منقول من كتاب سقيفة الغيبة المستوحى من فكر السيد القحطاني
مصادر التشريع عند الأصوليين
المصدر الاول: الكتــــاب
لقد انزل الله القرآن ليكون للمسلمين المصدر الأساسي لمعرفة الأحكام والعقائد إلا أن المسلمون بشكل عام فسروا آياته الكريمة بتفاسير مختلفة وكان أكثر أسباب الاختلاف هو رأي المفسر للقرآن، إذ لم يكن للكتاب تفسير مشترك يعتمد عليه عند المسلمين ، فقد ذهبت بهم المذاهب حتى في تفسير القرآن .
المشكلة التي يواجهها المسلمون تعود إلى تعدد الآراء في التعامل مع النص القرآني واكتشاف حقائقه ومن ذلك نفهم بأن القرآن وحده لا يكفي إلا إذا علم تفسيره وتأويله من جهة أهل الذكر (ع) لعلة تعدد الوجوه آيات الكتاب وسوره ، لذلك رفض أمير المؤمنين (ع) الاحتجاج على الخوارج بالكتاب لأنه حمال ذو وجوه فقد جاء في وصيته (ع) لأبن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج : ﴿لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون ، ولكن حاجهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا﴾﴿ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 2 - ص 245
وقد ذكر الشيخ علي النمازي الشاهرودي تعليقاً على هذه الوصية فقال : ﴿يستفاد منه عدم جواز الاحتجاج بالقرآن في غير النصوص والمحكمات التي لا يحتمل إلا وجها واحدا ﴾﴿ - مستدرك سفينة البحار - الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج 8 - ص 200.
نستفاد من هذه الواقعة بأن القرآن حمال ذو وجوه لا يجوز تفسيره ولا الاحتجاج به إلا إذا علم تفسيره من أقوال الأئمة (ع) حيث انهم أهل الذكر وهم الذين يُسألون عنه ويُعرف من خلالهم معاني الآيات وتأويل المتشابهات، ولذلك فقد أمرنا النبي الخاتم (ص) بالتمسك بالثقلين الكتاب والسُنة، وقد بينا فيما ذكرناه بأن أقوال الأئمة (ع) وتعاليمهم ما هي إلا مرآة السُنة وعينها التي ننظر من خلالها إلى تفسير الكتاب، علماً بأن هذه الوجوه - التي لا يعلم تفسيرها ولا تأويلها الا أهل الذكر (ع)- كان الأئمة (ع) يفتون الناس بها فقد جاء عن حماد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد الله (ع): ﴿إن الأحاديث تختلف عنكم ؟ قال : فقال : إن القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه . ثم قال : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب﴾﴿ - مستدرك سفينة البحار - الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج 8 - ص 491 ﴾.
ومما يؤكد هذه المعنى هو ما جاء عن جابر بن يزيد الجعفي قال : ﴿سألت أبا جعفر (ع) عن شيء من التفسير فأجابني ثم سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر ، فقلت : جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم ، فقال : يا جابر إن للقرآن بطنا وللبطن بطن ، وله ظهر ، وللظهر ظهر ، يا جابر ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إن الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل متصرف على وجوه﴾﴿ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 89 - ص 91﴾.
ومما تقدم نفهم بأن القرآن له وجوه متعددة لا يعلمها إلا الأئمة (ع) ولذلك أُمرنا بالتمسك بالثقلين الكتاب والعترة الطاهرة فَهُم أهل الذكر الذين أُمرنا بإتباعهم ومعرفة الكتاب لا تتم الا من خلالهم .
إن المخالفين للأئمة (ع) وقعوا في المحذور حيث لم يستطيعوا معرفة الكتاب معرفة تامة فذهبوا إلى القول بالمنسوخ وهم يظنون انه الناسخ واقاموا حججهم اعتماداً على المتشابه وهم يظنون انه المحكم وتوهموا بالخاص وهم يعتقدون بانه العام واحتجوا بالآيات وهم جاهلين لسبب نزولها وتأويلها، ولم يعرفوا ما يفتح به أول الكلام ولا ما يختم به وكل هذا الذي وقعوا فيه كان نتيجة اغتصابهم لمقام أهل الذكر (ع).
لقد بين أئمة أهل البيت (ع) جهل هؤلاء بعلم كتاب الله تعالى حيث جاء عن إسماعيل بن جابر قال سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق ﴿عليهما السلام﴾ يقول : ﴿إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء فلا نبي بعده وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده أحل فيه حلالاً وحرم حراماً فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم وجعله النبي (ص) علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان وعدلوا عنهم ثم قتلوهم واتبعوا غيرهم وأخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم ، قال الله سبحانه : * ﴿ فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾ * ولا تزال تطلع على خائنة منهم وذلك انهم ضربوا بعض القرآن ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا .
واعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي والمدني وأسباب التنزيل والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة وما فيه من علم القضاء والقدر والتقديم والتأخير والمبين والعميق والظاهر والباطن والابتداء من الانتهاء والسؤال والجواب والقطع والوصل والمستثنى منه والجار فيه والصفة لما قبل مما يدل على ما بعد والمؤكد منه والمفصل وعزائمه ورخصه ومواضع فرائضه وأحكامه ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون والموصول من الألفاظ والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله ومتى ما أدعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب ورسوله ومأواه جهنم وبئس المصير﴾﴿ التفسير الصافي - الفيض الكاشاني - ج 1 - ص 38 - 39﴾.
وبعد ما تقدم نحب أن نبين ان مدارس المخالفين انقسمت في تفسير القرآن إلى فرقتين الفرقة الاولى وهم الذين فسروا الكتاب بالمأثور وهذه الفرقة اعتمدت في تفسير القرآن على أمرين الأول تفسير القرآن بالقرآن نفسه ومن أمثلة تفسير القرآن بالقرآن هو تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ فقد فسروا المنعم عليهم بقوله تعالى : ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين﴾﴿ - سورة النساء آية 69﴾ وهذا من باب تفسير القرآن بالقرآن عندهم .
اما الأمر الثاني الذي اعتمدوه في تفسير القرآن بالمأثور هو تفسير القرآن بما نقلوه عن رسول الله (ص) في ذلك وما نقل عن الصحابة والتابعين .
ومن أمثلة هذا التفسير تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ﴾ فقد فسروا ﴿القوة﴾ في الآية بما نقلوه عن رسول الله (ص) حيث قال: ﴿ألا إن القوة الرمي، إلا أن القوة الرمي، إلا أن القوة الرمي﴾ ثلاث مرات، والحديث رواه مسلم، وهذا من باب تفسير القرآن بالسُنة .
ومن أمثلة تفسير الصحابة، تفسير أبن عباس لقوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ حيث فسر هذه الآية باقتراب أجل رسول الله (ص) كما نقل في صحيح البخاري .
وقد روى القوم عن التابعين في التفسير روايات كثيرة ، ولا سيما ما روي عن تلاميذ أبن عباس من أمثال مجاهد وعكرمة وعطاء وغيرهم .
ويلاحظ على هذا المنهج من التفسير أنه يعتمد على الرواية في تفسير القرآن الكريم، سواءً أكانت تلك الرواية نصاً من القرآن أو السُنة، أم قولاً لصحابي أو تابعي، وقول الصحابي والتابعي أيضاً لا يخلوا من الرأي أيضاً فقد تختلف التفاسير الواردة عن الصحابة والتابعين .
ومن أشهر كتب التفسير بالمأثور كتاب جامع البيان في تفسير القرآن ومؤلفه الطبري وقد اشتهر هذا التفسير بأسم ﴿تفسير الطبري﴾ وكذلك تفسير القرآن العظيم، ومؤلفه أبن كثير ، وهو من التفاسير المشهورة .
اما الفرقة الثانية وهم الذين فسروا القرآن بالرأي ، ولفقهاء العامة في اعتماد هذا المنهج في التفسير موقفان ، الأول يرى عدم جواز تفسير القرآن بالرأي ، والثاني يرى جواز التفسير بالرأي عن طريق الإجتهاد .
والأمثلة على تفسير القرآن بالرأي كثيرة منها ما أورده الرازي عند تفسير قوله تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾﴿ سورة هود آية 15
﴾ قال: ﴿يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق؛ لأن كل أحد يريد التمتع بلذات الدنيا وطيباتها، والانتفاع بخيراتها وشهواتها،﴾ ثم قال : ﴿إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد هو الكافر، لأن قوله تعالى بعدُ : ﴿أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ﴾ لا يليق إلا بالكفار﴾﴿ - تفسير الرازي - الرازي - ج 17 - ص 198
من الواضح أن هذا التفسير للآية يعتمد على رأي المفسر وكما اننا نشهد تعدد التفاسير وأختلافها بل ان التفسير الواحد ينقل العديد من الأقوال لتفسير آية واحدة حيث يقول بأن القول الأول يقول كذا اما القول الثاني فهو خلاف القول الأول بل تتعدد الأقوال إلى عشرات بل أكثر .
إن هذا النوع من التفسير لم ينحصر عند المخالفين فقط بل ان تفاسير الإمامية أيضاً حاوية على هذه الأقوال الكثيرة والمتناقضة وهذا مما لا يرتضيه الله ولا الرسول ولا الأئمة (ع) إذ قد ورد النهي عن التفسير بالراي في كتب المخالفين قبل الموالين فقد روي عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله (ص) : ﴿من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ﴾﴿ - سنن الترمذي - الترمذي - ج 4 - ص 268 – 269 /السنن الكبرى - النسائي - ج 5 - ص 31
وجاء عن بن عباس عن النبي (ص) قال : ﴿من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار﴾﴿ - السنن الكبرى - النسائي - ج 5 - ص 31
وقد جاء عن أبي بكر انه قال : ﴿أية أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم﴾ . وجاء عن عبد الله أبن عمر بن الخطاب قال : ﴿اتقوا الرأي في دينكم﴾﴿ - الاحكام - أبن حزم - ج 6 - ص 779﴾.
وبالرغم من وجود هذه الأخبار إلا إنهم خالفوها وكتبوا العديد من التفاسير التي تفسر القرآن بالرأي منها تفسير البحر المحيط ومؤلفه أبو حيان الأندلسي الغرناطي وكذلك تفسير روح المعاني لمؤلَّفه الألوسي .
أما الإمامية فلم تسلم تفاسيرهم من ابداء الآراء وتعدد الأقوال حتى انك ترى في أكثر تفاسير الإمامية عدة أقوال لتفسير آية واحدة وهذا أيضاً مشابه لطريقة التفسير بالرأي التي اتبعها المخالفون وهذا خلاف لما أمرنا به فقد جاء عن أبي عبد الله (ع) قال : ﴿... ومن فسر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر﴾﴿ وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 60
ولم يكتفوا بتفسير القرآن بالرأي بل انهم اخذوا تفاسير المخالفين فأعتمدوها كتفسير ﴿أهل الذكر﴾ الواردة في قوله تعالى : ﴿وَمَا أرسلنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾﴿ - سورة النحل آية 43
حيث قال السيد الخوئي في تفسير ﴿أهل الذكر﴾ ما هذا نصه : ﴿ أما الكتاب فقوله عز من قائل : فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ... إذا الآية المباركة قد أوجبت الرجوع إلى المجتهد المطلق متعينا﴾﴿ - كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخوئي شرح ص 230
إن هذا التفسير هو التفسير بالرأي المنهي عنه في أقوال الأئمة (ع) فضلاً عن انه تفسير في قبال النصوص الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) والتي فسرت أهل الذكر بالأئمة المعصومين (ع) بل عدت من قال بغير هذا بالكاذب فقد جاء عن الإمام علي بن الحسين (ع)، والإمام محمد بن علي (ع)، انهما ذكرا وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) عند وفاته إلى ولده وشيعته ، وفيها : ﴿ ... وأمركم أن تسألوا أهل الذكر، ونحن والله أهل الذكر، لا يدعي ذلك غيرنا الا كاذب ... ﴾﴿ - مستدرك الوسائل - ج 17 - ص 283﴾.
وقد جاء عن هشام بن سالم قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله تعالى : ﴿فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون﴾ من هم ؟ قال : ﴿نحن﴾﴿ - المصدر السابق - ص 276﴾.
ومن هذا المثال تتضح طريقة التفسير بالرأي التي اتبعها أكثر الإمامية في تفاسيرهم إلا أن هنالك تفاسير أخرى تُفسر القرآن بما جاء عن أئمة أهل البيت (ع) منها تفسير العياشي للمحدث أبي النظر محمد المعروف بالعياشي وكذلك تفسير نور الثقلين للشيخ العروسي الحويزي ، وغيرها كما ان أول من كَتب في التفسير سعيد بن جبير وهو من أجلاء أصحاب أمير المؤمنين (ع) وقد قتله الحجاج في سنة 94هـ ثم إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي القرشي وهو من أصحاب السجاد والباقر والصادق (ع) الذي توفي سنة 127هـ . ثم محمد بن السائب الكلبي وهو من خواص أصحاب السجاد والباقر ﴿عليهما السلام﴾ توفي سنة 146هـ . ثم جابر الجعفي وغيرهم .
وهذا الاهتمام من أصحاب الأئمة (ع) بالقرآن ان دل على شيء فإنه يدل على حث الأئمة (ع) على تعلم القرآن وعلومه فقد جاء عن أمير المؤمنين (ع)انه قال في بعض خطبه : ﴿وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث ، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور . وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص ، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله ، بل الحجة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند الله ألوم﴾﴿ - نهج البلاغة - خطب الإمام علي ﴿ع﴾ - ج 1 - ص 216
وجاء عن أبي عبد الله (ع) قال : ﴿ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه﴾﴿ - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 607
يتبع
مصادر التشريع عند الأصوليين
المصدر الاول: الكتــــاب
لقد انزل الله القرآن ليكون للمسلمين المصدر الأساسي لمعرفة الأحكام والعقائد إلا أن المسلمون بشكل عام فسروا آياته الكريمة بتفاسير مختلفة وكان أكثر أسباب الاختلاف هو رأي المفسر للقرآن، إذ لم يكن للكتاب تفسير مشترك يعتمد عليه عند المسلمين ، فقد ذهبت بهم المذاهب حتى في تفسير القرآن .
المشكلة التي يواجهها المسلمون تعود إلى تعدد الآراء في التعامل مع النص القرآني واكتشاف حقائقه ومن ذلك نفهم بأن القرآن وحده لا يكفي إلا إذا علم تفسيره وتأويله من جهة أهل الذكر (ع) لعلة تعدد الوجوه آيات الكتاب وسوره ، لذلك رفض أمير المؤمنين (ع) الاحتجاج على الخوارج بالكتاب لأنه حمال ذو وجوه فقد جاء في وصيته (ع) لأبن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج : ﴿لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون ، ولكن حاجهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا﴾﴿ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 2 - ص 245
وقد ذكر الشيخ علي النمازي الشاهرودي تعليقاً على هذه الوصية فقال : ﴿يستفاد منه عدم جواز الاحتجاج بالقرآن في غير النصوص والمحكمات التي لا يحتمل إلا وجها واحدا ﴾﴿ - مستدرك سفينة البحار - الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج 8 - ص 200.
نستفاد من هذه الواقعة بأن القرآن حمال ذو وجوه لا يجوز تفسيره ولا الاحتجاج به إلا إذا علم تفسيره من أقوال الأئمة (ع) حيث انهم أهل الذكر وهم الذين يُسألون عنه ويُعرف من خلالهم معاني الآيات وتأويل المتشابهات، ولذلك فقد أمرنا النبي الخاتم (ص) بالتمسك بالثقلين الكتاب والسُنة، وقد بينا فيما ذكرناه بأن أقوال الأئمة (ع) وتعاليمهم ما هي إلا مرآة السُنة وعينها التي ننظر من خلالها إلى تفسير الكتاب، علماً بأن هذه الوجوه - التي لا يعلم تفسيرها ولا تأويلها الا أهل الذكر (ع)- كان الأئمة (ع) يفتون الناس بها فقد جاء عن حماد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد الله (ع): ﴿إن الأحاديث تختلف عنكم ؟ قال : فقال : إن القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه . ثم قال : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب﴾﴿ - مستدرك سفينة البحار - الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج 8 - ص 491 ﴾.
ومما يؤكد هذه المعنى هو ما جاء عن جابر بن يزيد الجعفي قال : ﴿سألت أبا جعفر (ع) عن شيء من التفسير فأجابني ثم سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر ، فقلت : جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم ، فقال : يا جابر إن للقرآن بطنا وللبطن بطن ، وله ظهر ، وللظهر ظهر ، يا جابر ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إن الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل متصرف على وجوه﴾﴿ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 89 - ص 91﴾.
ومما تقدم نفهم بأن القرآن له وجوه متعددة لا يعلمها إلا الأئمة (ع) ولذلك أُمرنا بالتمسك بالثقلين الكتاب والعترة الطاهرة فَهُم أهل الذكر الذين أُمرنا بإتباعهم ومعرفة الكتاب لا تتم الا من خلالهم .
إن المخالفين للأئمة (ع) وقعوا في المحذور حيث لم يستطيعوا معرفة الكتاب معرفة تامة فذهبوا إلى القول بالمنسوخ وهم يظنون انه الناسخ واقاموا حججهم اعتماداً على المتشابه وهم يظنون انه المحكم وتوهموا بالخاص وهم يعتقدون بانه العام واحتجوا بالآيات وهم جاهلين لسبب نزولها وتأويلها، ولم يعرفوا ما يفتح به أول الكلام ولا ما يختم به وكل هذا الذي وقعوا فيه كان نتيجة اغتصابهم لمقام أهل الذكر (ع).
لقد بين أئمة أهل البيت (ع) جهل هؤلاء بعلم كتاب الله تعالى حيث جاء عن إسماعيل بن جابر قال سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق ﴿عليهما السلام﴾ يقول : ﴿إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء فلا نبي بعده وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده أحل فيه حلالاً وحرم حراماً فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم وجعله النبي (ص) علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان وعدلوا عنهم ثم قتلوهم واتبعوا غيرهم وأخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم ، قال الله سبحانه : * ﴿ فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾ * ولا تزال تطلع على خائنة منهم وذلك انهم ضربوا بعض القرآن ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا .
واعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي والمدني وأسباب التنزيل والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة وما فيه من علم القضاء والقدر والتقديم والتأخير والمبين والعميق والظاهر والباطن والابتداء من الانتهاء والسؤال والجواب والقطع والوصل والمستثنى منه والجار فيه والصفة لما قبل مما يدل على ما بعد والمؤكد منه والمفصل وعزائمه ورخصه ومواضع فرائضه وأحكامه ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون والموصول من الألفاظ والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله ومتى ما أدعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب ورسوله ومأواه جهنم وبئس المصير﴾﴿ التفسير الصافي - الفيض الكاشاني - ج 1 - ص 38 - 39﴾.
وبعد ما تقدم نحب أن نبين ان مدارس المخالفين انقسمت في تفسير القرآن إلى فرقتين الفرقة الاولى وهم الذين فسروا الكتاب بالمأثور وهذه الفرقة اعتمدت في تفسير القرآن على أمرين الأول تفسير القرآن بالقرآن نفسه ومن أمثلة تفسير القرآن بالقرآن هو تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ فقد فسروا المنعم عليهم بقوله تعالى : ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين﴾﴿ - سورة النساء آية 69﴾ وهذا من باب تفسير القرآن بالقرآن عندهم .
اما الأمر الثاني الذي اعتمدوه في تفسير القرآن بالمأثور هو تفسير القرآن بما نقلوه عن رسول الله (ص) في ذلك وما نقل عن الصحابة والتابعين .
ومن أمثلة هذا التفسير تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ﴾ فقد فسروا ﴿القوة﴾ في الآية بما نقلوه عن رسول الله (ص) حيث قال: ﴿ألا إن القوة الرمي، إلا أن القوة الرمي، إلا أن القوة الرمي﴾ ثلاث مرات، والحديث رواه مسلم، وهذا من باب تفسير القرآن بالسُنة .
ومن أمثلة تفسير الصحابة، تفسير أبن عباس لقوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ حيث فسر هذه الآية باقتراب أجل رسول الله (ص) كما نقل في صحيح البخاري .
وقد روى القوم عن التابعين في التفسير روايات كثيرة ، ولا سيما ما روي عن تلاميذ أبن عباس من أمثال مجاهد وعكرمة وعطاء وغيرهم .
ويلاحظ على هذا المنهج من التفسير أنه يعتمد على الرواية في تفسير القرآن الكريم، سواءً أكانت تلك الرواية نصاً من القرآن أو السُنة، أم قولاً لصحابي أو تابعي، وقول الصحابي والتابعي أيضاً لا يخلوا من الرأي أيضاً فقد تختلف التفاسير الواردة عن الصحابة والتابعين .
ومن أشهر كتب التفسير بالمأثور كتاب جامع البيان في تفسير القرآن ومؤلفه الطبري وقد اشتهر هذا التفسير بأسم ﴿تفسير الطبري﴾ وكذلك تفسير القرآن العظيم، ومؤلفه أبن كثير ، وهو من التفاسير المشهورة .
اما الفرقة الثانية وهم الذين فسروا القرآن بالرأي ، ولفقهاء العامة في اعتماد هذا المنهج في التفسير موقفان ، الأول يرى عدم جواز تفسير القرآن بالرأي ، والثاني يرى جواز التفسير بالرأي عن طريق الإجتهاد .
والأمثلة على تفسير القرآن بالرأي كثيرة منها ما أورده الرازي عند تفسير قوله تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾﴿ سورة هود آية 15
﴾ قال: ﴿يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق؛ لأن كل أحد يريد التمتع بلذات الدنيا وطيباتها، والانتفاع بخيراتها وشهواتها،﴾ ثم قال : ﴿إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد هو الكافر، لأن قوله تعالى بعدُ : ﴿أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ﴾ لا يليق إلا بالكفار﴾﴿ - تفسير الرازي - الرازي - ج 17 - ص 198
من الواضح أن هذا التفسير للآية يعتمد على رأي المفسر وكما اننا نشهد تعدد التفاسير وأختلافها بل ان التفسير الواحد ينقل العديد من الأقوال لتفسير آية واحدة حيث يقول بأن القول الأول يقول كذا اما القول الثاني فهو خلاف القول الأول بل تتعدد الأقوال إلى عشرات بل أكثر .
إن هذا النوع من التفسير لم ينحصر عند المخالفين فقط بل ان تفاسير الإمامية أيضاً حاوية على هذه الأقوال الكثيرة والمتناقضة وهذا مما لا يرتضيه الله ولا الرسول ولا الأئمة (ع) إذ قد ورد النهي عن التفسير بالراي في كتب المخالفين قبل الموالين فقد روي عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله (ص) : ﴿من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ﴾﴿ - سنن الترمذي - الترمذي - ج 4 - ص 268 – 269 /السنن الكبرى - النسائي - ج 5 - ص 31
وجاء عن بن عباس عن النبي (ص) قال : ﴿من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار﴾﴿ - السنن الكبرى - النسائي - ج 5 - ص 31
وقد جاء عن أبي بكر انه قال : ﴿أية أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم﴾ . وجاء عن عبد الله أبن عمر بن الخطاب قال : ﴿اتقوا الرأي في دينكم﴾﴿ - الاحكام - أبن حزم - ج 6 - ص 779﴾.
وبالرغم من وجود هذه الأخبار إلا إنهم خالفوها وكتبوا العديد من التفاسير التي تفسر القرآن بالرأي منها تفسير البحر المحيط ومؤلفه أبو حيان الأندلسي الغرناطي وكذلك تفسير روح المعاني لمؤلَّفه الألوسي .
أما الإمامية فلم تسلم تفاسيرهم من ابداء الآراء وتعدد الأقوال حتى انك ترى في أكثر تفاسير الإمامية عدة أقوال لتفسير آية واحدة وهذا أيضاً مشابه لطريقة التفسير بالرأي التي اتبعها المخالفون وهذا خلاف لما أمرنا به فقد جاء عن أبي عبد الله (ع) قال : ﴿... ومن فسر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر﴾﴿ وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 60
ولم يكتفوا بتفسير القرآن بالرأي بل انهم اخذوا تفاسير المخالفين فأعتمدوها كتفسير ﴿أهل الذكر﴾ الواردة في قوله تعالى : ﴿وَمَا أرسلنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾﴿ - سورة النحل آية 43
حيث قال السيد الخوئي في تفسير ﴿أهل الذكر﴾ ما هذا نصه : ﴿ أما الكتاب فقوله عز من قائل : فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ... إذا الآية المباركة قد أوجبت الرجوع إلى المجتهد المطلق متعينا﴾﴿ - كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخوئي شرح ص 230
إن هذا التفسير هو التفسير بالرأي المنهي عنه في أقوال الأئمة (ع) فضلاً عن انه تفسير في قبال النصوص الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) والتي فسرت أهل الذكر بالأئمة المعصومين (ع) بل عدت من قال بغير هذا بالكاذب فقد جاء عن الإمام علي بن الحسين (ع)، والإمام محمد بن علي (ع)، انهما ذكرا وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) عند وفاته إلى ولده وشيعته ، وفيها : ﴿ ... وأمركم أن تسألوا أهل الذكر، ونحن والله أهل الذكر، لا يدعي ذلك غيرنا الا كاذب ... ﴾﴿ - مستدرك الوسائل - ج 17 - ص 283﴾.
وقد جاء عن هشام بن سالم قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله تعالى : ﴿فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون﴾ من هم ؟ قال : ﴿نحن﴾﴿ - المصدر السابق - ص 276﴾.
ومن هذا المثال تتضح طريقة التفسير بالرأي التي اتبعها أكثر الإمامية في تفاسيرهم إلا أن هنالك تفاسير أخرى تُفسر القرآن بما جاء عن أئمة أهل البيت (ع) منها تفسير العياشي للمحدث أبي النظر محمد المعروف بالعياشي وكذلك تفسير نور الثقلين للشيخ العروسي الحويزي ، وغيرها كما ان أول من كَتب في التفسير سعيد بن جبير وهو من أجلاء أصحاب أمير المؤمنين (ع) وقد قتله الحجاج في سنة 94هـ ثم إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي القرشي وهو من أصحاب السجاد والباقر والصادق (ع) الذي توفي سنة 127هـ . ثم محمد بن السائب الكلبي وهو من خواص أصحاب السجاد والباقر ﴿عليهما السلام﴾ توفي سنة 146هـ . ثم جابر الجعفي وغيرهم .
وهذا الاهتمام من أصحاب الأئمة (ع) بالقرآن ان دل على شيء فإنه يدل على حث الأئمة (ع) على تعلم القرآن وعلومه فقد جاء عن أمير المؤمنين (ع)انه قال في بعض خطبه : ﴿وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث ، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور . وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص ، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله ، بل الحجة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند الله ألوم﴾﴿ - نهج البلاغة - خطب الإمام علي ﴿ع﴾ - ج 1 - ص 216
وجاء عن أبي عبد الله (ع) قال : ﴿ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه﴾﴿ - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 607
يتبع
تعليق