نقلا عن كتاب سقيفة الغيبة
التحسين والتقبيح عند الإمامية :
ذهب الإمامية في هذه المسألة إلى ما يشبه قول المعتزلة حيث قال العلامة الحلي ما هذا نصه: ﴿ذهبت الإمامية، ومن تابعهم من المعتزلة، إلى أن من الأفعال ما هو معلوم الحسن ، والقبح بضرورة العقل﴾﴿ نهج الحق وكشف الصدق - العلامة الحلي - ص 82
وقد فصل العلامة الحلي الكلام في الحسن والقبح قائلاً : ﴿ فالحسن ما لا يتعلق بفعله ذم القبيح بخلافه ، والحسن إما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح ويرسم بأنه ما لا مدح فيه على الفعل والترك ، وإما أن يكون له وصف زائد على حسنه فإما أن يستحق المدح بفعله والذم بتركه وهو الواجب ، أو يستحق المدح بفعله ولا يتعلق بتركه ذم وهو المندوب ، أو يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم وهو المكروه ، فقد انقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة : الواجب والمندوب والمباح والمكروه ومع القبيح تبقى الأحكام الحسنة والقبيحة خمسة﴾﴿ - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الآملي) - العلامة الحلي - ص 418﴾.
إن العلامة الحلي وغيره من الإمامية بل حتى المعتزلة قد أقروا بأن من الأفعال ما هو معلوم الحسن والقبح أي ليس كل الأفعال فإن بعض الأفعال يدرك العقل حسنها أو قبحها وبعض آخر يعجز العقل الإنساني عن إدراك حسنها أو قبحها، فيقف العقل عند هذا النوع من الأفعال موقف المتفرج وهذا كلام جميل، وما يؤكده ما ذكره السبحاني في حدود الإدراك العقلي للحسن والقبح حيث قال ما هذا نصه : ﴿ إن النزاع بين القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين والمنكرين لهما ، نزاع بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلي ، فالمثبتون لهما اختاروا أن للعقل قابلية درك حسن الفعل وقبحه على نحو الموجبة الجزئية ، كما أن النافين ينكرون ذلك على نحو السالبة الكلية ﴾﴿ - رسالة في التحسين والتقبيح - الشيخ جعفر السبحاني - ص 21﴾.
ويثبت مما تقدم إن المثبتين لإدراك العقل للحسن والقبح قالوا بأن الإدراك إنما يكون لبعض الأفعال وليس كلها إما النافين فقد قالوا بأن العقل لا يستطيع ان يدرك حسن الأفعال أو قبحها وعجز العقل هنا بشكل مطلق لا إستثناء فيه .
وقبل أن نناقش ما ذهب إليه المثبتون والنافون نحب ان نناقش تفصيل الكلام في الحسن والقبح عند العلامة الحلي وغيره من الإمامية، أن التفصيل الذي ذكره العلامة ومن قبله الشيخ الطوسي وغيرهم لا يدل على ان العقل يحسن أو يقبح بل يدل على ان الشرع هو من يحسن أو يقبح الأفعال فقد قسم العلامة الحلي الأفعال الحسنة إلى أربعة اقسام وهي الواجب والمندوب والمباح والمكروه وهذه اربعة مع القبيح والذي هو الحرام تصير الاقسام خمسة والسؤال الذي يتبادر إلى الاذهان وهو هل أدرك العقل حسن الواجب والمندوب والمباح والمكروه باستقلاله ؟ أي ان العقل علم حسن هذه الأفعال أو قبحها بمفرده ام علم ذلك من خلال الشرع ؟ ثم هل المكروه حسن ؟
إذا قال أحد بأن العقل استحسن الواجب فعمله واستقبح المحرم فتركه فهذا يعني ان الناس مسلمون قبل بعث الأنبياء وما كان الداعي ان يبعث الله الأنبياء أساساً لإدراك العقل الإنساني لما هو واجب وما هو محرم !!
إن كلام العلامة لهو خلط بين ما ذهب إليه المعتزلة وما قاله الاشاعرة حيث ان المعتزلة اقروا بأن العقل يدرك حسن الأفعال وقبحها بينما ذهب الاشاعرة إلى ان إدراك ذلك لا يكون إلا من خلال الشرع فما حسنه الشرع فهو حسن وما قبحه فهو قبيح .
إن فقهاء الإمامية معذورون في هذا الخلط ولعل الخلل ليس منهم بل لآلة الاستنساخ التي اعتادوا على استعمالها فخلطت بين قول المعتزلة وما ذهب إليه الاشاعرة فظهر ما كتبوه بهذا الشكل .
إن العقل الإنساني عاجز عن إدراك حسن أو قبح جميع الأوامر الإلهية أي بمعنى ان العقل لا يستطيع ان يدرك حسن جميع الواجبات وقبح جميع المحرمات ومما يؤكد ذلك هو وجود العديد من الأحكام التعبدية وكما ذكرنا فإن العقل لا يدرك العلة من هذه الأحكام فيقف عندها عاجز ذليل .
إن جميع الأفعال لا بد أن تكون اما حسنة أو قبيحة وقد نقل الشيخ جعفر السبحاني ما ذكره المحقق الخراساني في قوله : ﴿ إن جميع الأفعال غير خارجة عن إطار الحسن والقبح ، وإن كان العقل قاصرا عن الإحاطة بكافة المحاسن والقبائح﴾﴿ - رسالة في التحسين والتقبيح - الشيخ جعفر السبحاني - ص 24﴾.
وهذا كلام جميل إذ ان العقل قد يدرك حسن أو قبح بعض الأفعال إلا أن هذا الإدراك مع القول بقصور العقل الإنساني ليس بالضرورة ان يكون هو الصواب أي أن العقل لا يمكن ان يقطع في جميع الأحوال بصفة الأفعال المطابقة لصفتها عند المشرع سبحانه ولذلك تساءل المحقق الخراساني قائلاً : ﴿فإن قلت : عليه لا بد من استقلال العقل بالحسن أو القبح في جميع الأفعال مع بداهة فساد ذلك﴾ ثم أجاب وقال : ﴿ هذا بالنسبة إلى العقول القاصرة الناقصة لعدم إحاطتها بجهات الخير والشر دون العقول الكاملة المحيطة بجميع جهات الأفعال ، فلا يكاد أن يشذ فعل عن تحت حكومتها بالحسن والقبح ، لكمال إحاطتها بجهاتها ، ولا يبعد أن تكون الصحيفة المكتوبة فيها جميع الأحكام الموروثة من إمام إلى إمام ، كناية عن عقل الإمام المنعكس فيه جميع الكائنات على ما هي عليها لتمام صفائه﴾﴿ رسالة في التحسين والتقبيح - الشيخ جعفر السبحاني - ص 24
إن هذا التساءل من المحقق والجواب عليه فيه بعض اللبس حيث ان الحق في قوله هو ان العقول الإنسانية قاصرة عن الاحاطة بجهات الخير والشر إلا أن المعصومين (ع) وإن كانوا هم خير خلق الله تعالى بل هم العقلاء حق العقلاء، إلا أن الله تعالى لم يوكل التشريع إلى أحد من خلقه، فإن هذه المسألة لم يوكل بها حتى الرسل والملائكة المقربين فقد جاء عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (ع) في حديث قال فيه: ﴿ وإن الله لم يجعل العلم جهلا ولم يكل أمره إلى أحد من خلقه لا إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولكنه أرسل رسولا من ملائكته فقال له : قل كذا وكذا ! فأمرهم بما يحب ونهاهم عما يكره ...- وسائل الشيعة – الحر العاملي - ج 18 - ص 21
إن النبي أو الإمام مع كمال عقله إلا أن عقله لا يوصله دائماً إلى ما يريده الله منه ولذلك أرسل الله ملائكته لهم فأمرهم بما يحب ونهاهم عما يكره ومما يؤكد بأن عقل النبي هو أكمل العقول هو ما جاء عن الرسول (ص) انه قال: ﴿... وما بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل، وكان عقله أفضل من عقل جميع أمته ...- مشكاة الأنوار - علي الطبرسي - ص 440﴾..
إن كمال عقل النبي أو الإمام لا يوصل إلى معرفة الأحكام دون الوحي وهذا ما أكدته الأحاديث الشريفة ولذلك لا يمكن القول بأن عقول الأنبياء أو الأئمة (ع) قادرة على إدراك العلل الإلهية الداعية إلى كون الأفعال حسنة أو قبيحة، ومما يؤكد هذا المعنى هو ما ذكره الشيخ الصدوق في قصة موسى والخضر ﴿عليهما السلام﴾ حيث قال : ﴿ ان موسى عليه السلام مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى ذكره ، لم يستدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر " ع " حتى اشتبه عليه وجه الأمر فيه وسخط جميع ما كان يشاهده حتى أخبر بتأويله فرضى ، ولو لم يخبر بتأويله لما أدركه ولو فنى في الكفر عمره ﴾﴿ - علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 62﴾
إن نبي الله موسى (ع) مع تمام عقله لم يستطع إدراك حسن أحكام الخضر (ع) بل أن موسى (ع) أستقبح ما فعله سيدنا الخضر (ع) وقال له: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾﴿ ﴾ وقال أيضاً : ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾
إن موسى (ع) مع كونه نبي ورسول ومن أولي العزم، وصاحب كتاب سماوي إلا إنه أستقبح بعقله المستقل ما هو حسن عند الله تعالى فكيف بنا ونحن أصحاب العقول القاصرة المتدنية .
إن للأفعال تحسين وتقبيح ولكن العقل الإنساني بأستقلاله لا يستطيع ان يميز الأفعال الحسنة كلها كما أنه لا يستطيع ان يميز جميع الأفعال القبيحة، ولذلك بعث الله الأنبياء والرسل (ع) لكي يبينوا للناس من خلال وحي الله لا من خلال عقولهم قبح ما أستحسنه الخلق وحسن ما استقبحوه . نعم إن العقل المستقل استطاع ان يدرك طبيعة بعض هذه الأفعال، واننا لا نقول ان العقل الإنساني المستقل لا يستطيع تمييز جميع الأفعال الحسنة إطلاقاً، بل ان العقل استطاع ان يميز قسم منها لا كلها ولذلك قال النبي (ص): ﴿ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ﴾﴿ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 16 - ص 210﴾ أي ان الإنسان استطاع ان يدرك بعقله بعض مكارم الاخلاق والاخلاق إنما هي عمل الأفعال الحسنة وترك الأفعال القبيحة إلا أن العقل الإنساني المستقل عن الشرع لم يستطع إدراك جميع مكارم الاخلاق ولهذا السبب فإن العقل الإنساني لا يستطيع تمييز الحسن والقبيح من كل الأفعال فإن بعض الأفعال الحسنة عند الله يراها العقل الإنساني قبيحة والعكس صحيح كما حدث مع نبي الله موسى (ع).
إن الحق يقال ان العقل الإنساني مع تفاوته في الفهم والإدراك يستطيع ان يحسن أو يقبح بعض الأفعال إلا إننا نقول : ليس بالضرورة ان تكون هذه التحسينات أو التقبيحات مطابقة للشرع، فلعل العقل يحسن بعض الامور هي قبيحة في الشريعة والعكس أيضاً، ولذلك ذكر الله تعالى لنا بعض اصناف الناس الذين ضلوا في الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾﴿ ﴾ وقال تعالى : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾وقال تعالى : ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾﴿ ﴾ وقال تعالى : ﴿ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾
إن هذه الآيات خير شاهد على ان العقل قد يحسب انه يحسن الصنع إلا أن هذا الحسبان عند الله ضلالة وكفر، كما أن العقل قد يشعر بانه من المصلحين إلا إنه عند الله من المفسدين، وقد يحب شيء وهو شر له وقد يستبدل الادنى بالذي هو خير وكل هذا يدل على قصور العقل الإنساني عن التمييز الكامل بين ما هو حسن عند الله مما هو قبيح .
وعليه فإن العقل لا يمكنه بمفرده ان يحسن ويقبح ما يحسنه الله ويقبحه فقد يحسن أمراً هو عند الله قبيح وقد يقبح أمراً هو عند الله حسن.
نعم إن العقل يدرك ان الإيمان حسن والعدل حسن ويدرك أيضاً ان الكفر قبيح والظلم قبيح وغيرها من هذا القبيل، ولكن الحق يقال ان استحسان العقل لهذه المسائل إنما هو لارتباطه بالدين فإن العقل ادرك حسن الإيمان والعدل وقبح الكفر والظلم بعد أن جاء بيان الشرع عن طريق الأنبياء (ع) من خلال وحي الله تبارك وتعالى .
في الحقيقة إن استحسان العقل لهذه الامور إنما جاء بعد بيان الشريعة لحقائق هذه الامور ولم يستحسن العقل الإيمان قبل أن تبين الشريعة معنى الإيمان ولو كان عكس هذا لاستطاع العقل ان يدرك الإيمان والكفر بمفرده ولما كان داعي أصلاً لبعث الأنبياء (ع) فالحق يقال ان العقل قد يستحسن الكفر أو الشرك ويقبح الإيمان كما هو الحال في الجاهلية .
إن الأفعال بحد ذاتها تحمل صفات الحسن والقبح ولكن هذا التحسين والتقبيح تابع للظروف وللمجتمعات فكم من عادة تستحسن عند بعض المجتمعات وتستقبح عند مجتمعات أخرى وعليه فإن العقل الإنساني ميال لاستحسان الأفعال واستقباحها بتبعيته للمجتمع الذي نشأ فيه فإن تأثير المجتمع في العقل الإنساني يجعله يستحسن ويستقبح الكثير من الامور وقد ذم أمير المؤمنين (ع) الذين يصنفون المعروف والمنكر بحسب عقولهم وذلك في قوله : ﴿فيا عجبا! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ! لا يقتفون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصي ، يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات ، وأسباب محكمات﴾﴿ وسائل الشيعة – الحر العاملي - ج27 - ص160﴾
إن هذا الحديث الشريف يدلنا على ردع الشريعة لما تعارفناه وما تناكرناه بحسب آرائنا فلا بد في امور الدين أن نعرف قول المشرع فيما هو منكر قبيح وما هو معروف حسن فليس بالضرورة أن معروفنا هو معروف عند الله أو أن يكون ما ننكره هو منكر عند الله .
إن الفقهاء حينما عجزوا عن إدراك حسن بعض الأفعال أو قبحها قالوا بمقالة عجيبة وهي قولهم بأن هنالك بعض الأفعال لا هي حسنة ولا هي قبيحة وأستدلوا على ذلك بما يسمونه بالمباح قال السبحاني : ﴿يمكن أن يكون بعض الأفعال في نفس الأمر فاقدا لأحد الوصفين ، أعني : لا يكون حسنا ولا قبيحا وتكون نسبتهما إلى الفعل على حد سواء﴾﴿ - رسالة في التحسين والتقبيح - الشيخ جعفر السبحاني - ص 21﴾.
إن القول بأن هنالك مباح في الشريعة ليس عليه دليل رصين بل كل الأدلة مخالفة للقرآن كما سيأتي في نهاية مبحث دليل العقل، وسنثبت حينها بأن كل الأوامر الإلهية تنحصر في الحلال والحرام بما فيها المستحب والمكروه .
هنالك مسألة أخرى قد طرحت وهي صحيحة وهي تغير صفة الفعل من القبح إلى الحسن وبالعكس مع تغير الزمان حيث ان من الأفعال ما تكون قبيحة أو حسنة على اعتبار الزمان كنسخ الشرائع أو كتعمد الاجهار بالاكل والشرب فإن هذه الحالة تكون قبيحة لو كان الأمر في نهار شهر رمضان وقد يكون حسن في غير الشهر الكريم وغيرها من الامور الأخرى وفي بعض هذه المسائل لا يدرك العقل الإنساني قبح هذه الأفعال أو حسنها وخير شاهد على هذه المسألة هو وقوع النسخ في الشرائع السماوية فمن الأفعال ما نهى الشرع عنها ثم أمر بها أو العكس وفي هذه الحالة لا يدرك العقل المستقل العلة من ذلك الا ببيان الشرع ويستنتج من ذلك ان صفة الحسن والقبح لا تكون ملازمة لجميع الأفعال فإن من الأفعال ما تلبس لباس الحسن في وقت معين ثم تخلعه وترتدي لباس القبح، وهذا التغير في صفات الأفعال لا يدرك بالعقل دائماً إلا من خلال الشرع وهذا ما يؤكد قصور العقول عن إدراك جميع صفات الأفعال .
والخلاصة مما تقدم نقول : إن الأفعال لا بد أن تكون أما حسنة أو قبيحة ولا شيء غير هذا علما ان العقل الإنساني يدرك حسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر، إلا أن هذا الإدراك ليس بالضرورة ان يوافق الشرع فليس كل ما أستحسنه العقل يستحسنه الشرع وليس كل ما أستقبحه العقل يستقبحه الشرع بل قد يقع التعارض فيما بين العقل والشرع فقد سيتحسن العقل فعل قد أستقبحه الشرع والعكس كذلك .
التحسين والتقبيح عند الإمامية :
ذهب الإمامية في هذه المسألة إلى ما يشبه قول المعتزلة حيث قال العلامة الحلي ما هذا نصه: ﴿ذهبت الإمامية، ومن تابعهم من المعتزلة، إلى أن من الأفعال ما هو معلوم الحسن ، والقبح بضرورة العقل﴾﴿ نهج الحق وكشف الصدق - العلامة الحلي - ص 82
وقد فصل العلامة الحلي الكلام في الحسن والقبح قائلاً : ﴿ فالحسن ما لا يتعلق بفعله ذم القبيح بخلافه ، والحسن إما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح ويرسم بأنه ما لا مدح فيه على الفعل والترك ، وإما أن يكون له وصف زائد على حسنه فإما أن يستحق المدح بفعله والذم بتركه وهو الواجب ، أو يستحق المدح بفعله ولا يتعلق بتركه ذم وهو المندوب ، أو يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم وهو المكروه ، فقد انقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة : الواجب والمندوب والمباح والمكروه ومع القبيح تبقى الأحكام الحسنة والقبيحة خمسة﴾﴿ - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الآملي) - العلامة الحلي - ص 418﴾.
إن العلامة الحلي وغيره من الإمامية بل حتى المعتزلة قد أقروا بأن من الأفعال ما هو معلوم الحسن والقبح أي ليس كل الأفعال فإن بعض الأفعال يدرك العقل حسنها أو قبحها وبعض آخر يعجز العقل الإنساني عن إدراك حسنها أو قبحها، فيقف العقل عند هذا النوع من الأفعال موقف المتفرج وهذا كلام جميل، وما يؤكده ما ذكره السبحاني في حدود الإدراك العقلي للحسن والقبح حيث قال ما هذا نصه : ﴿ إن النزاع بين القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين والمنكرين لهما ، نزاع بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلي ، فالمثبتون لهما اختاروا أن للعقل قابلية درك حسن الفعل وقبحه على نحو الموجبة الجزئية ، كما أن النافين ينكرون ذلك على نحو السالبة الكلية ﴾﴿ - رسالة في التحسين والتقبيح - الشيخ جعفر السبحاني - ص 21﴾.
ويثبت مما تقدم إن المثبتين لإدراك العقل للحسن والقبح قالوا بأن الإدراك إنما يكون لبعض الأفعال وليس كلها إما النافين فقد قالوا بأن العقل لا يستطيع ان يدرك حسن الأفعال أو قبحها وعجز العقل هنا بشكل مطلق لا إستثناء فيه .
وقبل أن نناقش ما ذهب إليه المثبتون والنافون نحب ان نناقش تفصيل الكلام في الحسن والقبح عند العلامة الحلي وغيره من الإمامية، أن التفصيل الذي ذكره العلامة ومن قبله الشيخ الطوسي وغيرهم لا يدل على ان العقل يحسن أو يقبح بل يدل على ان الشرع هو من يحسن أو يقبح الأفعال فقد قسم العلامة الحلي الأفعال الحسنة إلى أربعة اقسام وهي الواجب والمندوب والمباح والمكروه وهذه اربعة مع القبيح والذي هو الحرام تصير الاقسام خمسة والسؤال الذي يتبادر إلى الاذهان وهو هل أدرك العقل حسن الواجب والمندوب والمباح والمكروه باستقلاله ؟ أي ان العقل علم حسن هذه الأفعال أو قبحها بمفرده ام علم ذلك من خلال الشرع ؟ ثم هل المكروه حسن ؟
إذا قال أحد بأن العقل استحسن الواجب فعمله واستقبح المحرم فتركه فهذا يعني ان الناس مسلمون قبل بعث الأنبياء وما كان الداعي ان يبعث الله الأنبياء أساساً لإدراك العقل الإنساني لما هو واجب وما هو محرم !!
إن كلام العلامة لهو خلط بين ما ذهب إليه المعتزلة وما قاله الاشاعرة حيث ان المعتزلة اقروا بأن العقل يدرك حسن الأفعال وقبحها بينما ذهب الاشاعرة إلى ان إدراك ذلك لا يكون إلا من خلال الشرع فما حسنه الشرع فهو حسن وما قبحه فهو قبيح .
إن فقهاء الإمامية معذورون في هذا الخلط ولعل الخلل ليس منهم بل لآلة الاستنساخ التي اعتادوا على استعمالها فخلطت بين قول المعتزلة وما ذهب إليه الاشاعرة فظهر ما كتبوه بهذا الشكل .
إن العقل الإنساني عاجز عن إدراك حسن أو قبح جميع الأوامر الإلهية أي بمعنى ان العقل لا يستطيع ان يدرك حسن جميع الواجبات وقبح جميع المحرمات ومما يؤكد ذلك هو وجود العديد من الأحكام التعبدية وكما ذكرنا فإن العقل لا يدرك العلة من هذه الأحكام فيقف عندها عاجز ذليل .
إن جميع الأفعال لا بد أن تكون اما حسنة أو قبيحة وقد نقل الشيخ جعفر السبحاني ما ذكره المحقق الخراساني في قوله : ﴿ إن جميع الأفعال غير خارجة عن إطار الحسن والقبح ، وإن كان العقل قاصرا عن الإحاطة بكافة المحاسن والقبائح﴾﴿ - رسالة في التحسين والتقبيح - الشيخ جعفر السبحاني - ص 24﴾.
وهذا كلام جميل إذ ان العقل قد يدرك حسن أو قبح بعض الأفعال إلا أن هذا الإدراك مع القول بقصور العقل الإنساني ليس بالضرورة ان يكون هو الصواب أي أن العقل لا يمكن ان يقطع في جميع الأحوال بصفة الأفعال المطابقة لصفتها عند المشرع سبحانه ولذلك تساءل المحقق الخراساني قائلاً : ﴿فإن قلت : عليه لا بد من استقلال العقل بالحسن أو القبح في جميع الأفعال مع بداهة فساد ذلك﴾ ثم أجاب وقال : ﴿ هذا بالنسبة إلى العقول القاصرة الناقصة لعدم إحاطتها بجهات الخير والشر دون العقول الكاملة المحيطة بجميع جهات الأفعال ، فلا يكاد أن يشذ فعل عن تحت حكومتها بالحسن والقبح ، لكمال إحاطتها بجهاتها ، ولا يبعد أن تكون الصحيفة المكتوبة فيها جميع الأحكام الموروثة من إمام إلى إمام ، كناية عن عقل الإمام المنعكس فيه جميع الكائنات على ما هي عليها لتمام صفائه﴾﴿ رسالة في التحسين والتقبيح - الشيخ جعفر السبحاني - ص 24
إن هذا التساءل من المحقق والجواب عليه فيه بعض اللبس حيث ان الحق في قوله هو ان العقول الإنسانية قاصرة عن الاحاطة بجهات الخير والشر إلا أن المعصومين (ع) وإن كانوا هم خير خلق الله تعالى بل هم العقلاء حق العقلاء، إلا أن الله تعالى لم يوكل التشريع إلى أحد من خلقه، فإن هذه المسألة لم يوكل بها حتى الرسل والملائكة المقربين فقد جاء عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (ع) في حديث قال فيه: ﴿ وإن الله لم يجعل العلم جهلا ولم يكل أمره إلى أحد من خلقه لا إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولكنه أرسل رسولا من ملائكته فقال له : قل كذا وكذا ! فأمرهم بما يحب ونهاهم عما يكره ...- وسائل الشيعة – الحر العاملي - ج 18 - ص 21
إن النبي أو الإمام مع كمال عقله إلا أن عقله لا يوصله دائماً إلى ما يريده الله منه ولذلك أرسل الله ملائكته لهم فأمرهم بما يحب ونهاهم عما يكره ومما يؤكد بأن عقل النبي هو أكمل العقول هو ما جاء عن الرسول (ص) انه قال: ﴿... وما بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل، وكان عقله أفضل من عقل جميع أمته ...- مشكاة الأنوار - علي الطبرسي - ص 440﴾..
إن كمال عقل النبي أو الإمام لا يوصل إلى معرفة الأحكام دون الوحي وهذا ما أكدته الأحاديث الشريفة ولذلك لا يمكن القول بأن عقول الأنبياء أو الأئمة (ع) قادرة على إدراك العلل الإلهية الداعية إلى كون الأفعال حسنة أو قبيحة، ومما يؤكد هذا المعنى هو ما ذكره الشيخ الصدوق في قصة موسى والخضر ﴿عليهما السلام﴾ حيث قال : ﴿ ان موسى عليه السلام مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى ذكره ، لم يستدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر " ع " حتى اشتبه عليه وجه الأمر فيه وسخط جميع ما كان يشاهده حتى أخبر بتأويله فرضى ، ولو لم يخبر بتأويله لما أدركه ولو فنى في الكفر عمره ﴾﴿ - علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 62﴾
إن نبي الله موسى (ع) مع تمام عقله لم يستطع إدراك حسن أحكام الخضر (ع) بل أن موسى (ع) أستقبح ما فعله سيدنا الخضر (ع) وقال له: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾﴿ ﴾ وقال أيضاً : ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾
إن موسى (ع) مع كونه نبي ورسول ومن أولي العزم، وصاحب كتاب سماوي إلا إنه أستقبح بعقله المستقل ما هو حسن عند الله تعالى فكيف بنا ونحن أصحاب العقول القاصرة المتدنية .
إن للأفعال تحسين وتقبيح ولكن العقل الإنساني بأستقلاله لا يستطيع ان يميز الأفعال الحسنة كلها كما أنه لا يستطيع ان يميز جميع الأفعال القبيحة، ولذلك بعث الله الأنبياء والرسل (ع) لكي يبينوا للناس من خلال وحي الله لا من خلال عقولهم قبح ما أستحسنه الخلق وحسن ما استقبحوه . نعم إن العقل المستقل استطاع ان يدرك طبيعة بعض هذه الأفعال، واننا لا نقول ان العقل الإنساني المستقل لا يستطيع تمييز جميع الأفعال الحسنة إطلاقاً، بل ان العقل استطاع ان يميز قسم منها لا كلها ولذلك قال النبي (ص): ﴿ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ﴾﴿ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 16 - ص 210﴾ أي ان الإنسان استطاع ان يدرك بعقله بعض مكارم الاخلاق والاخلاق إنما هي عمل الأفعال الحسنة وترك الأفعال القبيحة إلا أن العقل الإنساني المستقل عن الشرع لم يستطع إدراك جميع مكارم الاخلاق ولهذا السبب فإن العقل الإنساني لا يستطيع تمييز الحسن والقبيح من كل الأفعال فإن بعض الأفعال الحسنة عند الله يراها العقل الإنساني قبيحة والعكس صحيح كما حدث مع نبي الله موسى (ع).
إن الحق يقال ان العقل الإنساني مع تفاوته في الفهم والإدراك يستطيع ان يحسن أو يقبح بعض الأفعال إلا إننا نقول : ليس بالضرورة ان تكون هذه التحسينات أو التقبيحات مطابقة للشرع، فلعل العقل يحسن بعض الامور هي قبيحة في الشريعة والعكس أيضاً، ولذلك ذكر الله تعالى لنا بعض اصناف الناس الذين ضلوا في الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾﴿ ﴾ وقال تعالى : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾وقال تعالى : ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾﴿ ﴾ وقال تعالى : ﴿ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾
إن هذه الآيات خير شاهد على ان العقل قد يحسب انه يحسن الصنع إلا أن هذا الحسبان عند الله ضلالة وكفر، كما أن العقل قد يشعر بانه من المصلحين إلا إنه عند الله من المفسدين، وقد يحب شيء وهو شر له وقد يستبدل الادنى بالذي هو خير وكل هذا يدل على قصور العقل الإنساني عن التمييز الكامل بين ما هو حسن عند الله مما هو قبيح .
وعليه فإن العقل لا يمكنه بمفرده ان يحسن ويقبح ما يحسنه الله ويقبحه فقد يحسن أمراً هو عند الله قبيح وقد يقبح أمراً هو عند الله حسن.
نعم إن العقل يدرك ان الإيمان حسن والعدل حسن ويدرك أيضاً ان الكفر قبيح والظلم قبيح وغيرها من هذا القبيل، ولكن الحق يقال ان استحسان العقل لهذه المسائل إنما هو لارتباطه بالدين فإن العقل ادرك حسن الإيمان والعدل وقبح الكفر والظلم بعد أن جاء بيان الشرع عن طريق الأنبياء (ع) من خلال وحي الله تبارك وتعالى .
في الحقيقة إن استحسان العقل لهذه الامور إنما جاء بعد بيان الشريعة لحقائق هذه الامور ولم يستحسن العقل الإيمان قبل أن تبين الشريعة معنى الإيمان ولو كان عكس هذا لاستطاع العقل ان يدرك الإيمان والكفر بمفرده ولما كان داعي أصلاً لبعث الأنبياء (ع) فالحق يقال ان العقل قد يستحسن الكفر أو الشرك ويقبح الإيمان كما هو الحال في الجاهلية .
إن الأفعال بحد ذاتها تحمل صفات الحسن والقبح ولكن هذا التحسين والتقبيح تابع للظروف وللمجتمعات فكم من عادة تستحسن عند بعض المجتمعات وتستقبح عند مجتمعات أخرى وعليه فإن العقل الإنساني ميال لاستحسان الأفعال واستقباحها بتبعيته للمجتمع الذي نشأ فيه فإن تأثير المجتمع في العقل الإنساني يجعله يستحسن ويستقبح الكثير من الامور وقد ذم أمير المؤمنين (ع) الذين يصنفون المعروف والمنكر بحسب عقولهم وذلك في قوله : ﴿فيا عجبا! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ! لا يقتفون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصي ، يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات ، وأسباب محكمات﴾﴿ وسائل الشيعة – الحر العاملي - ج27 - ص160﴾
إن هذا الحديث الشريف يدلنا على ردع الشريعة لما تعارفناه وما تناكرناه بحسب آرائنا فلا بد في امور الدين أن نعرف قول المشرع فيما هو منكر قبيح وما هو معروف حسن فليس بالضرورة أن معروفنا هو معروف عند الله أو أن يكون ما ننكره هو منكر عند الله .
إن الفقهاء حينما عجزوا عن إدراك حسن بعض الأفعال أو قبحها قالوا بمقالة عجيبة وهي قولهم بأن هنالك بعض الأفعال لا هي حسنة ولا هي قبيحة وأستدلوا على ذلك بما يسمونه بالمباح قال السبحاني : ﴿يمكن أن يكون بعض الأفعال في نفس الأمر فاقدا لأحد الوصفين ، أعني : لا يكون حسنا ولا قبيحا وتكون نسبتهما إلى الفعل على حد سواء﴾﴿ - رسالة في التحسين والتقبيح - الشيخ جعفر السبحاني - ص 21﴾.
إن القول بأن هنالك مباح في الشريعة ليس عليه دليل رصين بل كل الأدلة مخالفة للقرآن كما سيأتي في نهاية مبحث دليل العقل، وسنثبت حينها بأن كل الأوامر الإلهية تنحصر في الحلال والحرام بما فيها المستحب والمكروه .
هنالك مسألة أخرى قد طرحت وهي صحيحة وهي تغير صفة الفعل من القبح إلى الحسن وبالعكس مع تغير الزمان حيث ان من الأفعال ما تكون قبيحة أو حسنة على اعتبار الزمان كنسخ الشرائع أو كتعمد الاجهار بالاكل والشرب فإن هذه الحالة تكون قبيحة لو كان الأمر في نهار شهر رمضان وقد يكون حسن في غير الشهر الكريم وغيرها من الامور الأخرى وفي بعض هذه المسائل لا يدرك العقل الإنساني قبح هذه الأفعال أو حسنها وخير شاهد على هذه المسألة هو وقوع النسخ في الشرائع السماوية فمن الأفعال ما نهى الشرع عنها ثم أمر بها أو العكس وفي هذه الحالة لا يدرك العقل المستقل العلة من ذلك الا ببيان الشرع ويستنتج من ذلك ان صفة الحسن والقبح لا تكون ملازمة لجميع الأفعال فإن من الأفعال ما تلبس لباس الحسن في وقت معين ثم تخلعه وترتدي لباس القبح، وهذا التغير في صفات الأفعال لا يدرك بالعقل دائماً إلا من خلال الشرع وهذا ما يؤكد قصور العقول عن إدراك جميع صفات الأفعال .
والخلاصة مما تقدم نقول : إن الأفعال لا بد أن تكون أما حسنة أو قبيحة ولا شيء غير هذا علما ان العقل الإنساني يدرك حسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر، إلا أن هذا الإدراك ليس بالضرورة ان يوافق الشرع فليس كل ما أستحسنه العقل يستحسنه الشرع وليس كل ما أستقبحه العقل يستقبحه الشرع بل قد يقع التعارض فيما بين العقل والشرع فقد سيتحسن العقل فعل قد أستقبحه الشرع والعكس كذلك .