منقول من كتاب سقيفة الغيبة المستوحى من فكر السيد القحطاني
التقليد عند اليهود
يعتبر الخوض في مضمار تأريخ الأديان السابقة مبحثاً شائكاً ومعقداً، لأنه عبارة عن تنقيب لتأريخ البشرية القديم والحديث، وسيعتقد الباحث انه سيبتلى بالملل وضمور العزيمة وخفوت الاصرار بمجرد ان يلقى نظرة عن كثب على قوائم الكتب والمراجع التي كتبت في تأريخ الأديان فيجد انها بالمئات ان لم نقل بالآلاف ، لكن الهمة لا تلبث ان تشحذ من جديد بعد أن يعرف الإنسان هدفه الذي يصبو إليه ، وهو هدف مقدس ونبيل إذ يرتبط بمسألة هداية الناس واقتباس العبر والمواعظ من تأريخ الأديان خصوصاً المرتبطة بالرسالات السماوية ، كيف لا ؟ ونحن نعلم ان الأنبياء والرسل (ع) جميعاً كان لهم وحدة الهدف والغاية المشتركة ألا وهي تطبيق الشريعة الإلهية .
ولا زلت اتذكر حادثة كانت هي السبب الرئيسي في اختياري ان اقرأ وابحث في المشتركات بين أهل الملل والأديان ، وكانت قد صادفتني حين كنت أمام شاشة التلفاز يوماً اتصفح بعض القنوات الفضائية فوقع بالصدفة المتصفح على قناة بدت انها إحدى القنوات المسيحية التي تعنى بالتبشير النصراني ، وكانت القناة تعرض مشهد أحد رجال الدين المسيحيين يتهافت الناس على تقبيل الصليب في يده بطريقة غريبة إلى الدرجة التي تزاحم فيها الحشود على ذلك الرجل المسن فلم يكن امام الحاشية التي بدت انها تنتمي للسلك الديني كذلك إلا أن تزيح الحشود والجمهور محاولة تقليل الضغط على ذلك القس الكبير ، علمت بعدها انه أحد أبرز الشخصيات المهمة للأقباط في العالم ، هذا المشهد جعلني اطيل النظر في مسألة تقديس الناس للأشخاص في كل دين ومذهب حتى كانها أصبحت عادة موروثة بين الملل والشعوب فلا يكاد يخلو دين من الأديان من ذلك، علما انهم ليسوا أنبياء أو رسل أو أي شيء من ذلك ، فيفرض السؤال ذاته ملحا : ما السبب وراء كل تلك القدسية ؟ ...
بعدها بدأت بحثي وقراءاتي في كتب الديانتين اليهودية والنصرانية لأجد ما يروي ضمأي ويحقق غايتي في ما اصبو إليه من المقاربة في البحث بين ما وصلت إليه الأديان الثلاثة الرئيسية ﴿اليهودية والنصرانية والإسلام﴾ من تغييرات جمة ومنعطفات خطيرة ادت بشكل كبير إلى تغيير معالم الرسالات السماوية لدى الاجيال اللاحقة والتي لم تفتح عينها على الحجة أو الرسول بين اظهرها بل وجدت تراثاً دينياً مختلطا بآخر ارضي مخترع من قبل الإنسان نفسه فكانت النتيجة عقائد مغايرة إلى حد كبير لتلك التي نزلت على قلوب النبيين (ع) والتي لازال أثرها موجودا وشاهداً عليها ولكن أغلب هذا الاثر ليس بين الناس بل هي مكنوزة في بطون الكتب .
لقد كانت المعلومات تتركز في ذاكرتي وتحضر ابأن كل نقاش ديني يطرح بين الأهل والاصدقاء فاجد لساني ينطق بتلك الحقائق التي غفل عنها أكثر الناس أو لنقل انهم نسوها أو تناسوها عمدا أو سهوا ، ولا يستطيع أي إنسان ان يتمالك نفسه من بث كلام الأنبياء والأئمة (ع) بين الناس لما في ذلك الكلام من عذب الحلاوة وطيب الرائحة التي يتركها في النفس لأنه نابع من كلام الله تعالى ذكره وبكلامه تطمئن القلوب .
إن الأحاديث الشريفة التي وردت عن النبي وآله (ع) تحدثت عن جريان سُنن الأمم السابقة على أمة محمد (ص) هذه الأحاديث الشريفة حاضرة أمام العين غائبة عن الذهن ، فكم منا مر عليها مرور الكرام دونما وقفة حقيقية للتأمل والتفكر ، كيف ستجري السُنن على أمة الخاتم (ص) وقد بينا في الباب الأول الكثير من هذه السُنن كالتيه والغيبة وتغيير الأحكام وسيتبين في هذا الباب سُنة غاية في الأهمية ألا وهي سُنة عبادة الأصنام تحت مسمى التقليد، وقد بينا في بداية الباب الأول هذه السُنة وقلنا ان الأصنام ليست بالضرورة ان تكون حجرية، بل ان إبليس قد أستخدم البشر كأصنام تعبد من دون الله أيضاً عن طريق التقليد المزعوم كما هو الحال في أغلب أحبار اليهود ورهبان النصارى حيث أتخذهم الناس أرباباً من دون الله فأحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً فعبدهم الناس من حيث لا يشعرون وكما تقدم جزء من البيان في مبحث السُنن في الباب الأول وسياتي الجزء الاكبر في هذا الباب إن شاء الله تعالى .
لقد ادهشني التطابق الكبير بين العقائد التي دخلت إلى جوف الديانات الثلاث من خلال رجال اختاروا إعمال العقل والفكر أمام شريعة الله وعلى مر العصور، في مخالفة صريحة وواضحة للتعاليم الإلهية التي جاء بها الأنبياء (ع) في تلكم القرون .
إن ما حصل في أمة محمد (ص) في أمر التقليد على وجه الخصوص كان تتمة لإنطباق السُنن التي أراد البشر بأيديهم ان تجري عليهم كما يجري الليل والنهار حتى يرث الله الارض ومن عليها، بقي ان نقول: ان هذا البحث لم نتوسع فيه لنحيط بكل اتجاهات الأديان الثلاث ﴿اليهودية والنصرانية والإسلامية﴾ لكن اكتفينا بالذي يهمنا في المقام وهو ايراد نقاط الاشتراك فيما يخص مسألة التقليد خصوصاً ولعل البحث لو أراد ان يتوسع لأندرج تحت إطار مقارنة الأديان ولخرجنا عن عنوان البحث إلى عنوان آخر، وقد نجد مناسبة أخرى مستقبلاً إن شاء الله فنقف مطولاً عند نقاط التشابه والاختلاف فيما بين طوائف ومذاهب تلك الأديان السماوية وحتى ذلك الحين نطلب من الله ان يكحل العيون برؤية الذي يرفع المذاهب عن الارض ويقضي على الاختلاف والتناحر فتنعم البشرية والكون كله بالوفاق الابدي حتى طي الارض والسماوات .
أولاً : التقليد عند اليهود :
تحتل الديانة اليهودية مكانة مهمة في تأريخ الأديان فهي اقدم الديانات التوحيدية ، ولها دور كبير في فهم طبيعة ديانات الشرق الاقصى القديم ، كما ان لها علاقة دينية قوية بكل من المسيحية والإسلام .
وقد ذكرنا في الباب الأول ان اليهود يستندون في معرفة تعاليم دينهم على مصدرين رئيسيين هما ﴿التوراة﴾ و ﴿التلمود﴾ وذكرنا بأن التلمود ينقسم إلى ﴿ المشنا والجمارا﴾ وبينا ان هذه التقسيمات هي عبارة عن إجتهادات الأحبار وآرائهم الشخصية التي زعموا انها تعود إلى زمان موسى (ع) وقد أبطلنا هذه المزاعم في حينها .
إن لجوء حاخامات اليهود أو الكهنة إلى ﴿الإجتهاد﴾ أو ﴿النظر﴾ في مسألة تحصيل الأحكام الشرعية يعني انهم قد قاموا بعملية ﴿الاستنباط﴾ كما يصطلح عليها عند المسلمين وبعد ممارسة هذه العملية لا بد من نشوء الاختلاف بين الممارسين للاستنباط لأن هؤلاء المستنبطون ليسوا من أنبياء الله تعالى بل أنهم أناس عاديين متفاوتين بالفهم والإدراك .
إن أي ديانة تستخدم الإجتهاد لا بد أن تعقب الإجتهاد بالتقليد وهذان الأمران من السُنن التأريخية التي انطبقت على اليهودية والمسيحية والإسلام والانطباق بينهما شبه تام كما لا يخفى على المتتبع المنصف .
بعد غياب وصي موسى يوشع بن نون ﴿عليهما السلام﴾ عن الساحة حيث بدأت واحدة من اخطر المراحل التي مرت على الناموس اليهودي من خلال تولي الأحبار للقيادة الدينية في مجتمع بني إسرائيل فبدات بعد مرور تلك الفترة الزمنية عملية تكوين وتدوين ما يسمى بالشريعة الشفوية وتشير معظم المصادر التأريخية إلى ان علميات تحرير وتدوين الكتب الدينية اليهودية ﴿التوراة - التلمود﴾ بدأت في بابل بعد السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد وانها استمرت حتى القرن الخامس الميلادي ، وبعد عودة اليهود من السبي إلى اورشليم تابع الكهنة تحرير وتدوين شريعتهم وتحديداً خلال الحكم الفارسي الاخميني الذي تمتعوا فيه بامتيازات كثيرة 538 – 330 ق م .
وفي زمن الاغريق والرومان ونتيجة للأضطرابات كثرت التقليد وازداد عدد المجتهدين الناظرين في الشريعة، وكثرت الأحكام الصادرة عن المجامع اليهودية المختلفة ، كما أن أحوال اليهود إزدادت إضطراباً بظهور السيد المسيح (ع) وما قدم من تعاليم إنسانية شمولية ، وكانت إلى ذلك الوقت كل شروح التوراة تلقن للتلاميذ شفوياً حتى اوآخر القرن الثالث الميلادي ، فخشي فقهاء اليهود ان يطغى النسيان على هذه الشروح وتطغى عليها تعاليم السيد المسيح (ع) وشروحه التي انتشرت وقتئذ فأخذ الأحبار يدونون كل تفاسيرهم للتوراة ، واشهر هؤلاء الأحبار هو ﴿بارنحماني﴾ الذي قام بجمع هذه الشروح وتبويبها والف منها سفراً ضخماً أسماه ﴿مدراش ربا﴾ ، وراح أحبار اليهود يدونون هذه الشروح التي عدوها فلسفة التوراة والشريعة اليهودية﴿ اليهودية بين النظرية والتطبيق - علي خليل - ص18﴾ .
يذكر التأريخ هنا أن السيد المسيح (ع) قد بعثه الله تعالى في تلك الفترة التي عاصرت دخول التعاليم الشفوية أو الإجتهادية إلى جسد الناموس اليهودي فوجدها متغلغلة بشكل واسع في المجتمع الديني وسيطرت على عقول شعب بني إسرائيل، فكانت المجامع اليهودية تدرس تلك التقاليد الدينية المصطبغة بلون القداسة المزيف لكل أبناء الشعب المعتنقين لدين موسى (ع)، وقد ذم السيد المسيح (ع) هذه الظاهرة التي من شأنها تحريف رسالات الأنبياء والرسل بشكل غير محسوس ربما لدى العامة لكنها لا تخفى على رجالات السماء أمثال عيسى المسيح (ع)، حيث قال موبخاً حالة التعاليم التي يقلدها الناس اباً عن جد من دون دليل وفيها مخالفة صريحة لجوهر الشريعة السمحاء كان هذا عندما اعترض على تبني اولئك طريقة تقاليد وتعاليم رجال الدين دون تعاليم السماء .
كانت هنالك طوائف عديدة يهودية تتبنى في الظاهر شريعة موسى (ع) لكن لديها الكثير من نقاط الخلاف فيما بينها إلى درجة التناحر والتباغض وهذه مسألة مألوفة في ما بين الجماعات الدينية المتنافرة على مر العصور، فالفريسيون والصدوقيون كانوا أبرز تلك الطوائف في عهد السيد المسيح (ع) ودعوته المباركة، وكلاهما رفع شعار محاربة المسيح (ع) بكل قوة على اعتباره صاحب النهج المغاير والمنتقد للناموس المقدس – بزعمهم – والموبخ للشعب المتمسك بتقاليد بشرية تلك التقاليد التي لا تمت إلى الدين الصحيح بأي صلة .
الفريسيون كانوا يتصرفون كما لو أن لقواعدهم – أي تقاليدهم- الدينية نفس الأهمية التي لكلمة الله -التوراة- وكانت تستحوذ عليهم فكرة طاعة تفسيراتهم الناموسية بكل تفصيلاتها، وسبق ان اضافوا مئات التقاليد لشرائع الله﴿التفسير التطبيقي للعهد الجديد ص 16 و 63) وكانوا يتحينون الفرص للنيل من رسالة المسيح (ع) والحوار التالي الذي جرى بينه وبينهم يمثل حقيقة ذلك العداء الواضح من قبل اولئك ولنقرأ النص الانجيلي التالي لنفهم القضية أكثر : ﴿ جاء إلى يسوع كتبة وفريسيون الذين من اورشليم قائلين. لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ . فإنهم لا يغسلون ايديهم حينما ياكلون خبزا . فاجاب وقال لهم وأنتم أيضاً لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم. فإن الله أوصى قائلا اكرم اباك وامك . ومن يشتم ابا أو اما فليمت موتا. واما أنتم فتقولون من قال لأبيه أو أمه قربان هو الذي تنتفع به مني . فلا يكرم اباه أو امه . فقد ابطلتم وصية الله بسبب تقليدكم. يا مراؤون حسنا تنبا عنكم اشعياء قائلا . يقترب الي هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه واما قلبه فمبتعد عني بعيداً . وباطلاً يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس﴾﴿ - متى 15: 1-10 ﴾ .
لقد ذكر السيد المسيح (ع) في النص السابق مجموعة من المثالب في تقليد اليهود لشيوخهم المتسالمة لعصور منها ما كان يعنى بأكرام أو شتم الآباء والوالدين وهي عينة صغيرة من تقليدهم البالي المخالف لصراحة الشريعة، ولا تعد هذه الوقفة هي الاولى والاخيرة من جهة نقد المسيح (ع) للتقليد اليهودي ، لا بل يسجل لنا العهد الجديد ذاته مرات عديدة من وقفات السيد المسيح (ع) مع تقليد الكهنة المزيف حيث كانت كلمات المسيح (ع) مدوية وذات توبيخ مرير للذين جلسوا على كرسي موسى (ع) حيث حرض السيد المسيح (ع) الشعب اليهودي إلى عدم الإنقياد والتقليد لتعاليم الكهنة والأحبار المخترعة وحذرهم من تقليدهم لفقهاء اليهود في أكثر من خطاب تأريخي مزلزل نطق به السيد المسيح (ع) حيث جاء في الانجيل حين خاطب المسيح الجموع وتلامِيذه قائلا : ﴿ عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ 3فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ وَلَكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا لأنهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ. 4فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ 5 وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ 6وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ 7 وَﭐلتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي! 8 وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأن مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ وَأَنْتُمْ جَمِيعاً إِخْوَةٌ. 9وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ لأن أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 10وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ لأن مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ. 11وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِماً لَكُمْ. 12فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ ﴾﴿ - أنجيل متى - الاصحاح 23 ﴾.
يتبع
تعليق