذه النعمة التي انعم الله بها على الأمة الإسلامية جمعاء :
الثقلين هم النعمة :
اكتمال الدين بأمرين : أحدهما كتاب الله سبحانه ، والآخر سُنة نبيه الكريم وعترته الطاهرة أما الكتاب فقد عَرفنا الله تعالى مكانته وسعة علومه ومعارفه بقوله تعالى : ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾﴿ ﴾.
فلا شك أن المراد من لفظة ﴿كل شيء﴾ هو كل شيء أنيط بيانه إلى سفرائه وأنبيائه سبحانه من العلوم والمعارف والمناهج والتعاليم التي لا يصل الفكر الإنساني إليها مهما بلغ ما بلغ من الكمال والرقي في العقل والتفكير . فهذه الأمور تكفل الكتاب الكريم ببيانها وذكر خصوصياتها وقد بدأ العديد من علماء العلوم كافة من ذكر الإعجاز القرآني في العلم الحديث وقد بينوا أن العديد من النظريات العلمية كانت موجودة في كتاب الله منذ أكثر من الف سنة .
إن هذه النظريات قد توصل اليوم العلماء إلى جزء يسير منها وبهذا يكون الكتاب الكريم قابلا لتبيان جميع المعارف والعلوم وسيتيسر استخراج علوم الكتاب ومعارفه في زمن الظهور حين يأتي صاحب القدرات العلمية فيستخرج جميع الحقائق والمعارف من بطون الآيات والسور الشريفة .
لقد تكفل الكتاب الكريم ببيان كل شي يحتاجه الناس فكان الثقل الأكبر الذي تركة لنا رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وقد بين لنا رسول الله وآل بيته عظمة هذا الكتاب المنزل على نبينا الخاتم ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ في روايات كثيرة وأخبار متواترة منها ما جاء عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ انه قال : ﴿كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم ونحن نعلمه﴾﴿ ﴾ . وجاء عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ أيضاً انه قال : ﴿قد ولدني رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق ، وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وفيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر الجنة وخبر النار ، وخبر ما كان ، وخبر ما هو كائن ، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي ، إن الله يقول : " فيه تبيان كل شيء" ﴾﴿ ﴾.
وأما الثقل الثاني فكانت سنته وعترته التي تكفلت ببيان السُنة الصحيحة فأما مكانة السُنة فيكفي فيها قوله سبحانه : ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾﴿ ﴾. وقوله سبحانه : ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾﴿ ﴾.
وغير ذلك من الآيات التي تنص على لزوم إقتفاء أثر النبي ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وتصرح بوجوب إتباعه وعدم مخالفته في شيء بل قرن الله طاعة الرسول بطاعته وذلك في قوله تعالى : ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أرسلنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾﴿ ﴾. وقوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾﴿ ﴾.
وأما العترة الطاهرة فقد عدها رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ بالثقل الثاني حيث أوصى بالتمسك بكتاب الله وعترته أهل بيته ﴿عليهم السلام﴾ الذين هم مرآة سنته وحفاظ دينه . فلن يفترقا حتى يردا الحوض عند نبي الله الأعظم ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ ، وقد نُقل حديث الثقلين في مصنفات المسلمين جميعاً فقد جاء عن أبي سعيد أنه قال : قال رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ : ﴿ إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ﴾﴿ ﴾.
وجاء عن زيد بن ارقم قال : قام فينا ذات يوم رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ خطيبا فحمد الله واثنى عليه ثم قال : ﴿ اما بعد ايها الناس إنما انا بشر يوشك أن يأتي رسول ربى فاجيبه وانى تارك فيكم الثقلين اولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فاستمسكوا بكتاب الله وخذوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتى اذكركم الله تعالى في أهل بيتى ثلاث مرات﴾﴿ ﴾.
وجاء عن أبى هريرة أنه قال : قال رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ : ﴿ إنى قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما أو عملتم بهما كتاب الله وسنتى ولن تفرقا حتى يردا على الحوض ﴾﴿ ﴾ .
فلا خلاف عندنا بين السُنة والعترة فكلاهما واحد فالعترة مرآة السُنة والسُنة قد أوصتنا بالتمسك بالعترة فلا خلاف عندنا من قبول الحديثين فما أتانا عن الرسول نأخذه وما أتانا عن العترة ناخذه أيضاً وقد صرح بذلك العديد من قدماء الإمامية وعدو الكتاب والسُنة والعترة أصولا للأحكام الشرعية فقد حصر الشيخ المفيد الأحكام الشرعية في منابع ثلاثة فقط وذكرها قائلاً : ﴿إعلم أن أصول الأحكام الشرعية ثلاثة أشياء : كتاب الله سبحانه ، وسُنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تسليما، وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده صلوات الله عليهم وسلامه﴾﴿ ﴾.
وعلى ذلك تكون الشريعة الإسلامية شريعة كاملة الجوانب قد بينت معارفها وأحكامها بكتاب الله العزيز وسُنة النبي ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وأقوال الأئمة الطاهرين ﴿عليهم السلام﴾ فلم يبق مجال للرجوع إلى غيرهم وهذه الحقيقة التي تكشف عنها الآية بوضوح وإن الدين اكتمل في حياة النبي بفضل كتاب الله وسُنة نبيه والعترة الطاهرة ﴿عليهم السلام﴾ وهذا مما أطبقت عليه كلمات الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ وسنأتي ببعض ما ورد عنهم في هذا المقام فقد صرح أئمة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ بأنه ما من شيء إلا وله أصل في الكتاب والسُنة وهذا هو ما يظهر من كلماتهم ونصوصهم المتواترة فقد روي عن الصادق ﴿عليه السلام﴾ أنه قال : ﴿ إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن الكريم تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج العباد إليه إلا بينه للناس حتى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا نزل في القرآن إلا وقد أنزل الله فيه﴾﴿ ﴾ . وجاء عن الإمام الباقر ﴿عليه السلام﴾ أنه قال : ﴿إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة ، إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله ، وجعل لكل شيء حدا وجعل عليه دليلاً يدل عليه﴾﴿ ﴾ . وجاء عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ أنه قال : ﴿ ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلا وله حد كحد الدار ، فما كان من الطريق فهو من الطريق وما كان من الدار فهو من الدار ، حتى أرش الخدش فما سواه ، والجلدة ونصف الجلدة﴾﴿ ﴾ . وجاء عنه ﴿عليه السلام﴾ أيضاً أنه قال : ﴿ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة﴾﴿ ﴾ . وعن سماعة عن أبي الحسن موسى ﴿عليه السلام﴾ قال قلت له : أكل شيء في كتاب الله وسُنة نبيه ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ أو تقولون فيه ؟ قال : ﴿بل كل شيء في كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وآله﴾﴿ ﴾ . وجاء عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر ﴿عليه السلام﴾ يقول في هذه الآية : ﴿﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ فأومأ بيده إلى صدره﴾﴿ ﴾.
والروايات في هذا المعنى كثيرة جداً نقلها الكليني والصدوق والحر العاملي والمجلسي وغيرهم في مصنفاتهم فجزاهم الله عنا كل خير ورحمهم الله برحمته .
هذا هو حال الكتاب والسُنة عند أئمة العترة الطاهرة ﴿عليهم السلام﴾ ، فلو لم نجد حكم الكثير من الموضوعات والحوادث في الكتاب والسُنة ولا وقفنا على جملة من المعارف والعقائد فيهما فما ذلك إلا لأجل قصور فهمنا وقلة بضاعتنا وعجز عقولنا عن إدراك الكتاب الكريم حق إدراكه ففيه رموزا وإشارات وتنبيهات وتلويحات منها تعرف أحكام الحوادث والموضوعات ويهتدي بها الإنسان إلى المعارف والعقائد وقد اختص علمها بهم دون غيرهم كما أن عندهم سُنة النبي ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ التي لم يصل الكثير منها إلى أيدي الناس .
هذه هي حقيقة الحال من أئمة العترة الطاهرة ﴿عليهم السلام﴾ ولذلك فقد روي عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ أنه قال : ﴿ أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب فجعل لكل سبب شرحا ، وجعل لكل شرح علما ، وجعل لكل علم بابا ناطقا ، عرفه من عرفه ، وجهله من جهله ، ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن﴾﴿ ﴾.
ولذلك جاء التاكيد النبوي على التمسك بالعترة الطاهرة فعن رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ أنه قال : ﴿ أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ﴾﴿ ﴾.
إننا لو راجعنا المصنفات الحديثية والروائية لوقفنا على كيفية إستدلال الأئمة الطاهرين ﴿عليهم السلام﴾ بالآيات والسُنة النبوية على كثير من المعارف والأحكام ولتبين لنا عظمة هذا البيت النبوي الشريف وعظمة علمهم الغزير الناتج عن امتلاكهم لعلم الكتاب بالمعنى الجامع الوسيع كما أن عندهم السُنة النبوية بعامتها وهذا ما ميز العترة الطاهرة عن غيرهم فقد استدلوا بالكتاب والسُنة على أمور وأحكام مما لم تصل إليه أفهام الناس وإنما خص علم ذلك بهم دون غيرهم فإذا كان الشارع قد أعلن عن خاتمية الرسالة وكمال الشريعة الإسلامية فذلك لعلة وجودهم فَهُم الناطقين بعلم الله العالمين بأحكام الله كيف لا ؟ وهم عيبة علم الله وبابه الذي منه يؤتى فقد أكدوا ﴿سلام الله عليهم﴾ على هذا المعنى في أكثر من مناسبة منها ما ذكره أمير المؤمنين ﴿عليه السلام﴾ حين قال : ﴿هذا كتاب الله الصامت ، وأنا كتاب الله الناطق﴾﴿ ﴾ .
المشرع هو الله وحده :
بين أهل البيت ﴿عليه السلام﴾ بأن الله قد خص أوليائه بعلمه ولم يجعل لأوليائه التشريع ولم يكل أمر ذلك إلى أحد غيره جل جلاله ولكن بلغ أنبيائه وأصفيائه عن طريق ملائكته بما يحب وما يكره فبلغ أنبيائه الناس وعلموهم حلال الله وحرامه فلم يكن لأنبياء الله ولا لأوليائه حق التشريع مع كمال عقلهم وفضلهم ، فلا يدركون علل الأحكام وأسباب الحلال والحرام إلا ما علمهم ربهم من ذلك ولهذا المعنى جاء قول أبي جعفر ﴿عليه السلام﴾ في حديث طويل قال فيه : ﴿ وإن الله لم يجعل العلم جهلا ، ولم يكل أمره إلى أحد من خلقه ، لا إلى ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولكنه أرسل رسولا من ملائكته ، فقال له : قل كذا وكذا ! فأمرهم بما يحب ، ونهاهم عما يكره ، فقص عليهم أمر خلقه بعلم ، فعلم ذلك العلم ، وعلم أنبيائه وأصفياءه من الأنبياء والأصفياء ... إلى أن قال : ولولاة الأمر استنباط العلم وللهداة ، ثم قال : فمن أعتصم بالفضل انتهى بعلمهم ، ونجا بنصرتهم ، ومن وضع ولاة أمر الله وأهل استنباط علمه في غير الصفوة من بيوتات الأنبياء فقد خالف أمر الله وجعل الجهال ولاة أمر الله والمتكلفين بغير هدى من الله وزعموا أنهم أهل استنباط علم الله فقد كذبوا على الله ورسوله ورغبوا عن وصيه وطاعته ولم يضعوا فضل الله حيث وضعه الله فضلوا وأضلوا أتباعهم ولم يكن لهم حجة يوم القيامة ... إلى أن قال : في قوله تعالى : ﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ فإنه وكل بالفضل من أهل بيته والاخوان والذرية وهو قوله تعالى : إن تكفر به أمتك فقد وكلت أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلتك به لا يكفرون به أبداً ، ولا أضيع الإيمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء أمتك وولاة أمري بعدك وأهل استنباط العلم ، الذي ليس فيه كذب ، ولا اثم ، ولا زور ولا بطر ولا رئاء ... إلى أن قال : فاعتبروا أيها الناس فيما قلت ، حيث وضع الله ولايته ، وطاعته ، ومودته ، واستنباط علمه ، وحججه ، فاياه فتقبلوا ، وبه فاستمسكوا تنجوا ، وتكون لكم الحجة يوم القيامة وطريق ربكم جل وعز ، لا تصل ولاية الله إلا بهم ، فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يكرمه ولا يعذبه ، ومن يأت الله بغير ما أمره كان حقاً على الله أن يذله ، وأن يعذبه﴾﴿ ﴾.
ومن قول الباقر ﴿عليه السلام﴾ هذا نفهم بانه لم يفوض أمر التشريع إلى أحد غير الله وانه سبحانه قد علم أوليائه واصفيائه علمه فعلموا ذلك وأصبحوا أهلاً لاستنباط علم الله لا يقولها غيرهم إلا كاذب ، فقد وضع الله لاستنباط علمه أهلاً وهم الصفوة من بيوتات الأنبياء ومن كلف نفسه هذا المقام وزعم إنه من أهل الاستنباط أو وضع لنفسه أهلاً لاستنباط علم الله من غير الصفوة المختارة فقد خالف الله وجعل للجهال مقاماً ما أنزل الله به من سلطان فضلوا واضلوا أتباعهم وأين مفرهم من عذاب الجبار يوم يلقونه فلا حجة لهم يوم ذاك فقد إلقيت عليهم الحجج في هذه الحياة الدنيا فما قبلوها وجعلوا لهم اربابا يحللون لهم ما حرم الله ويحرمون ما احل الله ، فقبلوا بهم واستبدلوهم بخير خلق الله الصفوة المختارة علماء آل محمد ﴿عليهم السلام﴾ الانوار الاثني عشر في ظلمات الجهل المقيت ، فإن كفر القوم بهذه النعمة فقد وكل الله سبحانه أهل بيت نبيه ﴿عليهم السلام﴾ بالإيمان الذي أرسل الله به نبيه في قوله تعالى : ﴿ فإن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾﴿ ﴾ . وهم بذلك علماء أمة الرسول وولاة أمر الله وأهل استنباط علمه الذي لا يشوبه الكذب ولا الآثام . فبهم وضع الله ولايته وبهم الزم الناس طاعته ومودته فَهُم العروة الوثقى للمؤمنين المتقين المتمسكين بهم المفارقين لغيرهم فَهُم بذلك محلا لرحمة الله وكرامته .
كذب المخالفين بادعائهم معرفة الدين :
لقد بين أئمة الهدى من آل محمد ﴿عليهم السلام﴾ حقيقة المخالفين لأمر رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وكيف انهم ادعوا ما ليس لهم ، فقد ادعوا بانهم اثبتوا جميع الفقه والدين مما تحتاج إليه الأمة ولم يكن لديهم في ذلك من علم فليس كل علم رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ قد علموه ولا صار إليهم ولا عرفوه وكانوا يُسألون ولم يكن عندهم شيء من علم الله ولا من علم رسوله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ فكانوا يستحون أن ينسبهم الناس للجهل فقالوا برأيهم وقياسهم في الدين فوضعوا علما ما انزل الله به من سلطان فغروا الناس به وزعموا أنه من علم رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ فوضعوا القواعد والأصول من عند أنفسهم ومن وحي إبليس ﴿عليه اللعنة﴾ وتركوا الاثار الشريفة ودانوا بالبدع ونبيهم قد حذرهم من ذلك فقال لهم : كل بدعة ضلالة . فلو انهم سألوا من أمرهم الله بسؤالهم لعرفوا الحق من الضلال ولم يكن اختلاف . ولكنهم اطاعوا الشيطان وقد أمروا أن يكفروا به فأغواهم بما اغوى به الأمم السالفة فكانوا له طائعين كما كان السابقين .
ولهذه المعاني التي ذكرناها ما يؤيدها من كلام الأئمة الهداة فقد جاء عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ - في حديث - قال : ﴿يظن هؤلاء الذين يدعون أنهم فقهاء علماء أنهم قد أثبتوا جميع الفقه والدين مما تحتاج إليه الأمة ، وليس كل علم رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ علموه ، ولا صار إليهم من رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ ولا عرفوه ، وذلك أن الشيء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل ويكرهون أن يسألوا فلا يجيبوا ، فيطلب الناس العلم من معدنه ، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله ، وتركوا الآثار ودانوا بالبدع ، وقد قال رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم
تسليما﴾: كل بدعة ضلالة ، فلو أنهم إذا سألوا عن شيء من دين الله فلم يكن عندهم فيه أثر عن رسول الله ، ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمد ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾﴾﴿ ﴾.
أولاً : الشريعة على لسان الرسول وآل البيت ﴿عليهم السلام﴾ :
لقد بين الرسول الكريم ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ كمال الشريعة الإسلامية من جميع جوانبها ووضع المسلمون على الخط الصحيح الذي رسمه الله لعباده الصالحين حين بلغهم بكمال الدين وتمام النعمة قال تعالى : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾﴿ ﴾.
وسوف نأتي الآن لبيان هذه النعمة التي انعم الله بها على الأمة الإسلامية جمعاء :
الثقلين هم النعمة :
اكتمال الدين بأمرين : أحدهما كتاب الله سبحانه ، والآخر سُنة نبيه الكريم وعترته الطاهرة أما الكتاب فقد عَرفنا الله تعالى مكانته وسعة علومه ومعارفه بقوله تعالى : ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾﴿ ﴾.
فلا شك أن المراد من لفظة ﴿كل شيء﴾ هو كل شيء أنيط بيانه إلى سفرائه وأنبيائه سبحانه من العلوم والمعارف والمناهج والتعاليم التي لا يصل الفكر الإنساني إليها مهما بلغ ما بلغ من الكمال والرقي في العقل والتفكير . فهذه الأمور تكفل الكتاب الكريم ببيانها وذكر خصوصياتها وقد بدأ العديد من علماء العلوم كافة من ذكر الإعجاز القرآني في العلم الحديث وقد بينوا أن العديد من النظريات العلمية كانت موجودة في كتاب الله منذ أكثر من الف سنة .
إن هذه النظريات قد توصل اليوم العلماء إلى جزء يسير منها وبهذا يكون الكتاب الكريم قابلا لتبيان جميع المعارف والعلوم وسيتيسر استخراج علوم الكتاب ومعارفه في زمن الظهور حين يأتي صاحب القدرات العلمية فيستخرج جميع الحقائق والمعارف من بطون الآيات والسور الشريفة .
لقد تكفل الكتاب الكريم ببيان كل شي يحتاجه الناس فكان الثقل الأكبر الذي تركة لنا رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وقد بين لنا رسول الله وآل بيته عظمة هذا الكتاب المنزل على نبينا الخاتم ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ في روايات كثيرة وأخبار متواترة منها ما جاء عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ انه قال : ﴿كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم ونحن نعلمه﴾﴿ ﴾ . وجاء عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ أيضاً انه قال : ﴿قد ولدني رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق ، وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وفيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر الجنة وخبر النار ، وخبر ما كان ، وخبر ما هو كائن ، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي ، إن الله يقول : " فيه تبيان كل شيء" ﴾﴿ ﴾.
وأما الثقل الثاني فكانت سنته وعترته التي تكفلت ببيان السُنة الصحيحة فأما مكانة السُنة فيكفي فيها قوله سبحانه : ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾﴿ ﴾. وقوله سبحانه : ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾﴿ ﴾.
وغير ذلك من الآيات التي تنص على لزوم إقتفاء أثر النبي ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وتصرح بوجوب إتباعه وعدم مخالفته في شيء بل قرن الله طاعة الرسول بطاعته وذلك في قوله تعالى : ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أرسلنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾﴿ ﴾. وقوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾﴿ ﴾.
وأما العترة الطاهرة فقد عدها رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ بالثقل الثاني حيث أوصى بالتمسك بكتاب الله وعترته أهل بيته ﴿عليهم السلام﴾ الذين هم مرآة سنته وحفاظ دينه . فلن يفترقا حتى يردا الحوض عند نبي الله الأعظم ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ ، وقد نُقل حديث الثقلين في مصنفات المسلمين جميعاً فقد جاء عن أبي سعيد أنه قال : قال رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ : ﴿ إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ﴾﴿ ﴾.
وجاء عن زيد بن ارقم قال : قام فينا ذات يوم رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ خطيبا فحمد الله واثنى عليه ثم قال : ﴿ اما بعد ايها الناس إنما انا بشر يوشك أن يأتي رسول ربى فاجيبه وانى تارك فيكم الثقلين اولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فاستمسكوا بكتاب الله وخذوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتى اذكركم الله تعالى في أهل بيتى ثلاث مرات﴾﴿ ﴾.
وجاء عن أبى هريرة أنه قال : قال رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ : ﴿ إنى قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما أو عملتم بهما كتاب الله وسنتى ولن تفرقا حتى يردا على الحوض ﴾﴿ ﴾ .
فلا خلاف عندنا بين السُنة والعترة فكلاهما واحد فالعترة مرآة السُنة والسُنة قد أوصتنا بالتمسك بالعترة فلا خلاف عندنا من قبول الحديثين فما أتانا عن الرسول نأخذه وما أتانا عن العترة ناخذه أيضاً وقد صرح بذلك العديد من قدماء الإمامية وعدو الكتاب والسُنة والعترة أصولا للأحكام الشرعية فقد حصر الشيخ المفيد الأحكام الشرعية في منابع ثلاثة فقط وذكرها قائلاً : ﴿إعلم أن أصول الأحكام الشرعية ثلاثة أشياء : كتاب الله سبحانه ، وسُنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تسليما، وأقوال الأئمة الطاهرين من بعده صلوات الله عليهم وسلامه﴾﴿ ﴾.
وعلى ذلك تكون الشريعة الإسلامية شريعة كاملة الجوانب قد بينت معارفها وأحكامها بكتاب الله العزيز وسُنة النبي ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وأقوال الأئمة الطاهرين ﴿عليهم السلام﴾ فلم يبق مجال للرجوع إلى غيرهم وهذه الحقيقة التي تكشف عنها الآية بوضوح وإن الدين اكتمل في حياة النبي بفضل كتاب الله وسُنة نبيه والعترة الطاهرة ﴿عليهم السلام﴾ وهذا مما أطبقت عليه كلمات الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ وسنأتي ببعض ما ورد عنهم في هذا المقام فقد صرح أئمة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ بأنه ما من شيء إلا وله أصل في الكتاب والسُنة وهذا هو ما يظهر من كلماتهم ونصوصهم المتواترة فقد روي عن الصادق ﴿عليه السلام﴾ أنه قال : ﴿ إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن الكريم تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج العباد إليه إلا بينه للناس حتى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا نزل في القرآن إلا وقد أنزل الله فيه﴾﴿ ﴾ . وجاء عن الإمام الباقر ﴿عليه السلام﴾ أنه قال : ﴿إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة ، إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله ، وجعل لكل شيء حدا وجعل عليه دليلاً يدل عليه﴾﴿ ﴾ . وجاء عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ أنه قال : ﴿ ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلا وله حد كحد الدار ، فما كان من الطريق فهو من الطريق وما كان من الدار فهو من الدار ، حتى أرش الخدش فما سواه ، والجلدة ونصف الجلدة﴾﴿ ﴾ . وجاء عنه ﴿عليه السلام﴾ أيضاً أنه قال : ﴿ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة﴾﴿ ﴾ . وعن سماعة عن أبي الحسن موسى ﴿عليه السلام﴾ قال قلت له : أكل شيء في كتاب الله وسُنة نبيه ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ أو تقولون فيه ؟ قال : ﴿بل كل شيء في كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وآله﴾﴿ ﴾ . وجاء عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر ﴿عليه السلام﴾ يقول في هذه الآية : ﴿﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ فأومأ بيده إلى صدره﴾﴿ ﴾.
والروايات في هذا المعنى كثيرة جداً نقلها الكليني والصدوق والحر العاملي والمجلسي وغيرهم في مصنفاتهم فجزاهم الله عنا كل خير ورحمهم الله برحمته .
هذا هو حال الكتاب والسُنة عند أئمة العترة الطاهرة ﴿عليهم السلام﴾ ، فلو لم نجد حكم الكثير من الموضوعات والحوادث في الكتاب والسُنة ولا وقفنا على جملة من المعارف والعقائد فيهما فما ذلك إلا لأجل قصور فهمنا وقلة بضاعتنا وعجز عقولنا عن إدراك الكتاب الكريم حق إدراكه ففيه رموزا وإشارات وتنبيهات وتلويحات منها تعرف أحكام الحوادث والموضوعات ويهتدي بها الإنسان إلى المعارف والعقائد وقد اختص علمها بهم دون غيرهم كما أن عندهم سُنة النبي ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ التي لم يصل الكثير منها إلى أيدي الناس .
هذه هي حقيقة الحال من أئمة العترة الطاهرة ﴿عليهم السلام﴾ ولذلك فقد روي عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ أنه قال : ﴿ أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب فجعل لكل سبب شرحا ، وجعل لكل شرح علما ، وجعل لكل علم بابا ناطقا ، عرفه من عرفه ، وجهله من جهله ، ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن﴾﴿ ﴾.
ولذلك جاء التاكيد النبوي على التمسك بالعترة الطاهرة فعن رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ أنه قال : ﴿ أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ﴾﴿ ﴾.
إننا لو راجعنا المصنفات الحديثية والروائية لوقفنا على كيفية إستدلال الأئمة الطاهرين ﴿عليهم السلام﴾ بالآيات والسُنة النبوية على كثير من المعارف والأحكام ولتبين لنا عظمة هذا البيت النبوي الشريف وعظمة علمهم الغزير الناتج عن امتلاكهم لعلم الكتاب بالمعنى الجامع الوسيع كما أن عندهم السُنة النبوية بعامتها وهذا ما ميز العترة الطاهرة عن غيرهم فقد استدلوا بالكتاب والسُنة على أمور وأحكام مما لم تصل إليه أفهام الناس وإنما خص علم ذلك بهم دون غيرهم فإذا كان الشارع قد أعلن عن خاتمية الرسالة وكمال الشريعة الإسلامية فذلك لعلة وجودهم فَهُم الناطقين بعلم الله العالمين بأحكام الله كيف لا ؟ وهم عيبة علم الله وبابه الذي منه يؤتى فقد أكدوا ﴿سلام الله عليهم﴾ على هذا المعنى في أكثر من مناسبة منها ما ذكره أمير المؤمنين ﴿عليه السلام﴾ حين قال : ﴿هذا كتاب الله الصامت ، وأنا كتاب الله الناطق﴾﴿ ﴾ .
المشرع هو الله وحده :
بين أهل البيت ﴿عليه السلام﴾ بأن الله قد خص أوليائه بعلمه ولم يجعل لأوليائه التشريع ولم يكل أمر ذلك إلى أحد غيره جل جلاله ولكن بلغ أنبيائه وأصفيائه عن طريق ملائكته بما يحب وما يكره فبلغ أنبيائه الناس وعلموهم حلال الله وحرامه فلم يكن لأنبياء الله ولا لأوليائه حق التشريع مع كمال عقلهم وفضلهم ، فلا يدركون علل الأحكام وأسباب الحلال والحرام إلا ما علمهم ربهم من ذلك ولهذا المعنى جاء قول أبي جعفر ﴿عليه السلام﴾ في حديث طويل قال فيه : ﴿ وإن الله لم يجعل العلم جهلا ، ولم يكل أمره إلى أحد من خلقه ، لا إلى ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولكنه أرسل رسولا من ملائكته ، فقال له : قل كذا وكذا ! فأمرهم بما يحب ، ونهاهم عما يكره ، فقص عليهم أمر خلقه بعلم ، فعلم ذلك العلم ، وعلم أنبيائه وأصفياءه من الأنبياء والأصفياء ... إلى أن قال : ولولاة الأمر استنباط العلم وللهداة ، ثم قال : فمن أعتصم بالفضل انتهى بعلمهم ، ونجا بنصرتهم ، ومن وضع ولاة أمر الله وأهل استنباط علمه في غير الصفوة من بيوتات الأنبياء فقد خالف أمر الله وجعل الجهال ولاة أمر الله والمتكلفين بغير هدى من الله وزعموا أنهم أهل استنباط علم الله فقد كذبوا على الله ورسوله ورغبوا عن وصيه وطاعته ولم يضعوا فضل الله حيث وضعه الله فضلوا وأضلوا أتباعهم ولم يكن لهم حجة يوم القيامة ... إلى أن قال : في قوله تعالى : ﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ فإنه وكل بالفضل من أهل بيته والاخوان والذرية وهو قوله تعالى : إن تكفر به أمتك فقد وكلت أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلتك به لا يكفرون به أبداً ، ولا أضيع الإيمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء أمتك وولاة أمري بعدك وأهل استنباط العلم ، الذي ليس فيه كذب ، ولا اثم ، ولا زور ولا بطر ولا رئاء ... إلى أن قال : فاعتبروا أيها الناس فيما قلت ، حيث وضع الله ولايته ، وطاعته ، ومودته ، واستنباط علمه ، وحججه ، فاياه فتقبلوا ، وبه فاستمسكوا تنجوا ، وتكون لكم الحجة يوم القيامة وطريق ربكم جل وعز ، لا تصل ولاية الله إلا بهم ، فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يكرمه ولا يعذبه ، ومن يأت الله بغير ما أمره كان حقاً على الله أن يذله ، وأن يعذبه﴾﴿ ﴾.
ومن قول الباقر ﴿عليه السلام﴾ هذا نفهم بانه لم يفوض أمر التشريع إلى أحد غير الله وانه سبحانه قد علم أوليائه واصفيائه علمه فعلموا ذلك وأصبحوا أهلاً لاستنباط علم الله لا يقولها غيرهم إلا كاذب ، فقد وضع الله لاستنباط علمه أهلاً وهم الصفوة من بيوتات الأنبياء ومن كلف نفسه هذا المقام وزعم إنه من أهل الاستنباط أو وضع لنفسه أهلاً لاستنباط علم الله من غير الصفوة المختارة فقد خالف الله وجعل للجهال مقاماً ما أنزل الله به من سلطان فضلوا واضلوا أتباعهم وأين مفرهم من عذاب الجبار يوم يلقونه فلا حجة لهم يوم ذاك فقد إلقيت عليهم الحجج في هذه الحياة الدنيا فما قبلوها وجعلوا لهم اربابا يحللون لهم ما حرم الله ويحرمون ما احل الله ، فقبلوا بهم واستبدلوهم بخير خلق الله الصفوة المختارة علماء آل محمد ﴿عليهم السلام﴾ الانوار الاثني عشر في ظلمات الجهل المقيت ، فإن كفر القوم بهذه النعمة فقد وكل الله سبحانه أهل بيت نبيه ﴿عليهم السلام﴾ بالإيمان الذي أرسل الله به نبيه في قوله تعالى : ﴿ فإن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾﴿ ﴾ . وهم بذلك علماء أمة الرسول وولاة أمر الله وأهل استنباط علمه الذي لا يشوبه الكذب ولا الآثام . فبهم وضع الله ولايته وبهم الزم الناس طاعته ومودته فَهُم العروة الوثقى للمؤمنين المتقين المتمسكين بهم المفارقين لغيرهم فَهُم بذلك محلا لرحمة الله وكرامته .
كذب المخالفين بادعائهم معرفة الدين :
لقد بين أئمة الهدى من آل محمد ﴿عليهم السلام﴾ حقيقة المخالفين لأمر رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وكيف انهم ادعوا ما ليس لهم ، فقد ادعوا بانهم اثبتوا جميع الفقه والدين مما تحتاج إليه الأمة ولم يكن لديهم في ذلك من علم فليس كل علم رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ قد علموه ولا صار إليهم ولا عرفوه وكانوا يُسألون ولم يكن عندهم شيء من علم الله ولا من علم رسوله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ فكانوا يستحون أن ينسبهم الناس للجهل فقالوا برأيهم وقياسهم في الدين فوضعوا علما ما انزل الله به من سلطان فغروا الناس به وزعموا أنه من علم رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ فوضعوا القواعد والأصول من عند أنفسهم ومن وحي إبليس ﴿عليه اللعنة﴾ وتركوا الاثار الشريفة ودانوا بالبدع ونبيهم قد حذرهم من ذلك فقال لهم : كل بدعة ضلالة . فلو انهم سألوا من أمرهم الله بسؤالهم لعرفوا الحق من الضلال ولم يكن اختلاف . ولكنهم اطاعوا الشيطان وقد أمروا أن يكفروا به فأغواهم بما اغوى به الأمم السالفة فكانوا له طائعين كما كان السابقين .
ولهذه المعاني التي ذكرناها ما يؤيدها من كلام الأئمة الهداة فقد جاء عن أبي عبد الله ﴿عليه السلام﴾ - في حديث - قال : ﴿يظن هؤلاء الذين يدعون أنهم فقهاء علماء أنهم قد أثبتوا جميع الفقه والدين مما تحتاج إليه الأمة ، وليس كل علم رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ علموه ، ولا صار إليهم من رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ ولا عرفوه ، وذلك أن الشيء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل ويكرهون أن يسألوا فلا يجيبوا ، فيطلب الناس العلم من معدنه ، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله ، وتركوا الآثار ودانوا بالبدع ، وقد قال رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم
تسليما﴾: كل بدعة ضلالة ، فلو أنهم إذا سألوا عن شيء من دين الله فلم يكن عندهم فيه أثر عن رسول الله ، ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمد ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾﴾﴿ ﴾.