منقول من كتاب سقيفة الغيبة المستوحى من فكر السيد القحطاني
مناقشة الأدلة القرآنية :
الدليل القرآني الأول :
قوله تعالى {وَمَا أرسلنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} سورة لنحل آية 43
أستدل السيد الخميني وغيره كثيراً بهذه الاية الكريمة على وجوب التقليد والاتباع وذلك في كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخميني - ص89 .
ولمناقشة هذا الدليل نقول: ان الرجال المذكورين في هذه الآية هم الأنبياء والرسل (ع) بدليل انهم يوحى إليهم فهل الفقيه يوحى إليه ؟ وهل هو رسول من الله أو نبي حتى يتم الاستشهاد بهذه الآية عليه ؟ فلا نبي ولا رسول بعد الرسول الخاتم (ص)، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المحقق الخوئي وغيره لم يشترط الإيمان في مرجع التقليد من الأساس في قوله (لم يدلنا دليل لفظي معتبر على شرطية الإيمان في المُقلد. بل مقتضى إطلاق الأدلة والسيرة العقلائية عدم الاعتبار لأن حجية الفتوى في الأدلة اللفظية غير مقيدة بالإيمان ولا بالإسلام كما أن السيرة جارية على الرجوع إلى العالم مطلقا سواءً أكان واجدا للإيمان والإسلام أم لم يكن وهذا يتراءى من سيرتهم بوضوح لأنهم يراجعون الأطباء والمهندسين أو غيرهم من أهل الخبرة والاطلاع ولو مع العلم بكفرهم) كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخوئي - شرح ص221 .
فكيف يوحى إليه ؟ وهو لا يُشترط فيه الإيمان من الأساس بل يُحتمل فيه الكفر كما يقول المحقق .
هذا من الجهة الاولى اما من جهة {فَاسْأَلُواْ أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فأما انكم تأخذون بتفاسير فقهاء العامة وتزعمون بأنهم - أي أهل الذكر- الأحبار والرهبان حيث أشاروا وكما تقدم في الفصل السابق بأن أهل الذكر في المجتمع اليهودي هم الأحبار، وفي المجتمع المسيحي هم الرهبان وأما ان تأخذوا بكلام المعصومين (ع) وتقروا بأن {أهل الذكر} هي خاصة بالرسول وآله (ع) وبذلك ينتفي دليلكم الأول على وجوب التقليد فقد جاء في التفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي عن الإمام الباقر (ع): (قيل له إن من عندنا يزعمون أن قول الله عز وجل فاسألوا أهل الذكر إنهم اليهود والنصارى قال إذن يدعوكم إلى دينهم ثم قال وأومأ بيده إلى صدره نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون) التفسير الصافي - الفيض الكاشاني - ج 3 - ص331.
وجاء عن الريان بن الصلت، عن علي بن موسى الرضا (ع) في حديث أنه قال للعلماء في مجلس المأمون: (أخبروني عن هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فقالت العلماء : أراد الله بذلك الأمة كلها ، فقال الرضا (ع): بل أراد الله العترة الطاهرة - إلى أن قال الرضا (ع): ونحن أهل الذكر الذين قال الله عز وجل {فَاسْأَلُواْ أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فقالت العلماء: إنما عنى بذلك اليهود والنصارى، فقال أبو الحسن (ع): سبحان الله ويجوز ذلك إذن يدعونا إلى دينهم ويقولون إنه أفضل من دين الإسلام ، فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوا يا أبا الحسن ؟ قال : نعم الذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن أهله ، وذلك بين في كتاب الله حيث يقول في سورة الطلاق {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} فالذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ونحن أهله) وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 18 - ص 49.
ومنها ما رواه هشام بن سالم قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله تعالى {فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون} من هم؟ قال {عليه السلام) : ( نحن ) مستدرك الوسائل - ج 17 - ص 276.
وجاء عن الإمام علي بن الحسين (ع)، والإمام محمد بن علي (ع)، انهما ذكرا وصية أمير المؤمنين (ع) عند وفاته إلى ولده وشيعته ، وفيها : (وعليكم بطاعة من لا تعذرون في ترك طاعته - طاعتنا أهل البيت - فقد قرن الله طاعتنا بطاعته وطاعة رسوله، ونظم ذلك في آية من كتابه، منا من الله علينا وعليكم، فأوجب طاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة الأمر من آل رسوله، وأمركم أن تسألوا أهل الذكر، ونحن والله أهل الذكر، لا يدعي ذلك غيرنا الا كاذب، تصديق ذلك في قوله تعالى {قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} ثم قال : {فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون} فنحن أهل الذكر ، فاقبلوا أمرنا ، وانتهوا إلى نهينا ، فإنا نحن الأبواب التي أمرتم أن تأتوا البيوت منها ، فنحن والله أبواب تلك البيوت ، ليس ذلك لغيرنا ، ولا يقوله أحد سوانا ) المصدر السابق - ص 283 .
وجاء عن الإمام الصادق (ع) انه قال : (إياكم وتقحم المهالك بإتباع الهوى والمقاييس ، قد جعل الله للقرآن أهلاً أغناكم بهم عن جميع الخلائق ، لا علم إلا ما أمروا به، قال الله تعالى {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} إيانا عنى ) المصدر السابق - ص 257 .
فكيف لنا ان نقيس ونشبه الفقهاء بأهل الذكر الأئمة المعصومين (ع)؟ ونقول بأن هذه الآية دليل على الرجوع للفقهاء وتقليدهم وأمير المؤمنين (ع) يقول لنا: (نحن والله أهل الذكر، لا يدعي ذلك غيرنا الا كاذب) فكيف لنا ان ندعي بأن الفقيه مرجع التقليد من أهل الذكر ووجوب سؤاله وتقليده علينا جاء بدلالة هذه الآية ؟ غفر الله ذنوبنا وذنوبكم . وبهذا نكون قد أنتهينا من مناقشة الدليل القرآني الأول .
مناقشة الدليل القرآني الثاني :
قوله تعالى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}التوبة 122 .
أستدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة وجعلوها دليلاً على مسألة وجوب التقليد على المكلفين وسوف نذكر فيما يلي جملة من تفاسيرهم ثم نعرج على تفسير الأئمة (ع) لنرى الاختلاف بين التفسيرين :
ذهب المازندراني في شرحه لهذه الآية بأن التفقه وطلب العلم واجب كفائي على المسلمين حيث قال ( في قوله تعالى {وما كان المؤمنون} أي ما استقام لهم أن ينفروا كلهم إلى أهل العلم لطلبه، لأن ذلك يوجب اختلال نظام معاشهم فهلا نفر من كل فرقة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة طائفة قليلة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم من مخالفة الرب إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، وفيه دلالة على أن طلب العلم واجب كفائي) شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 5 - ص274.
ثم بعد ذلك أخذ الفقهاء بالقول بأن {ليتفقهوا في الدين} أي ليصلوا إلى درجة الإجتهاد المطلق كما ذهب إلى ذلك جملة من الفقهاء المتأخرين منهم على سبيل المثال المحقق الخوئي فقد عبر عن ذلك بقوله : (الإجتهاد واجب كفائي وليس من الواجبات العينية كما هو مقتضى قوله عز من قائل { فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} . لدلالته على أن الإجتهاد وتحصيل العلم بالأحكام إنما يجب على طائفة من كل فرقة لا على الجميع ) كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخوئي - شرح ص31 .
وذكر السيد الروحاني نفس المعنى قائلاً : (إن الإجتهاد واجب كفائي ، فإذا تصدى له من يكتفى به سقط التكليف عن الباقين) المسائل المنتخبة - السيد محمد الروحاني - ص5 .
وأكد السيد محمد باقر الصدر على ذلك أيضاً قائلاً : (الإجتهاد واجب كفائي على المسلمين، ومعنى ذلك أنه إذا قام به البعض وبلغوا درجة الإجتهاد سقط الوجوب عن الآخرين) الفتاوى الواضحة - للسيد محمد باقر الصدر - ص 29
وقال السيد السيستاني بذلك أيضاً : (الإجتهاد واجب كفائي ، فإذا تصدى له من يكتفي به سقط التكليف عن الباقين) المسائل المنتخبة - السيد السيستاني - ص 10 .
إن المتتبع لما قاله فقهاء الإمامية في أستدلالهم بهذه الآية على مسألة الوجوب الكفائي للتفقه في الدين - كما تقدم بيانه - ثم بعد ذلك أستبدالهم لكلمة التفقه التي جاءت في قوله تعالى {ليتفقهوا} بمصطلح الإجتهاد يجد الفرق اللغوي بين الاثنين، ثم ان هذه الآية لا تصلح ان تكون دليلاً معتبراً على مسألة وجوب التقليد لأنها ليست لها مدخلية في مسألة وجوب التقليد، ولم يفسرها أهل البيت (ع) بوجوب التقليد إطلاقاً فكيف لكم ان تُفسروا القرآن برأيكم ؟ وهذا خلاف لما أوصى به الأئمة (ع).
ولكي نتعرف على تفسير هذه الآية يتوجب علينا سؤال الأئمة (ع) لمعرفة معناها فَهُم أهل الذكر الواجب علينا سؤالهم ولذلك سوف نورد ما جاء في تفسيرها عن الأئمة من آل محمد (ع):
1- جاء في تفسير نور الثقلين نقلا عن علل الشرايع عن عبد الله بن المؤمن الأنصاري قال: قلت لأبي عبد الله (ع): (ان قوما يروون ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: اختلاف أمتي رحمة ؟ فقال: صدقوا، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال: ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد قول الله عز وجل {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فأمرهم ان ينفروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ويختلفوا إليه فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، إنما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله إنما الدين واحد .تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي - ج 2 - ص 283
2- جاء عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) ان بلغنا وفات الإمام كيف نصنع ؟ قال: عليكم النفير قلت: النفير جميعاً ؟ قال: إن الله يقول : " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين - - تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي - ج 2 - ص 283.
3- وجاء عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (ع) قال: (قلت له: إذا حدث للإمام حدث كيف يصنع الناس ؟ قال: يكونون كما قال الله: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين " إلى قوله " يحذرون " قال: قلت: فما حالهم ؟ قال: هم في عذر) تفسير العياشي - محمد بن مسعود العياشي - ج 2 - ص117.
وعنه أيضاً في رواية أخرى (ما تقول في قوم هلك امامهم كيف يصنعون ؟ قال فقال لي : أما تقرأ كتاب الله : " فلولا نفر من كل فرقة " إلى قوله: " يحذرون " ؟ قلت: جعلت فداك فما حال المنتظرين حتى يرجع المتفقهون ؟ قال فقال لي: رحمك الله أما علمت أنه كان بين محمد وعيسى صلى الله عليهما وآلهما خمسون ومأتا سنة، فمات قوم على دين عيسى انتظارا لدين محمد فأتاهم الله أجرهم مرتين ) نفس المصدر السابق .
4- وعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (الجهاد فرض على جميع المسلمين لقول الله {كتب عليكم القتال} فإن قامت بالجهاد طائفة من المسلمين وسع سائرهم التخلف عنه ما لم يحتج الذين يلون الجهاد إلى المدد فإن احتاجوا لزم الجميع أن يمدوا حتى يكتفوا، قال الله عز وجل {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} وإن أدهم أمر يحتاج فيه إلى جماعتهم نفروا كلهم، قال الله عز وجل {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} مستدرك الوسائل ج 11 - ص14 – دعائم الاسلام .
أما ما قاله المفسرون فَهُم أيضاً لم يقولوا ان هذه الآية تدل على وجوب التقليد ومن هذه الأقوال :
1- قال الشيخ الطبرسي : (ليتفقهوا أي : ليتفقه باقوهم لأنه إذا نفر طائفة منهم تفقه من بقي منهم ، وإن شئت فمعناه ليتفقه كلهم ، لأنه من نفر منهم إذا رجع استعلم من بقي ، فصار كلهم فقهاء) تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ج 5 - ص 143 – 145.
2- وقال الفيض الكاشاني : (وما استقام لهم أن ينفروا جميعاً ، لنحو غزو وطلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يثبطوا جميعاً. {فلولا نفر من كل فرقة منهم} فهلا نفر من كل جماعة كثيرة، كقبيلة وأهل بلدة {طائفة} جماعة قليلة {ليتفقهوا في الدين} ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا مشاق تحصيلها {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} عما ينذرون منه) التفسير الأصفى - الفيض الكاشاني - ج 1 - ص 498 - 499.
3- وقال صاحب الميزان : (السياق يدل على أن المراد بقوله : {لينفروا كافة} لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً وقوله : {فرقة منهم} الضمير للمؤمنين الذين ليس لهم ان ينفروا كافة ، ولازمه ان يكون النفر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم . فالآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول ان ينفروا إلى الجهاد كافة بل يحضضهم ان ينفر طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتفقه في الدين ، وينفر إلى الجهاد غيرهم.. - تفسير الميزان – الطباطبائي - ج 9 - ص 403 .
ومن هذه الآية وتفاسيرها التي جاءت عن الأئمة (ع) نفهم ما يلي :
اولاً : إن النفور يكون للجهاد بإستثناء نفر من المؤمنين ينفرون للنبي (ص) للتفقه في الدين لينذروا ويفقهوا اخوانهم المجاهدين حين رجوعهم من الجهاد، وبذلك أصبح جميع المؤمنين فقهاء في الدين وهم في الدرجة سواء حيث قال أمير المؤمنين (ع): (الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل الله ... ) روضة الواعظين ص 10.
وهذا طبعاً في حال القتال أما إذا كان المؤمنون يعيشون حالة السلم فيتوجب عليهم جميعاً طلب العلم تصديقا لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (طلب العلم فريضة على كل مسلم ، إلا أن الله يحب بغاة العلم)الكافي – الشيخ الكليني - ج 1 - ص 30
يتبع
مناقشة الأدلة القرآنية :
الدليل القرآني الأول :
قوله تعالى {وَمَا أرسلنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} سورة لنحل آية 43
أستدل السيد الخميني وغيره كثيراً بهذه الاية الكريمة على وجوب التقليد والاتباع وذلك في كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخميني - ص89 .
ولمناقشة هذا الدليل نقول: ان الرجال المذكورين في هذه الآية هم الأنبياء والرسل (ع) بدليل انهم يوحى إليهم فهل الفقيه يوحى إليه ؟ وهل هو رسول من الله أو نبي حتى يتم الاستشهاد بهذه الآية عليه ؟ فلا نبي ولا رسول بعد الرسول الخاتم (ص)، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المحقق الخوئي وغيره لم يشترط الإيمان في مرجع التقليد من الأساس في قوله (لم يدلنا دليل لفظي معتبر على شرطية الإيمان في المُقلد. بل مقتضى إطلاق الأدلة والسيرة العقلائية عدم الاعتبار لأن حجية الفتوى في الأدلة اللفظية غير مقيدة بالإيمان ولا بالإسلام كما أن السيرة جارية على الرجوع إلى العالم مطلقا سواءً أكان واجدا للإيمان والإسلام أم لم يكن وهذا يتراءى من سيرتهم بوضوح لأنهم يراجعون الأطباء والمهندسين أو غيرهم من أهل الخبرة والاطلاع ولو مع العلم بكفرهم) كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخوئي - شرح ص221 .
فكيف يوحى إليه ؟ وهو لا يُشترط فيه الإيمان من الأساس بل يُحتمل فيه الكفر كما يقول المحقق .
هذا من الجهة الاولى اما من جهة {فَاسْأَلُواْ أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فأما انكم تأخذون بتفاسير فقهاء العامة وتزعمون بأنهم - أي أهل الذكر- الأحبار والرهبان حيث أشاروا وكما تقدم في الفصل السابق بأن أهل الذكر في المجتمع اليهودي هم الأحبار، وفي المجتمع المسيحي هم الرهبان وأما ان تأخذوا بكلام المعصومين (ع) وتقروا بأن {أهل الذكر} هي خاصة بالرسول وآله (ع) وبذلك ينتفي دليلكم الأول على وجوب التقليد فقد جاء في التفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي عن الإمام الباقر (ع): (قيل له إن من عندنا يزعمون أن قول الله عز وجل فاسألوا أهل الذكر إنهم اليهود والنصارى قال إذن يدعوكم إلى دينهم ثم قال وأومأ بيده إلى صدره نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون) التفسير الصافي - الفيض الكاشاني - ج 3 - ص331.
وجاء عن الريان بن الصلت، عن علي بن موسى الرضا (ع) في حديث أنه قال للعلماء في مجلس المأمون: (أخبروني عن هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فقالت العلماء : أراد الله بذلك الأمة كلها ، فقال الرضا (ع): بل أراد الله العترة الطاهرة - إلى أن قال الرضا (ع): ونحن أهل الذكر الذين قال الله عز وجل {فَاسْأَلُواْ أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فقالت العلماء: إنما عنى بذلك اليهود والنصارى، فقال أبو الحسن (ع): سبحان الله ويجوز ذلك إذن يدعونا إلى دينهم ويقولون إنه أفضل من دين الإسلام ، فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوا يا أبا الحسن ؟ قال : نعم الذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن أهله ، وذلك بين في كتاب الله حيث يقول في سورة الطلاق {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} فالذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ونحن أهله) وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 18 - ص 49.
ومنها ما رواه هشام بن سالم قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله تعالى {فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون} من هم؟ قال {عليه السلام) : ( نحن ) مستدرك الوسائل - ج 17 - ص 276.
وجاء عن الإمام علي بن الحسين (ع)، والإمام محمد بن علي (ع)، انهما ذكرا وصية أمير المؤمنين (ع) عند وفاته إلى ولده وشيعته ، وفيها : (وعليكم بطاعة من لا تعذرون في ترك طاعته - طاعتنا أهل البيت - فقد قرن الله طاعتنا بطاعته وطاعة رسوله، ونظم ذلك في آية من كتابه، منا من الله علينا وعليكم، فأوجب طاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة الأمر من آل رسوله، وأمركم أن تسألوا أهل الذكر، ونحن والله أهل الذكر، لا يدعي ذلك غيرنا الا كاذب، تصديق ذلك في قوله تعالى {قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} ثم قال : {فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون} فنحن أهل الذكر ، فاقبلوا أمرنا ، وانتهوا إلى نهينا ، فإنا نحن الأبواب التي أمرتم أن تأتوا البيوت منها ، فنحن والله أبواب تلك البيوت ، ليس ذلك لغيرنا ، ولا يقوله أحد سوانا ) المصدر السابق - ص 283 .
وجاء عن الإمام الصادق (ع) انه قال : (إياكم وتقحم المهالك بإتباع الهوى والمقاييس ، قد جعل الله للقرآن أهلاً أغناكم بهم عن جميع الخلائق ، لا علم إلا ما أمروا به، قال الله تعالى {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} إيانا عنى ) المصدر السابق - ص 257 .
فكيف لنا ان نقيس ونشبه الفقهاء بأهل الذكر الأئمة المعصومين (ع)؟ ونقول بأن هذه الآية دليل على الرجوع للفقهاء وتقليدهم وأمير المؤمنين (ع) يقول لنا: (نحن والله أهل الذكر، لا يدعي ذلك غيرنا الا كاذب) فكيف لنا ان ندعي بأن الفقيه مرجع التقليد من أهل الذكر ووجوب سؤاله وتقليده علينا جاء بدلالة هذه الآية ؟ غفر الله ذنوبنا وذنوبكم . وبهذا نكون قد أنتهينا من مناقشة الدليل القرآني الأول .
مناقشة الدليل القرآني الثاني :
قوله تعالى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}التوبة 122 .
أستدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة وجعلوها دليلاً على مسألة وجوب التقليد على المكلفين وسوف نذكر فيما يلي جملة من تفاسيرهم ثم نعرج على تفسير الأئمة (ع) لنرى الاختلاف بين التفسيرين :
ذهب المازندراني في شرحه لهذه الآية بأن التفقه وطلب العلم واجب كفائي على المسلمين حيث قال ( في قوله تعالى {وما كان المؤمنون} أي ما استقام لهم أن ينفروا كلهم إلى أهل العلم لطلبه، لأن ذلك يوجب اختلال نظام معاشهم فهلا نفر من كل فرقة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة طائفة قليلة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم من مخالفة الرب إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، وفيه دلالة على أن طلب العلم واجب كفائي) شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 5 - ص274.
ثم بعد ذلك أخذ الفقهاء بالقول بأن {ليتفقهوا في الدين} أي ليصلوا إلى درجة الإجتهاد المطلق كما ذهب إلى ذلك جملة من الفقهاء المتأخرين منهم على سبيل المثال المحقق الخوئي فقد عبر عن ذلك بقوله : (الإجتهاد واجب كفائي وليس من الواجبات العينية كما هو مقتضى قوله عز من قائل { فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} . لدلالته على أن الإجتهاد وتحصيل العلم بالأحكام إنما يجب على طائفة من كل فرقة لا على الجميع ) كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخوئي - شرح ص31 .
وذكر السيد الروحاني نفس المعنى قائلاً : (إن الإجتهاد واجب كفائي ، فإذا تصدى له من يكتفى به سقط التكليف عن الباقين) المسائل المنتخبة - السيد محمد الروحاني - ص5 .
وأكد السيد محمد باقر الصدر على ذلك أيضاً قائلاً : (الإجتهاد واجب كفائي على المسلمين، ومعنى ذلك أنه إذا قام به البعض وبلغوا درجة الإجتهاد سقط الوجوب عن الآخرين) الفتاوى الواضحة - للسيد محمد باقر الصدر - ص 29
وقال السيد السيستاني بذلك أيضاً : (الإجتهاد واجب كفائي ، فإذا تصدى له من يكتفي به سقط التكليف عن الباقين) المسائل المنتخبة - السيد السيستاني - ص 10 .
إن المتتبع لما قاله فقهاء الإمامية في أستدلالهم بهذه الآية على مسألة الوجوب الكفائي للتفقه في الدين - كما تقدم بيانه - ثم بعد ذلك أستبدالهم لكلمة التفقه التي جاءت في قوله تعالى {ليتفقهوا} بمصطلح الإجتهاد يجد الفرق اللغوي بين الاثنين، ثم ان هذه الآية لا تصلح ان تكون دليلاً معتبراً على مسألة وجوب التقليد لأنها ليست لها مدخلية في مسألة وجوب التقليد، ولم يفسرها أهل البيت (ع) بوجوب التقليد إطلاقاً فكيف لكم ان تُفسروا القرآن برأيكم ؟ وهذا خلاف لما أوصى به الأئمة (ع).
ولكي نتعرف على تفسير هذه الآية يتوجب علينا سؤال الأئمة (ع) لمعرفة معناها فَهُم أهل الذكر الواجب علينا سؤالهم ولذلك سوف نورد ما جاء في تفسيرها عن الأئمة من آل محمد (ع):
1- جاء في تفسير نور الثقلين نقلا عن علل الشرايع عن عبد الله بن المؤمن الأنصاري قال: قلت لأبي عبد الله (ع): (ان قوما يروون ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: اختلاف أمتي رحمة ؟ فقال: صدقوا، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال: ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد قول الله عز وجل {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فأمرهم ان ينفروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ويختلفوا إليه فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، إنما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله إنما الدين واحد .تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي - ج 2 - ص 283
2- جاء عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) ان بلغنا وفات الإمام كيف نصنع ؟ قال: عليكم النفير قلت: النفير جميعاً ؟ قال: إن الله يقول : " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين - - تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي - ج 2 - ص 283.
3- وجاء عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (ع) قال: (قلت له: إذا حدث للإمام حدث كيف يصنع الناس ؟ قال: يكونون كما قال الله: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين " إلى قوله " يحذرون " قال: قلت: فما حالهم ؟ قال: هم في عذر) تفسير العياشي - محمد بن مسعود العياشي - ج 2 - ص117.
وعنه أيضاً في رواية أخرى (ما تقول في قوم هلك امامهم كيف يصنعون ؟ قال فقال لي : أما تقرأ كتاب الله : " فلولا نفر من كل فرقة " إلى قوله: " يحذرون " ؟ قلت: جعلت فداك فما حال المنتظرين حتى يرجع المتفقهون ؟ قال فقال لي: رحمك الله أما علمت أنه كان بين محمد وعيسى صلى الله عليهما وآلهما خمسون ومأتا سنة، فمات قوم على دين عيسى انتظارا لدين محمد فأتاهم الله أجرهم مرتين ) نفس المصدر السابق .
4- وعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (الجهاد فرض على جميع المسلمين لقول الله {كتب عليكم القتال} فإن قامت بالجهاد طائفة من المسلمين وسع سائرهم التخلف عنه ما لم يحتج الذين يلون الجهاد إلى المدد فإن احتاجوا لزم الجميع أن يمدوا حتى يكتفوا، قال الله عز وجل {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} وإن أدهم أمر يحتاج فيه إلى جماعتهم نفروا كلهم، قال الله عز وجل {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} مستدرك الوسائل ج 11 - ص14 – دعائم الاسلام .
أما ما قاله المفسرون فَهُم أيضاً لم يقولوا ان هذه الآية تدل على وجوب التقليد ومن هذه الأقوال :
1- قال الشيخ الطبرسي : (ليتفقهوا أي : ليتفقه باقوهم لأنه إذا نفر طائفة منهم تفقه من بقي منهم ، وإن شئت فمعناه ليتفقه كلهم ، لأنه من نفر منهم إذا رجع استعلم من بقي ، فصار كلهم فقهاء) تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ج 5 - ص 143 – 145.
2- وقال الفيض الكاشاني : (وما استقام لهم أن ينفروا جميعاً ، لنحو غزو وطلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يثبطوا جميعاً. {فلولا نفر من كل فرقة منهم} فهلا نفر من كل جماعة كثيرة، كقبيلة وأهل بلدة {طائفة} جماعة قليلة {ليتفقهوا في الدين} ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا مشاق تحصيلها {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} عما ينذرون منه) التفسير الأصفى - الفيض الكاشاني - ج 1 - ص 498 - 499.
3- وقال صاحب الميزان : (السياق يدل على أن المراد بقوله : {لينفروا كافة} لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً وقوله : {فرقة منهم} الضمير للمؤمنين الذين ليس لهم ان ينفروا كافة ، ولازمه ان يكون النفر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم . فالآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول ان ينفروا إلى الجهاد كافة بل يحضضهم ان ينفر طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتفقه في الدين ، وينفر إلى الجهاد غيرهم.. - تفسير الميزان – الطباطبائي - ج 9 - ص 403 .
ومن هذه الآية وتفاسيرها التي جاءت عن الأئمة (ع) نفهم ما يلي :
اولاً : إن النفور يكون للجهاد بإستثناء نفر من المؤمنين ينفرون للنبي (ص) للتفقه في الدين لينذروا ويفقهوا اخوانهم المجاهدين حين رجوعهم من الجهاد، وبذلك أصبح جميع المؤمنين فقهاء في الدين وهم في الدرجة سواء حيث قال أمير المؤمنين (ع): (الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل الله ... ) روضة الواعظين ص 10.
وهذا طبعاً في حال القتال أما إذا كان المؤمنون يعيشون حالة السلم فيتوجب عليهم جميعاً طلب العلم تصديقا لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (طلب العلم فريضة على كل مسلم ، إلا أن الله يحب بغاة العلم)الكافي – الشيخ الكليني - ج 1 - ص 30
يتبع
تعليق