منقول من كتاب سقيفة الغيبة المستتوحى من فكر السيد القحطاني
مناقشة الدليل الروائي الخامس :
رواى الكشي بسنده ، عن جبريل بن محمد الفاريابي ، عن موسى بن جعفر بن وهب، عن أحمد أبن حاتم بن ماهويه قال : كتبت إليه، يعني أبا الحسن الثالث (ع) أسأله عمن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب (ع) إليهما: ﴿ فهمت ما ذكرتما ، فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله - تعالى - وسائل الشيعة – الحر العاملي - ج18 –ص 110 - الباب 11 من أبواب صفات القاضي .
.
مناقشة السند :
اشار المحققون إلى ضعف الرواية سنداً ولم يستند على متنها بعضهم . وقبل مناقشة المتن تعرض جملة من الفقهاء إلى التحقيق في سند هذه الرواية فقالوا بضعفها سندا لمجهولية كلاً من جبريل بن محمد الفاريابي وكذلك موسى بن جعفر بن وهب وأحمد أبن حاتم بن ماهويه ولم يثبت وثاقة أي من الرواة ما عدى الكشي .
قال السيد الخميني في كتاب الإجتهاد والتقليد بضعف الرواية سندا واشار إلى تعليل ذلك قائلاً : ﴿رواه الكشي ، عن جبريل بن محمد الفاريابي ، عن موسى بن جعفر بن وهب ، عن أحمد أبن حاتم بن ماهويه ، ولم يثبت توثيق من عدا الكشي ﴾﴿ - الاجتهاد والتقليد - السيد الخميني هامش ص 100.﴾ وقال الخراساني بعدم موثوقية موسى بن جعفر بن وهب : ﴿موسى بن جعفر بن وهب البغدادي وهو غير موثق﴾﴿ - إكليل المنهج في تحقيق المطلب - محمد جعفر بن محمد طاهر الخراساني الكرباسي - ص 493﴾ وذكر السيد الخوئي حال أحمد أبن حاتم بن ماهويه فلم يوثقه قائلاً : ﴿وهذه الرواية لا دلالة فيها على حسن الرجل . . . ولو سلمت دلالتها على حسن الرجل ، وأغمض النظر عن سندها لم يثبت بها حسنه ، لأنه بنفسه راوي الرواية﴾﴿ - معجم رجال الحديث - السيد الخوئي - ج 2 - ص 68﴾ وقال أيضاً في حال كلاً من جبرائيل وموسى: ﴿ أنها ضعيفة السند بجبرئيل بن أحمد، وموسى بن جعفر بن وهب﴾﴿ - المصدر السابق﴾ .
وبعد ما تقدم من الحديث يثبت بالدليل ضعف الرواية سنداً لعدم موثوقية ناقليها فلم يوثق أصحاب المصنفات الرجالية أيٍ من جبريل بن محمد الفاريابي وكذلك موسى بن جعفر بن وهب وأحمد أبن حاتم بن ماهويه وبهذا يكون الاحتجاج بها من حيث السند ممنوع عند الأصوليين.
مناقشة متن الرواية :
أستدل بعض الفقهاء على حجية الرواية في مسألة التقليد﴿ دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية - الشيخ المنتظري - ج 2 - ص 91﴾ وفي جانب آخر فقد أشار جملة من المحققين على الجزم بامتناع الاحتجاج بما أحتواه متن الرواية لعدم موافقته لمبدأ التقليد من الأساس فمن هذه الأقوال هو ما ذكره المحقق الخوئي قائلاً : ﴿ . . . فهي غير معمول بها قطعا، للجزم بأن من يرجع إليه في الأحكام الشرعية لا يشترط أن يكون شديد الحب لهم أو يكون ممن له ثبات تام في أمرهم - ع - .- كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخوئي - شرح ص 220
ومن الغريب بعد هذا القول من المحقق الخوئي والجزم والقطع الذي قال به في عدم العمل بها ترى جماعة من الفقهاء قد أخذوا بأعتبارها دليلاً على مسألة التقليد والرجوع للفقهاء .
هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد أخبرنا التأريخ بالعديد من الشخصيات التي كان لها القدم في الدين وصرفوا سنين عمرهم الطويلة في طاعة الله ولكن كانت نهايتهم في جهنم خالدين وقد أشار كتاب الله عز وجل إلى هذه المعاني في قوله تعالى : ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾﴿ - سورة الاعراف الايتين 175 - 176﴾
صدق الله العلي العظيم حين أمرنا بالتفكر بهذه الوقائع فقد أشارت الأخبار إلى أن المقصود بهذه الآية هو بلعم بن باعوراء فقد جاء عن أبن عباس حين سُئل عنها فقال : ﴿هو بلعم بن باعوراء﴾﴿- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 8 - ص 337 ﴾ واشار الشيخ الشيرازي إلى الآية في تفسيره تحت عنوان ﴿العالم المنحرف " بلعم بن باعوراء"﴾ قائلاً : ﴿... تحدثت عن عالم كان يسير في طريق الحق ابتداء وبشكل لا يفكر معه أحد بأنه سينحرف يوما ﴾﴿- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 5 - ص 295 ﴾ .
لقد كان بلعم بن باعوراء من كبار علماء بني إسرائيل وكان في قمة التقوى والورع والامانة حتى اعطاه الله الأسم الأعظم فكان يدعوا الله فيستجاب له كما اشار الجزائري إلى ذلك قائلاً : ﴿أعطي بلعم بن باعوراء الأسم الأعظم وكان يدعو به فيستجاب له﴾﴿ - قصص الأنبياء - الجزائري - ص 352﴾ .
ولا يخفى ان الذي يُعطى هذه المقامات العالية لا يفكر أحد بل لا يخطر ببال أحد ان سيجيء يوماً يكون فيه هذا العبد مسلوبا من مقاماته كما لا يخطر ببال أحد ان يخرج هذا العبد من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر فيصبح بفعاله من أعداء الله وأعداء أوليائه .
وفي هذا السياق ذكر الشيرازي في تفسيره هذا العالم المنحرف قائلاً : ﴿ ... نستفيد من أغلب الروايات وأحاديث المفسرين أن هذا الشخص يسمى ﴿بعلم بن باعوراء﴾ الذي عاصر النبي موسى (ع) وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل ، حتى أن موسى (ع) كان يعول عليه على أنه داعية مقتدر ، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجابا لدى الباري جل وعلا، لكنه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذ في جبهة أعداء موسى ﴿عليه السلام﴾﴾﴿الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 5 - ص 295 - 296 ﴾ .
ولا يخفى فإن كتاب الله يجري كما يجري الليل والنهار فلا خصوصية لبلعم في هذه الآيات بل يجري هذا الكلام مجرى كل من سلك طريق بلعم وأصبح في حزب الشيطان مقيم وهذا ما اكده الشيرازي في قوله : ﴿ ولا يختص الأمر بزمن النبي موسى (ع) أو غيره من الأنبياء ، بل حتى بعد عصر النبي الكريم ﴿صلى الله عليه وآله وسلم﴾ إلى يومنا هذا نجد أمثال بلعم بن باعوراء وأبي عامر الراهب وأمية بن الصلت، يضعون علومهم ومعارفهم ونفوذهم الاجتماعي من أجل الدرهم والدينار، أو المقام، أو لأجل الحسد ، تحت اختيار المنافقين وأعداء الحق والفراعنة أمثال بني أمية وبني العباس وسائر الطواغيت﴾﴿ - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 5 - ص 297﴾.
إن المتأمل في كلام الشيخ الشيرازي يجده تاماً من جهة وناقص من جهة فتمامه من حيث النظرية ونقصانه من حيث التطبيق فالنظرية بمفردها تامة أي بالامكان أن ينحرف العالم أو الفقيه ويخرج من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر ويصبح بعد أن كان ولياً لله عدوا له . إن هذه النظرية تحتاج للتطبيق ولكن عند تطبيقها نجد ان سواد الناس قد أتبعت القديم في أمر الله وأنبيائه واوصيائه كما اتبع الناس بلعم وغيره، ولم يعيروا إلى انحرافه بال وذلك لأن طبيعة النفس البشرية ترفض هذا الشيء -اي تقبل انحراف العالم القديم في أمر الدين- الا من عصم الله حاله .
ومن هنا نفهم العلة من كون شرار خلق الله هم العلماء إذا فسدوا لأن تشخيص فساد العالم ليس بالشيء اليسير على العباد فقد قيل لأمير المؤمنين (ع): ﴿... فمن شرار خلق الله بعد إبليس، وفرعون ، ونمرود ، وبعد المتسمين بأسمائكم، والمتلقبين بألقابكم، والآخذين لأمكنتكم، والمتأمرين في ممالككم؟ قال: العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل ، الكاتمون للحقايق ، وفيهم قال الله عز وجل: ﴿ أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا . . الآية ﴾﴾﴿الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 264 - 265﴾ .
إن الناس ليس بأستطاعتهم تشخيص انحراف العلماء بسهولة فإن للعالم هيبة في قلوب أتباعه وليس بالسهولة أن تزال هذه الهيبة عن قلوبهم حتى وأن أنحرف فتجد أتباعه -إلا ما ندر- قد أنحرفوا معه وسلكوا طريق الشيطان وأوليائه فمن هذه النظرية وتطبيقها نفهم بأن لا كرامة للقدم في الدين بل الكرامة للثابتين على دينهم المتمسكين بمنهج الأنبياء والأوصياء .
إن المتتبع للتأريخ يجد لمفهوم هذه النظرية وتطبيقها الكثير من المصاديق ففي الإسلام تحديداً نجد المسلمين قد سلكوا هذه النظرية بتطبيق خاطئ بإتباعهم للأصحاب القدماء في أمر رسول الله (ص) تاركين ورائهم وصي وخليفة الرسول ولم ينحصر هذا الإتباع في ذلك الزمان تحديداً بل لم يَسلم إمام من الأئمة الاثني عشر (ع) من فرقة الأصحاب بعده حتى ألف أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي وهو من اعلام القرن الثالث الهجري كتاب فرق الشيعة تناول فيه حجم الاختلاف الذي حصل بين أصحاب الأئمة بعد رحيل كل إمام.
وكان الاختلاف في إمامة الذي يلي أمر المعصوم إلى حد ان الخلاف كان يحدث من كبار الأصحاب ولم يَسلم القديم في أمر الأئمة (ع) من الانحراف فقد ذكر السيد الصدر في موسوعة الإمام المهدي (ع) حال أحمد بن هلال الكرخي وهذا قد عاصر الإمام الرضا (ع) ومن بعده عاصر الإمام الجواد (ع) ثم الهادي والعسكري (ع) حتى الإمام المهدي (ع) وكان الكرخي من المتصوفين وكان يتلقى الأوامر من الإمام المهدي (ع) إلا إنه انحرف عن الصواب وسلك مسلك بلعم فخرج التوقيع بلعنه والتحذير منه﴿- رجال الكشي – الشيخ الطوسي - ص450
﴾ وقال السيد الصدر في أبن هلال الكرخي : ﴿ ان أبن هلال كان يتلقى الأوامر من الإمام المهدي (ع)– ولو بالواسطة- إلا إنه كان يستبد برأيه فيها ولا يطبق إلا ما يريد وكيف يريد فدعا عليه الإمام المهدي فبتر الله عمره ﴾﴿ - تاريخ الغيبة الصغرى من موسوعة الإمام المهدي للسيد الصدر ص 502﴾.
وتوفى أبن هلال وهو على الضلالة والانحراف بعد الغيبة الصغرى بسبع سنوات .
إن لأبن هلال هذا عبرة لمن يعتبر فقد صرف الكرخي عمره في خدمة الدين والأئمة (ع) إلا إنه انحرف وسلك طرق الملعونين وأصبح كافر بما انعم الله عليه من القدم في أمر الأئمة (ع) فأين ذهبت النظرية التي ذكرناها قبل قليل من هذا التطبيق، فكيف يمكن للناس ان يشخصوا انحراف القديم في أمر الله وخصوصاً ان كان هؤلاء المنحرفين من الذين يُعول أكثر الإمامية عليهم ويعدهم من أصحاب الأئمة (ع) والثقاة الموثوقين في صحبتهم وإذا بهم قد ادعوا ما ليس لهم وجلسوا يأمرون وينهون ويأخذون الأموال بحجة صحبتهم للأئمة (ع) ويقولون بكلام ما انزل الله به من سلطان .
إن الأمثلة على أنحراف من كان قديماً في أمر الأئمة والأنبياء (ع) كثيرة جداً نكتفي بما قلناه ومن أراد المزيد منها فليراجع قصص الأنبياء والأئمة (ع) ليجد الكثير من الأصحاب الذين كانوا من المقربين السابقين في إيمانهم ثم أصبحوا بعد ذلك مرمىً لحجارة اللاعنين.
مما تقدم يكون قد تكوّن لدينا فهماً مجزي عما عنته الرواية – رغم ضعفها سنداً – فقد ثبت بالدليل مخالفتها لكتاب الله والوقائع التأريخية وبهذا يكون الأخذ بها بل والاحتجاج بها ممنوع .
مناقشة الدليل الروائي الخامس :
رواى الكشي بسنده ، عن جبريل بن محمد الفاريابي ، عن موسى بن جعفر بن وهب، عن أحمد أبن حاتم بن ماهويه قال : كتبت إليه، يعني أبا الحسن الثالث (ع) أسأله عمن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب (ع) إليهما: ﴿ فهمت ما ذكرتما ، فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله - تعالى - وسائل الشيعة – الحر العاملي - ج18 –ص 110 - الباب 11 من أبواب صفات القاضي .
.
مناقشة السند :
اشار المحققون إلى ضعف الرواية سنداً ولم يستند على متنها بعضهم . وقبل مناقشة المتن تعرض جملة من الفقهاء إلى التحقيق في سند هذه الرواية فقالوا بضعفها سندا لمجهولية كلاً من جبريل بن محمد الفاريابي وكذلك موسى بن جعفر بن وهب وأحمد أبن حاتم بن ماهويه ولم يثبت وثاقة أي من الرواة ما عدى الكشي .
قال السيد الخميني في كتاب الإجتهاد والتقليد بضعف الرواية سندا واشار إلى تعليل ذلك قائلاً : ﴿رواه الكشي ، عن جبريل بن محمد الفاريابي ، عن موسى بن جعفر بن وهب ، عن أحمد أبن حاتم بن ماهويه ، ولم يثبت توثيق من عدا الكشي ﴾﴿ - الاجتهاد والتقليد - السيد الخميني هامش ص 100.﴾ وقال الخراساني بعدم موثوقية موسى بن جعفر بن وهب : ﴿موسى بن جعفر بن وهب البغدادي وهو غير موثق﴾﴿ - إكليل المنهج في تحقيق المطلب - محمد جعفر بن محمد طاهر الخراساني الكرباسي - ص 493﴾ وذكر السيد الخوئي حال أحمد أبن حاتم بن ماهويه فلم يوثقه قائلاً : ﴿وهذه الرواية لا دلالة فيها على حسن الرجل . . . ولو سلمت دلالتها على حسن الرجل ، وأغمض النظر عن سندها لم يثبت بها حسنه ، لأنه بنفسه راوي الرواية﴾﴿ - معجم رجال الحديث - السيد الخوئي - ج 2 - ص 68﴾ وقال أيضاً في حال كلاً من جبرائيل وموسى: ﴿ أنها ضعيفة السند بجبرئيل بن أحمد، وموسى بن جعفر بن وهب﴾﴿ - المصدر السابق﴾ .
وبعد ما تقدم من الحديث يثبت بالدليل ضعف الرواية سنداً لعدم موثوقية ناقليها فلم يوثق أصحاب المصنفات الرجالية أيٍ من جبريل بن محمد الفاريابي وكذلك موسى بن جعفر بن وهب وأحمد أبن حاتم بن ماهويه وبهذا يكون الاحتجاج بها من حيث السند ممنوع عند الأصوليين.
مناقشة متن الرواية :
أستدل بعض الفقهاء على حجية الرواية في مسألة التقليد﴿ دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية - الشيخ المنتظري - ج 2 - ص 91﴾ وفي جانب آخر فقد أشار جملة من المحققين على الجزم بامتناع الاحتجاج بما أحتواه متن الرواية لعدم موافقته لمبدأ التقليد من الأساس فمن هذه الأقوال هو ما ذكره المحقق الخوئي قائلاً : ﴿ . . . فهي غير معمول بها قطعا، للجزم بأن من يرجع إليه في الأحكام الشرعية لا يشترط أن يكون شديد الحب لهم أو يكون ممن له ثبات تام في أمرهم - ع - .- كتاب الاجتهاد والتقليد - السيد الخوئي - شرح ص 220
ومن الغريب بعد هذا القول من المحقق الخوئي والجزم والقطع الذي قال به في عدم العمل بها ترى جماعة من الفقهاء قد أخذوا بأعتبارها دليلاً على مسألة التقليد والرجوع للفقهاء .
هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد أخبرنا التأريخ بالعديد من الشخصيات التي كان لها القدم في الدين وصرفوا سنين عمرهم الطويلة في طاعة الله ولكن كانت نهايتهم في جهنم خالدين وقد أشار كتاب الله عز وجل إلى هذه المعاني في قوله تعالى : ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾﴿ - سورة الاعراف الايتين 175 - 176﴾
صدق الله العلي العظيم حين أمرنا بالتفكر بهذه الوقائع فقد أشارت الأخبار إلى أن المقصود بهذه الآية هو بلعم بن باعوراء فقد جاء عن أبن عباس حين سُئل عنها فقال : ﴿هو بلعم بن باعوراء﴾﴿- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 8 - ص 337 ﴾ واشار الشيخ الشيرازي إلى الآية في تفسيره تحت عنوان ﴿العالم المنحرف " بلعم بن باعوراء"﴾ قائلاً : ﴿... تحدثت عن عالم كان يسير في طريق الحق ابتداء وبشكل لا يفكر معه أحد بأنه سينحرف يوما ﴾﴿- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 5 - ص 295 ﴾ .
لقد كان بلعم بن باعوراء من كبار علماء بني إسرائيل وكان في قمة التقوى والورع والامانة حتى اعطاه الله الأسم الأعظم فكان يدعوا الله فيستجاب له كما اشار الجزائري إلى ذلك قائلاً : ﴿أعطي بلعم بن باعوراء الأسم الأعظم وكان يدعو به فيستجاب له﴾﴿ - قصص الأنبياء - الجزائري - ص 352﴾ .
ولا يخفى ان الذي يُعطى هذه المقامات العالية لا يفكر أحد بل لا يخطر ببال أحد ان سيجيء يوماً يكون فيه هذا العبد مسلوبا من مقاماته كما لا يخطر ببال أحد ان يخرج هذا العبد من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر فيصبح بفعاله من أعداء الله وأعداء أوليائه .
وفي هذا السياق ذكر الشيرازي في تفسيره هذا العالم المنحرف قائلاً : ﴿ ... نستفيد من أغلب الروايات وأحاديث المفسرين أن هذا الشخص يسمى ﴿بعلم بن باعوراء﴾ الذي عاصر النبي موسى (ع) وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل ، حتى أن موسى (ع) كان يعول عليه على أنه داعية مقتدر ، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجابا لدى الباري جل وعلا، لكنه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذ في جبهة أعداء موسى ﴿عليه السلام﴾﴾﴿الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 5 - ص 295 - 296 ﴾ .
ولا يخفى فإن كتاب الله يجري كما يجري الليل والنهار فلا خصوصية لبلعم في هذه الآيات بل يجري هذا الكلام مجرى كل من سلك طريق بلعم وأصبح في حزب الشيطان مقيم وهذا ما اكده الشيرازي في قوله : ﴿ ولا يختص الأمر بزمن النبي موسى (ع) أو غيره من الأنبياء ، بل حتى بعد عصر النبي الكريم ﴿صلى الله عليه وآله وسلم﴾ إلى يومنا هذا نجد أمثال بلعم بن باعوراء وأبي عامر الراهب وأمية بن الصلت، يضعون علومهم ومعارفهم ونفوذهم الاجتماعي من أجل الدرهم والدينار، أو المقام، أو لأجل الحسد ، تحت اختيار المنافقين وأعداء الحق والفراعنة أمثال بني أمية وبني العباس وسائر الطواغيت﴾﴿ - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 5 - ص 297﴾.
إن المتأمل في كلام الشيخ الشيرازي يجده تاماً من جهة وناقص من جهة فتمامه من حيث النظرية ونقصانه من حيث التطبيق فالنظرية بمفردها تامة أي بالامكان أن ينحرف العالم أو الفقيه ويخرج من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر ويصبح بعد أن كان ولياً لله عدوا له . إن هذه النظرية تحتاج للتطبيق ولكن عند تطبيقها نجد ان سواد الناس قد أتبعت القديم في أمر الله وأنبيائه واوصيائه كما اتبع الناس بلعم وغيره، ولم يعيروا إلى انحرافه بال وذلك لأن طبيعة النفس البشرية ترفض هذا الشيء -اي تقبل انحراف العالم القديم في أمر الدين- الا من عصم الله حاله .
ومن هنا نفهم العلة من كون شرار خلق الله هم العلماء إذا فسدوا لأن تشخيص فساد العالم ليس بالشيء اليسير على العباد فقد قيل لأمير المؤمنين (ع): ﴿... فمن شرار خلق الله بعد إبليس، وفرعون ، ونمرود ، وبعد المتسمين بأسمائكم، والمتلقبين بألقابكم، والآخذين لأمكنتكم، والمتأمرين في ممالككم؟ قال: العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل ، الكاتمون للحقايق ، وفيهم قال الله عز وجل: ﴿ أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا . . الآية ﴾﴾﴿الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 264 - 265﴾ .
إن الناس ليس بأستطاعتهم تشخيص انحراف العلماء بسهولة فإن للعالم هيبة في قلوب أتباعه وليس بالسهولة أن تزال هذه الهيبة عن قلوبهم حتى وأن أنحرف فتجد أتباعه -إلا ما ندر- قد أنحرفوا معه وسلكوا طريق الشيطان وأوليائه فمن هذه النظرية وتطبيقها نفهم بأن لا كرامة للقدم في الدين بل الكرامة للثابتين على دينهم المتمسكين بمنهج الأنبياء والأوصياء .
إن المتتبع للتأريخ يجد لمفهوم هذه النظرية وتطبيقها الكثير من المصاديق ففي الإسلام تحديداً نجد المسلمين قد سلكوا هذه النظرية بتطبيق خاطئ بإتباعهم للأصحاب القدماء في أمر رسول الله (ص) تاركين ورائهم وصي وخليفة الرسول ولم ينحصر هذا الإتباع في ذلك الزمان تحديداً بل لم يَسلم إمام من الأئمة الاثني عشر (ع) من فرقة الأصحاب بعده حتى ألف أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي وهو من اعلام القرن الثالث الهجري كتاب فرق الشيعة تناول فيه حجم الاختلاف الذي حصل بين أصحاب الأئمة بعد رحيل كل إمام.
وكان الاختلاف في إمامة الذي يلي أمر المعصوم إلى حد ان الخلاف كان يحدث من كبار الأصحاب ولم يَسلم القديم في أمر الأئمة (ع) من الانحراف فقد ذكر السيد الصدر في موسوعة الإمام المهدي (ع) حال أحمد بن هلال الكرخي وهذا قد عاصر الإمام الرضا (ع) ومن بعده عاصر الإمام الجواد (ع) ثم الهادي والعسكري (ع) حتى الإمام المهدي (ع) وكان الكرخي من المتصوفين وكان يتلقى الأوامر من الإمام المهدي (ع) إلا إنه انحرف عن الصواب وسلك مسلك بلعم فخرج التوقيع بلعنه والتحذير منه﴿- رجال الكشي – الشيخ الطوسي - ص450
﴾ وقال السيد الصدر في أبن هلال الكرخي : ﴿ ان أبن هلال كان يتلقى الأوامر من الإمام المهدي (ع)– ولو بالواسطة- إلا إنه كان يستبد برأيه فيها ولا يطبق إلا ما يريد وكيف يريد فدعا عليه الإمام المهدي فبتر الله عمره ﴾﴿ - تاريخ الغيبة الصغرى من موسوعة الإمام المهدي للسيد الصدر ص 502﴾.
وتوفى أبن هلال وهو على الضلالة والانحراف بعد الغيبة الصغرى بسبع سنوات .
إن لأبن هلال هذا عبرة لمن يعتبر فقد صرف الكرخي عمره في خدمة الدين والأئمة (ع) إلا إنه انحرف وسلك طرق الملعونين وأصبح كافر بما انعم الله عليه من القدم في أمر الأئمة (ع) فأين ذهبت النظرية التي ذكرناها قبل قليل من هذا التطبيق، فكيف يمكن للناس ان يشخصوا انحراف القديم في أمر الله وخصوصاً ان كان هؤلاء المنحرفين من الذين يُعول أكثر الإمامية عليهم ويعدهم من أصحاب الأئمة (ع) والثقاة الموثوقين في صحبتهم وإذا بهم قد ادعوا ما ليس لهم وجلسوا يأمرون وينهون ويأخذون الأموال بحجة صحبتهم للأئمة (ع) ويقولون بكلام ما انزل الله به من سلطان .
إن الأمثلة على أنحراف من كان قديماً في أمر الأئمة والأنبياء (ع) كثيرة جداً نكتفي بما قلناه ومن أراد المزيد منها فليراجع قصص الأنبياء والأئمة (ع) ليجد الكثير من الأصحاب الذين كانوا من المقربين السابقين في إيمانهم ثم أصبحوا بعد ذلك مرمىً لحجارة اللاعنين.
مما تقدم يكون قد تكوّن لدينا فهماً مجزي عما عنته الرواية – رغم ضعفها سنداً – فقد ثبت بالدليل مخالفتها لكتاب الله والوقائع التأريخية وبهذا يكون الأخذ بها بل والاحتجاج بها ممنوع .
تعليق