نقلا عن كتاب سقيفة الغيبة
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
إن الفقهاء قد بينوا بأن المثبتين للحسن والقبح لا يقولون بأن العقل الإنساني قادر على إدراك جميع الأفعال الحسنة والقبيحة بل أنه عاجز عن ذلك إلا إنهم مع أقرارهم بهذا العجز قالوا بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع !!
إن معنى الملازمة هو كل ما يحكم به العقل يحكم به الشرع والعكس صحيح أيضاً وهذه القاعدة مع شذوذها وتعارضها مع كلام الفقهاء أنفسهم والأهم من ذلك تعارضها مع الكتاب وكلام الأئمة (ع) إلا إنه مع هذا التعارض والشذوذ لاقت قاعدة الملازمة منتهى الاعجاب عند أغلب الفقهاء فعولوا عليها في الافتاء والحكم .
إن أغلب فقهاء العامة قالوا بأن العقل يدرك الحسن والقبيح من الأفعال ولكن هذا الإدراك لا يستلزم موافقة الشرع بل أن الفعل يكون صالحاً لاستحقاق الأمر والنهي بمعنى ان الفعل الحسن يستحق موافقة الشرع عليه والقبيح على العكس وهذا الاستحقاق راجح وليس بواجب، وأن الداعي إلى هذا الاستحقاق هو أن الله لا يأمر بنقيض ما يدرك العقل حسنه وإليكم نص ما قاله إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي ﴿المتوفى : 790هـ﴾ : ﴿أن الحسن والقبح يدركان بالعقل، ولكن ذلك لا يستلزم حكماً في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحا لاستحقاق الأمر والنهي ، والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه ، أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه ؛ لأن ما أدرك العقل حسنه أو قبحه راجح ونقيضه مرجوح ، بمعنى أن صفة الحسن في الفعل ترجح جانب الأمر به على جانب الأمر بنقيضه القبيح ، وصفة القبح في الفعل ترجح جانب النهي عنه على جانب النهي عن نقيضه الحسن ، عملا في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفات الله سبحانه ؛ فلا حكم إلا من الخطاب الشرعي ، ولا أمر ولا نهي إلا من قبل الشارع الحكيم﴾﴿ - الموافقات - إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي –ج1 - ص 129﴾.
الذي يفهم مما تقدم بأن العقل يدرك الحسن والقبح في الأفعال وهو مع هذا الإدراك يرجح كون ما أدرك حسنه هو حسن عند الله وما أدرك قبحه هو قبيح عند الله، وهذا الترجيح ما هو إلا ظن والشرع قد أمرنا باجتناب الظن في أكثر من آية كريمة وعليه فإن الملازمة بين ما يدركه العقل وحكم الشرع ملازمة ظنية وليست قطعية فلا ترتقي هذه الملازمة إلى القطعية الا بعد ورود الحكم من الشرع الحكيم وكما قال الشاطبي نفسه بانه لا أمر ولا نهي إلا من قبل الشارع الحكيم فإذا أنحصر الأمر والنهي في الشرع فما هو الداعي لاستخدام العقل القاصر ؟؟
أما فقهاء الإمامية فقد وقع بينهم نزاع كبير في هذه المسألة حيث ذهب الأصوليين إلى جواز الملازمة وذهب الأخباريون إلى النقيض حيث ينقل الشيخ الخراساني ما قاله الأخباريون في قوله : ﴿ينسب إلى جملة من الأخباريين عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية ، وقد أنكر بعض الأعاظم هذه النسبة وأدعى أن الأخباريين إنما ينكرون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع . وذهب آخرون منهم إلى عدم حصول القطع من المقدمات العقلية وأنها لا تفيد إلا الظن﴾﴿ فوائد الأصول - الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني - ج 3 - ص 57
إن موقف الأخباريين من أستخدام العقل في التشريع واضح النكران وقد ذكرنا موقفهم هذا في أكثر من مقام إلا أن ما يهمنا هنا هو بيان موقف الأصوليين من أستخدام العقل والقول بالملازمة العقلية، حيث أنهم قد أطنبوا في ادعاء الملازمات العقلية والحكم طبقا لما يقوله العقل وقبل أن نناقش هذه المسألة يجب علينا بيان أقوالهم ثم عرض ما ذهبوا إليه على الكتاب والسُنة لتبيان بطلان طريقتهم العقلية وإليك نص ما قالوه :
قال الشيخ الخراساني : ﴿ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، بمعنى أنه في المورد الذي استقل العقل بحسن شيء أو قبحه فعلى طبقه يحكم الشرع بوجوبه أو حرمته، وهو المراد من قولهم" كلما حكم به العقل حكم به الشرع" - المصدر السابق - ص 60
وقال الشيخ محمد رضا المظفر: ﴿ كل ما حكم به العقل حكم به الشرع على طبقه ﴾﴿ - أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 2 - ص 264﴾ وقال أيضاً : ﴿ والحق أن الملازمة ثابتة عقلا ، فإن العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه - أي أنه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه لما فيه من الإخلال بذلك - فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع ، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم،﴾﴿ - أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 2 - ص 293﴾
وقال السيد محمد باقر الصدر ما هذا نصه : ﴿الحسن والقبح أمران واقعيان يدركهما العقل . ومرجع الأول إلى أن الفعل مما ينبغي صدوره . ومرجع الثاني إلى أنه مما لا ينبغي صدوره . وهذا الانبغاء إثباتا وسلبا أمر تكويني واقعي وليس مجعولا . ودور العقل بالنسبة إليه دور المدرك لا دور المنشئ والحاكم ، ويسمى هذا الإدراك بالحكم العقلي توسعا . وقد أدعى جماعة من الأصوليين الملازمة بين حسن الفعل عقلا ، والأمر به شرعاً ، وبين قبح الفعل عقلا والنهي عنه شرعا﴾﴿ دروس في علم الأصول - السيد محمد باقر الصدر - ج 1 - ص 324
وقال السيد محمد سعيد الحكيم : ﴿ المعروف بين أصحابنا ثبوت الملازمة المذكورة، ولذا تكرر في كلماتهم الاستدلال على حرمة بعض الأمور شرعاً بدليل العقل ، لابتناء الاستدلال به على إدراك قبحه ، وهو إنما يقتضي حكم الشارع بحرمتها بضميمة الملازمة المذكورة﴾﴿ - الكافي في أصول الفقه ـ محمد سعيد الحكيم – ج1- ص 390 ﴾.
ونقل السيد محمد سعيد الحكيم عن بعض معاصريه أنه قال : ﴿ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه... فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم، لأنه منهم، بل رئيسهم، فهو بما هو عاقل - بل خالق العقل - كسائر العقلاء لا بد أن يحكم بما يحكمون﴾﴿ - المصدر السابق﴾.
قبل أن نناقش ما تقدم من كلام الفقهاء نحب ان ننوه إلى مسألة قد ذكرناها وهي أن المثبتين للملازمة العقلية قالوا بأن العقل قاصر عن إدراك حسن أو قبح جميع الأفعال إلا إنهم مع قولهم بقصور العقل ذهبوا إلى القول بالملازمة بين حكم العقل والشرع بل أنهم قد جعلوا الشرع تابع للعقل وليس العكس .
إن العقل الإنساني قد يدرك جهة المفسدة أو المصلحة في فعل من الأفعال فيقبح ويستحسن ما يدركه إلا أن حكم عقل في ما يدركه قد يكون مطابقاً للشرع وقد لا يكون، فربما تكون هنالك مصلحة في فعل من الأفعال ولم يكن على طبقها حكم شرعي، كقول رسول الله (ص): ﴿لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك﴾ ان السواك فيه مصلحة قد يدركها العقل إلا أن هذه المصلحة قد تعارضت مع المشقة على الأمة فترك الشرع الأمر بالوجوب لمصلحة أخرى قد بينها رسول الله (ص)﴾ وهي تجنب المشقة على الأمة، ومما تقدم نفهم بشكل اوضح ما بيناه في بداية الكلام هو ان العقل قد يدرك جانب من المصلحة ويغفل عن جانب آخر وهو الأهم في نظر الشرع المقدس وقد فسر البعض الحقيقة بأنها عبارة عن هرم له جوانب مختلفة والإنسان ينظر إلى الجانب أو الضلع الذي أمامه فيحكم بما يراه إلا أن الحق هو ان الإنسان قد خفيت عليه اضلاع الهرم الأخرى ولم ينظر إليها، وكذلك الأفعال فإن للأفعال وجوه للمصلحة ولعل ما يدركه العقل مصلحة صغرى تتعارض مع مصلحة كبرى قد غفل عنها وبالنتيجة قد يحكم العقل وفق ما يراه من مصلحة في نظره إلا أن حكمه هذا مخالف لحكم الشرع فيحرم ما هو حلال عند الشرع ويحلل ما هو حرام .
إننا إذا تنزلنا جدلاً وقلنا ان الإدراك الجزئي للعقل يكفي في أثبات الحسن والقبيح من الأفعال بل إذا زدنا في القول وقلنا بأن العقل يدرك حسن وقبح جميع الأفعال دون إستثناء وهذا محال إلا أن فرض المحال ليس بمحال كما يعبرون ومع هذا الفرض الممتنع إذا جاء الحكم الإلهي بالمنع من إتباع العقول في التشريع هل سنمتنع من إستخدام العقل ؟ وإذا أراد الله تعالى بأن لا نسبقه بالقول ولا نعقب على حكمه هل سنستجيب للأمر الإلهي أم سنقول هذا خلاف سيرة العقلاء ؟؟!!
إن قاعدة الملازمة حتى وان غض البصر عن ما تقدم بشأنها من الكلام إلا إنه يبقى ما هو الأهم من كلامنا وكلام الفقهاء بل هو العمدة عند المتشرع وهو الرجوع إلى الثقلين الكتاب والسُنة فإن الأدلة منهما قامت على خلاف ما ذهب إليه الفقهاء حيث أمرنا الله تعالى بأن لا نسبقه ولا نعقب على أحكامه قال تعالى : ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾وقال تعالى : ﴿ وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
لقد أمرنا الله تعالى بأن لا نسبقه بالقول ولا نعقب على حكمه وذلك لعجز عقولنا القاصرة عن إدراك المصالح والمفاسد الداعية لكون الأحكام الشرعية بل أننا علمنا مما تقدم بأن أهل البيت (ع) هم أولي العقل والعلم وقد جاء عن الحسين أنه سأل الإمام جعفر بن محمد (ع) عن قوله تعالى : ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ قال : ﴿أولي العقل والعلم ، قلنا : أخاص ؟ أو عام ؟ قال : خاص لنا﴾﴿ وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 136
إن أهل البيت (ع) هم العقلاء بل أنهم سادة العقلاء وخير خلق الله ومع هذه المكانه المرموقة إلا إنهم لا يسبقون الله بالقول وهم بأمره يعملون فقد جاء عن جابر الجعفي قال : سمعت أبا جعفر (ع) يقول : ﴿﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ﴾ وأومأ بيده إلى صدره وقال: ﴿ لا يسبقونه بالقول﴾ إلى قوله : ﴿وهم من خشيته مشفقون﴾﴾﴿ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 24 - ص 91
وقال أمير المؤمنين (ع) لسلمان وأبي ذر﴿رضي الله عنهما﴾ : ﴿... ونحن عباد الله المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾﴿ - المصدر السابق - ج 26 - ص 7﴾.
﴾.
فإذا كان أهل البيت (ع) وهم أكمل الناس عقلاً لا يسبقون الله بالقول ولا يعقبون على حكم الله فكيف بنا ونحن أصحاب العقول القاصرة أن ندرك محاسن الأفعال وقبائحها قبل أن نعرف قول الشرع في هذه الأفعال وياليتنا ندعي ذلك فحسب بل نجبر الشرع على أن يوافق ما أستحسناه وما أستقبحناه ومع اعترافنا بقصور عقولنا عن إدراك حسن جميع الأفعال وقبحها والأخبار الشريفة تدل على أن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة فقد جاء عن الإمام علي بن الحسين ﴿عليهما السلام﴾ أنه قال : ﴿إن دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقائيس الفاسدة ، ولا يصاب إلا بالتسليم ، فمن سلم لنا سلم ، ومن اقتدى بنا هدى ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه شيئاً مما نقوله أو نقضي به حرجاً كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم﴾﴿كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 324
هذا منهج أهل البيت (ع) ومن وجد في نفسه حرج من هذا المنهج الإلهي فقد كفر بالذي أنزل القرآن وهو غافل عن كفره .
وجاء عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: ﴿ اعلموا عباد الله، أن المؤمن يستحل العام ما استحل عاما أول، ويحرم العام ما حرم عاما أول، وإن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئاً مما حرم عليكم ، ولكن الحلال ما أحل الله ، والحرام ما حرم الله، فقد جربتم الأمور وضرستموها، ووعظتم بمن كان قبلكم ، وضربت الأمثال لكم ، ودعيتم إلى الأمر الواضح، فلا يصم عن ذلك إلا أصم، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى ، ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب، لم ينتفع بشيء من العظة، وأتاه التقصير من امامه، حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف، وإنما الناس رجلان: متبع شرعة، ومتبع بدعة، ليس معه من الله برهان سُنة، ولا ضياء حجة ﴾﴿ - نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج 2 - ص 94 ﴾
إن كلام أمير المؤمنين (ع) كالشمس الطالعة في رابعة النهار فإننا لا شأن لنا بما ذهب إليه الناس في الحلال والحرام ولا شأن لنا بما تقوله عقول الناس من استحسانات وأستقباحات، فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله وضرب الله لنا الأمثال بمن سبقنا من الأمم وكيف أنهم اتبعوا أهوائهم وعقولهم في أمر الله تعالى فضلوا عن الطريق وأما التضريس فقد ذكره العلامة المجلسي قائلاً : ﴿ والتضريس : الإحكام . حتى يعرف ما أنكر أي يتخيل أنه عرفه ولم يعرفه بدليل وبرهان ولا ضياء حجة ﴾﴿ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 2 - ص 313 ﴾.
وهذا دليل واضح على أن العقل يتخيل انه أستحسن ما هو حسن عند الله وهذا التخيل مهما يكن فإنه لا يرجع إلى دليل وبرهان قوي يعتمد عليه وقد قسم أمير المؤمنين (ع) الناس إلى رجلين أما متبع شرعة أو متبع بدعة فالإسلام في كلام أمير المؤمنين (ع) هو التسليم كما جاء في حديثه الشريف أنه قال : ﴿ لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو الاقرار والاقرار هو الأداء والأداء هو العمل الصالح﴾﴿نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج 4 - ص 29 ﴾ وعنه (ع) في كلام له أنه قال : ﴿قولوا ما قيل لكم ، وسلموا لما روي لكم ، ولا تكلفوا ما لم تكلفوا فإنما تبعته عليكم ، واحذروا الشبهة فإنها وضعت للفتنة﴾﴿ - وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 102 - 103
وعن عميرة ، عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: ﴿أمر الناس بمعرفتنا والرد إلينا والتسليم لنا، ثم قال: وإن صاموا وصلوا وشهدوا أن لا إله إلا الله وجعلوا في أنفسهم أن لا يردوا إلينا كانوا بذلك مشركين﴾﴿ - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 398
يتبع
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
إن الفقهاء قد بينوا بأن المثبتين للحسن والقبح لا يقولون بأن العقل الإنساني قادر على إدراك جميع الأفعال الحسنة والقبيحة بل أنه عاجز عن ذلك إلا إنهم مع أقرارهم بهذا العجز قالوا بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع !!
إن معنى الملازمة هو كل ما يحكم به العقل يحكم به الشرع والعكس صحيح أيضاً وهذه القاعدة مع شذوذها وتعارضها مع كلام الفقهاء أنفسهم والأهم من ذلك تعارضها مع الكتاب وكلام الأئمة (ع) إلا إنه مع هذا التعارض والشذوذ لاقت قاعدة الملازمة منتهى الاعجاب عند أغلب الفقهاء فعولوا عليها في الافتاء والحكم .
إن أغلب فقهاء العامة قالوا بأن العقل يدرك الحسن والقبيح من الأفعال ولكن هذا الإدراك لا يستلزم موافقة الشرع بل أن الفعل يكون صالحاً لاستحقاق الأمر والنهي بمعنى ان الفعل الحسن يستحق موافقة الشرع عليه والقبيح على العكس وهذا الاستحقاق راجح وليس بواجب، وأن الداعي إلى هذا الاستحقاق هو أن الله لا يأمر بنقيض ما يدرك العقل حسنه وإليكم نص ما قاله إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي ﴿المتوفى : 790هـ﴾ : ﴿أن الحسن والقبح يدركان بالعقل، ولكن ذلك لا يستلزم حكماً في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحا لاستحقاق الأمر والنهي ، والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه ، أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه ؛ لأن ما أدرك العقل حسنه أو قبحه راجح ونقيضه مرجوح ، بمعنى أن صفة الحسن في الفعل ترجح جانب الأمر به على جانب الأمر بنقيضه القبيح ، وصفة القبح في الفعل ترجح جانب النهي عنه على جانب النهي عن نقيضه الحسن ، عملا في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفات الله سبحانه ؛ فلا حكم إلا من الخطاب الشرعي ، ولا أمر ولا نهي إلا من قبل الشارع الحكيم﴾﴿ - الموافقات - إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي –ج1 - ص 129﴾.
الذي يفهم مما تقدم بأن العقل يدرك الحسن والقبح في الأفعال وهو مع هذا الإدراك يرجح كون ما أدرك حسنه هو حسن عند الله وما أدرك قبحه هو قبيح عند الله، وهذا الترجيح ما هو إلا ظن والشرع قد أمرنا باجتناب الظن في أكثر من آية كريمة وعليه فإن الملازمة بين ما يدركه العقل وحكم الشرع ملازمة ظنية وليست قطعية فلا ترتقي هذه الملازمة إلى القطعية الا بعد ورود الحكم من الشرع الحكيم وكما قال الشاطبي نفسه بانه لا أمر ولا نهي إلا من قبل الشارع الحكيم فإذا أنحصر الأمر والنهي في الشرع فما هو الداعي لاستخدام العقل القاصر ؟؟
أما فقهاء الإمامية فقد وقع بينهم نزاع كبير في هذه المسألة حيث ذهب الأصوليين إلى جواز الملازمة وذهب الأخباريون إلى النقيض حيث ينقل الشيخ الخراساني ما قاله الأخباريون في قوله : ﴿ينسب إلى جملة من الأخباريين عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية ، وقد أنكر بعض الأعاظم هذه النسبة وأدعى أن الأخباريين إنما ينكرون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع . وذهب آخرون منهم إلى عدم حصول القطع من المقدمات العقلية وأنها لا تفيد إلا الظن﴾﴿ فوائد الأصول - الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني - ج 3 - ص 57
إن موقف الأخباريين من أستخدام العقل في التشريع واضح النكران وقد ذكرنا موقفهم هذا في أكثر من مقام إلا أن ما يهمنا هنا هو بيان موقف الأصوليين من أستخدام العقل والقول بالملازمة العقلية، حيث أنهم قد أطنبوا في ادعاء الملازمات العقلية والحكم طبقا لما يقوله العقل وقبل أن نناقش هذه المسألة يجب علينا بيان أقوالهم ثم عرض ما ذهبوا إليه على الكتاب والسُنة لتبيان بطلان طريقتهم العقلية وإليك نص ما قالوه :
قال الشيخ الخراساني : ﴿ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، بمعنى أنه في المورد الذي استقل العقل بحسن شيء أو قبحه فعلى طبقه يحكم الشرع بوجوبه أو حرمته، وهو المراد من قولهم" كلما حكم به العقل حكم به الشرع" - المصدر السابق - ص 60
وقال الشيخ محمد رضا المظفر: ﴿ كل ما حكم به العقل حكم به الشرع على طبقه ﴾﴿ - أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 2 - ص 264﴾ وقال أيضاً : ﴿ والحق أن الملازمة ثابتة عقلا ، فإن العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه - أي أنه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه لما فيه من الإخلال بذلك - فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع ، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم،﴾﴿ - أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 2 - ص 293﴾
وقال السيد محمد باقر الصدر ما هذا نصه : ﴿الحسن والقبح أمران واقعيان يدركهما العقل . ومرجع الأول إلى أن الفعل مما ينبغي صدوره . ومرجع الثاني إلى أنه مما لا ينبغي صدوره . وهذا الانبغاء إثباتا وسلبا أمر تكويني واقعي وليس مجعولا . ودور العقل بالنسبة إليه دور المدرك لا دور المنشئ والحاكم ، ويسمى هذا الإدراك بالحكم العقلي توسعا . وقد أدعى جماعة من الأصوليين الملازمة بين حسن الفعل عقلا ، والأمر به شرعاً ، وبين قبح الفعل عقلا والنهي عنه شرعا﴾﴿ دروس في علم الأصول - السيد محمد باقر الصدر - ج 1 - ص 324
وقال السيد محمد سعيد الحكيم : ﴿ المعروف بين أصحابنا ثبوت الملازمة المذكورة، ولذا تكرر في كلماتهم الاستدلال على حرمة بعض الأمور شرعاً بدليل العقل ، لابتناء الاستدلال به على إدراك قبحه ، وهو إنما يقتضي حكم الشارع بحرمتها بضميمة الملازمة المذكورة﴾﴿ - الكافي في أصول الفقه ـ محمد سعيد الحكيم – ج1- ص 390 ﴾.
ونقل السيد محمد سعيد الحكيم عن بعض معاصريه أنه قال : ﴿ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه... فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم، لأنه منهم، بل رئيسهم، فهو بما هو عاقل - بل خالق العقل - كسائر العقلاء لا بد أن يحكم بما يحكمون﴾﴿ - المصدر السابق﴾.
قبل أن نناقش ما تقدم من كلام الفقهاء نحب ان ننوه إلى مسألة قد ذكرناها وهي أن المثبتين للملازمة العقلية قالوا بأن العقل قاصر عن إدراك حسن أو قبح جميع الأفعال إلا إنهم مع قولهم بقصور العقل ذهبوا إلى القول بالملازمة بين حكم العقل والشرع بل أنهم قد جعلوا الشرع تابع للعقل وليس العكس .
إن العقل الإنساني قد يدرك جهة المفسدة أو المصلحة في فعل من الأفعال فيقبح ويستحسن ما يدركه إلا أن حكم عقل في ما يدركه قد يكون مطابقاً للشرع وقد لا يكون، فربما تكون هنالك مصلحة في فعل من الأفعال ولم يكن على طبقها حكم شرعي، كقول رسول الله (ص): ﴿لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك﴾ ان السواك فيه مصلحة قد يدركها العقل إلا أن هذه المصلحة قد تعارضت مع المشقة على الأمة فترك الشرع الأمر بالوجوب لمصلحة أخرى قد بينها رسول الله (ص)﴾ وهي تجنب المشقة على الأمة، ومما تقدم نفهم بشكل اوضح ما بيناه في بداية الكلام هو ان العقل قد يدرك جانب من المصلحة ويغفل عن جانب آخر وهو الأهم في نظر الشرع المقدس وقد فسر البعض الحقيقة بأنها عبارة عن هرم له جوانب مختلفة والإنسان ينظر إلى الجانب أو الضلع الذي أمامه فيحكم بما يراه إلا أن الحق هو ان الإنسان قد خفيت عليه اضلاع الهرم الأخرى ولم ينظر إليها، وكذلك الأفعال فإن للأفعال وجوه للمصلحة ولعل ما يدركه العقل مصلحة صغرى تتعارض مع مصلحة كبرى قد غفل عنها وبالنتيجة قد يحكم العقل وفق ما يراه من مصلحة في نظره إلا أن حكمه هذا مخالف لحكم الشرع فيحرم ما هو حلال عند الشرع ويحلل ما هو حرام .
إننا إذا تنزلنا جدلاً وقلنا ان الإدراك الجزئي للعقل يكفي في أثبات الحسن والقبيح من الأفعال بل إذا زدنا في القول وقلنا بأن العقل يدرك حسن وقبح جميع الأفعال دون إستثناء وهذا محال إلا أن فرض المحال ليس بمحال كما يعبرون ومع هذا الفرض الممتنع إذا جاء الحكم الإلهي بالمنع من إتباع العقول في التشريع هل سنمتنع من إستخدام العقل ؟ وإذا أراد الله تعالى بأن لا نسبقه بالقول ولا نعقب على حكمه هل سنستجيب للأمر الإلهي أم سنقول هذا خلاف سيرة العقلاء ؟؟!!
إن قاعدة الملازمة حتى وان غض البصر عن ما تقدم بشأنها من الكلام إلا إنه يبقى ما هو الأهم من كلامنا وكلام الفقهاء بل هو العمدة عند المتشرع وهو الرجوع إلى الثقلين الكتاب والسُنة فإن الأدلة منهما قامت على خلاف ما ذهب إليه الفقهاء حيث أمرنا الله تعالى بأن لا نسبقه ولا نعقب على أحكامه قال تعالى : ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾وقال تعالى : ﴿ وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
لقد أمرنا الله تعالى بأن لا نسبقه بالقول ولا نعقب على حكمه وذلك لعجز عقولنا القاصرة عن إدراك المصالح والمفاسد الداعية لكون الأحكام الشرعية بل أننا علمنا مما تقدم بأن أهل البيت (ع) هم أولي العقل والعلم وقد جاء عن الحسين أنه سأل الإمام جعفر بن محمد (ع) عن قوله تعالى : ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ قال : ﴿أولي العقل والعلم ، قلنا : أخاص ؟ أو عام ؟ قال : خاص لنا﴾﴿ وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 136
إن أهل البيت (ع) هم العقلاء بل أنهم سادة العقلاء وخير خلق الله ومع هذه المكانه المرموقة إلا إنهم لا يسبقون الله بالقول وهم بأمره يعملون فقد جاء عن جابر الجعفي قال : سمعت أبا جعفر (ع) يقول : ﴿﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ﴾ وأومأ بيده إلى صدره وقال: ﴿ لا يسبقونه بالقول﴾ إلى قوله : ﴿وهم من خشيته مشفقون﴾﴾﴿ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 24 - ص 91
وقال أمير المؤمنين (ع) لسلمان وأبي ذر﴿رضي الله عنهما﴾ : ﴿... ونحن عباد الله المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾﴿ - المصدر السابق - ج 26 - ص 7﴾.
﴾.
فإذا كان أهل البيت (ع) وهم أكمل الناس عقلاً لا يسبقون الله بالقول ولا يعقبون على حكم الله فكيف بنا ونحن أصحاب العقول القاصرة أن ندرك محاسن الأفعال وقبائحها قبل أن نعرف قول الشرع في هذه الأفعال وياليتنا ندعي ذلك فحسب بل نجبر الشرع على أن يوافق ما أستحسناه وما أستقبحناه ومع اعترافنا بقصور عقولنا عن إدراك حسن جميع الأفعال وقبحها والأخبار الشريفة تدل على أن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة فقد جاء عن الإمام علي بن الحسين ﴿عليهما السلام﴾ أنه قال : ﴿إن دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقائيس الفاسدة ، ولا يصاب إلا بالتسليم ، فمن سلم لنا سلم ، ومن اقتدى بنا هدى ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه شيئاً مما نقوله أو نقضي به حرجاً كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم﴾﴿كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 324
هذا منهج أهل البيت (ع) ومن وجد في نفسه حرج من هذا المنهج الإلهي فقد كفر بالذي أنزل القرآن وهو غافل عن كفره .
وجاء عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: ﴿ اعلموا عباد الله، أن المؤمن يستحل العام ما استحل عاما أول، ويحرم العام ما حرم عاما أول، وإن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئاً مما حرم عليكم ، ولكن الحلال ما أحل الله ، والحرام ما حرم الله، فقد جربتم الأمور وضرستموها، ووعظتم بمن كان قبلكم ، وضربت الأمثال لكم ، ودعيتم إلى الأمر الواضح، فلا يصم عن ذلك إلا أصم، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى ، ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب، لم ينتفع بشيء من العظة، وأتاه التقصير من امامه، حتى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف، وإنما الناس رجلان: متبع شرعة، ومتبع بدعة، ليس معه من الله برهان سُنة، ولا ضياء حجة ﴾﴿ - نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج 2 - ص 94 ﴾
إن كلام أمير المؤمنين (ع) كالشمس الطالعة في رابعة النهار فإننا لا شأن لنا بما ذهب إليه الناس في الحلال والحرام ولا شأن لنا بما تقوله عقول الناس من استحسانات وأستقباحات، فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله وضرب الله لنا الأمثال بمن سبقنا من الأمم وكيف أنهم اتبعوا أهوائهم وعقولهم في أمر الله تعالى فضلوا عن الطريق وأما التضريس فقد ذكره العلامة المجلسي قائلاً : ﴿ والتضريس : الإحكام . حتى يعرف ما أنكر أي يتخيل أنه عرفه ولم يعرفه بدليل وبرهان ولا ضياء حجة ﴾﴿ - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 2 - ص 313 ﴾.
وهذا دليل واضح على أن العقل يتخيل انه أستحسن ما هو حسن عند الله وهذا التخيل مهما يكن فإنه لا يرجع إلى دليل وبرهان قوي يعتمد عليه وقد قسم أمير المؤمنين (ع) الناس إلى رجلين أما متبع شرعة أو متبع بدعة فالإسلام في كلام أمير المؤمنين (ع) هو التسليم كما جاء في حديثه الشريف أنه قال : ﴿ لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو الاقرار والاقرار هو الأداء والأداء هو العمل الصالح﴾﴿نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج 4 - ص 29 ﴾ وعنه (ع) في كلام له أنه قال : ﴿قولوا ما قيل لكم ، وسلموا لما روي لكم ، ولا تكلفوا ما لم تكلفوا فإنما تبعته عليكم ، واحذروا الشبهة فإنها وضعت للفتنة﴾﴿ - وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 102 - 103
وعن عميرة ، عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: ﴿أمر الناس بمعرفتنا والرد إلينا والتسليم لنا، ثم قال: وإن صاموا وصلوا وشهدوا أن لا إله إلا الله وجعلوا في أنفسهم أن لا يردوا إلينا كانوا بذلك مشركين﴾﴿ - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 398
يتبع
تعليق