مناطقة الحوزة يجهلون الجهل
الجهل واقسامه:
ان الجهل ليس له تعريف قائم بنفسه بل انه يعتمد على بيان العلم حيث ان الجهل عدم العلم ، فالأمر العدمي لا يبين الا بالاضافة الى غيره وكذلك قيوده تكون عرضية من هذا تعرف ان معنى الجهل ( عدم حضور صورة الشيء بالعقل ) ، وكذلك تعرف ان التقابل بينهما تقابل الملكة وعدمها حيث ان الملكة قيودها وجودية وهو ( العلم ) وعدمها قيود عدمية وهو عدم العلم ( الجهل ) من هذا تنبه المناطقة وقسموا الجهل الى اقسام متعددة وذلك لأنه يقابل العلم ويبادله في موارده ولعل سائلاً يسأل كيف يمكن تقسيم الامر العدمي رغم ان القسمة هي ضم القيود ؟ .
نقول ان هذه القسمة بالنظر الى طرف العلم فكلما كان هناك علم يقابله عدم العلم وهو الجهل وبما ان العلم على اقسام لكن الاشكال هنا هو انهم قسموا العلم الى اقسام كثيرة اكثر من الجهل وقسموا الجهل الى اقسام معروفة ( كما سنوضحها).
حيث قسموا الجهل الى تصوري وتصديقي ومن ثم قسموا الجهل التصديقي الى بسيط ومركب اقول ، ألم نقسم العلم الى اقسام كثيرة مثل ( العلم الحسي والخيالي والوهمي ) وكذلك العلم البديهي والنظري فلماذا لم نقسم الجهل اليها كذلك ؟ نعم يجب ان ينقسم الجهل حسب الاقسام المذكورة والدليل على ذلك:-
1- انهم ذكروا الحجة في تقسيم الجهل انه يقابل العلم ويبادله بأقسامه - اذاً لماذا لا يبادله في الاقسام المذكورة واليك نص الحجة في تقسيم الشيخ المظفر للجهل ( والجهل على قسمين كما ان العلم على قسمين لأنه يقابل العلم فيبادله في موارده فتارة يبادل التصور اي يكون في موارده واخرى يبادل التصديقي اي يكون في موارده):
أ - أقول لماذا أخذنا التقسيم الى التصويري والتصديقي فقط ؟ فهناك قد قسمنا العلم الى حسي وخيالي ووهمي والى نظري وبديهي .
2- انهم ذكروا في بطون الكتب ما مضمونه ان هناك جهلاً بديهياً لكنهم لم يعطوه عنواناً او يعترفوا به كقسم - واليك نص الكلام المنقول من كتاب تحرير القواعد ( الشمسية ) : ( ليس كل واحد من التصور والتصديق بديهياً فانه لو كانت جميع التصورات والتصديقات بديهية لما كان شيء من الاشياء مجهولاً لنا وهو باطل وفيه نظر لجواز ان يكون الشيء بديهياً ومجهولاً لنا فان البديهي وان لم يتوقف حصوله على نظر وكسب لكن يمكن ان يتوقف حصوله على نظر وكسب ، لكن يمكن ان يتوقف حصوله على شيء اخر من توجه العقل اليه - او الاحساس به - او الحدس او التجربة ( وغير ذلك ) انتهى .
اقول انه يثبت الجهل البديهي بعبارته : ( الجواز ان يكون الشيء بديهياً ومجهولاً لنا ) وكذلك ما قاله الشيخ المظفر (قده) : ( فان الشيء قد يكون بديهياً ولكن يجهله الانسان لفقد اسباب النفس فلا يجب ان يكون الانسان عالماً بجميع البديهيات ولا يضر ببداهة البديهي ).
ب- اذاً تحصل مما ذكرنا ان اقسام الجهل كاقسام العلم كلها .
النتيجة :- ينقسم الجهل الى اقسام ، فينقسم بإعتبار انه يقابل ( العلم الحسي والخيالي والوهمي ) الى جهل حسي وجهل خيالي وجهل وهمي :
الجهل الحسي :
وهو عدم العلم الحسي ( الذي نحصل عليه عن طريق الحواس ) وذلك مثل فقدان البصر ( فالاعمى ) يجهل كثيراً من الاشياء الخارجية لكن جهله يسمى جهلاً حسياً لأنه فقد حساً ولعله الى هذا تشير الحكمة ( من فقد حساً فقد علماً ) وكذلك الاصم يجهل كثيراً من الاشياء التي من شأنها ان تدرك عن طريق السامعة مثل الاصوات ويسمى هذا الجهل بالجهل الحسي وكذلك .
الجهل الخيالي :
وهو عدم العلم الخيالي ( الذي نحصل عليه عن طريق قوة الخيال ) وذلك مثل بعض الناس الذين تحصل عندهم بالرأس مما يؤدي الى عطل بالخيال ويؤدي الى عدم ضبط الخيال وليس له المقدرة على ادراك وتأليف الصور الخارجية او المحفوظة عنده .
الجهل الوهمي :
وهو عدم العلم الوهمي ( الذي نحصل عليه من طريق قوة الوهم ) وذلك مثل كثير من الناس الذين لا يدركون معاني والبغض حيث نرى بعض الناس يحب الآخر لكنهم لا يدركون هذا المعنى ويسمى هذا الجهل ( الجهل الوهمي ) لأن من شأنه ان يدرك بالوهم.
وكذلك ينقسم الجهل الى قسمين بإعتبار انه يقابل ( العلم البديهي والنظري):
1- الجهل البديهي : وهو عدم العلم البديهي الذي من شانه انه يدرك بالبداهة فبعض الناس مثلاً يجهل اموراً بديهية حتى يصل الى مرحلة انه يجهل اسمه او وجوده ( فيقول هل انا موجود ) وذلك يحصل نتيجة فقدان الاشياء التي يحصل بها الانسان على ذلك العلم مثل الحدس والتجربة او الانتباه فاننا اذا لاحظنا مثلاً المعتزلة الذين يقولون بشبهة الحال وهي ان هناك حالة وسطاً بين الوجود والعدم صفة لا هي موجودة ولا هي معدومة فهنا عندهم في هذه المسألة من البديهيات التي تحصل بالبداهة وغيرها من الامور بل حتى تصل الى مرحلة ان بعض الناس لا يعرف ( 1+1 ) كم يساوي .
الجهل النظري :
وهو عدم العلم النظري ( الذي نحصل عليه عن طريق الكسب والمعرفة ) فهذا القسم امثلته كثيره لأنه اكثر سعة واستخداماً من العلوم الاخرى ما عدا ( الحسي ) فمثلاً : اذا سألت احدهم عن مقدار وزن شيء من الاشياء فقال لا اعرف فذلك نظري لأنه من شأن هذه المسألة ان تدرك بالعلم النظري . ( انتبه ) ان العلم ينقسم الى قسمين الحصولي والحضوري ولما كان الجهل كما قال المناطقة يقابل العلم ويبادله موارده لزم ان ينقسم ايضاً الى قسمين الجهل الحصولي والجهل الحضوري ولما كان العلم الحصولي هو حضور صورة الشيء عند الذهن .
ولما كان العلم الحضوري هو حضور نفس الشيء . اذن الجهل الحضوري : هو عدم حضور نفس الشيء . وقد مثلوا لذلك كعلم النفس بذاتها ، ولما كان كذلك فكيف يوصف الانسان وهو في حالته التخدير العام . كالانسان في حالة التخدير العام فان نفسه حتماً حاضرة لكنه جاهل بحضورها وهذا القسم من اقسام الجهل لايمكن تصوره او انطباقه على المولى عزوجل لانه لايوصف بذلك اطلاقاً .
الجهل التصويري والتصديقي :
ان معنى الجهل التصويري وهو عدم ملكة التصور ومعنى الجهل التصديقي هو عدم التصديق قال الله تعالى {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}يوسف44 ، فهنا حصل لهم تصور بالحلم الذي قصه عليهم العزيز لكنهم لم يحكموا ولم يدركوا معناه ولم يحصل عندهم تصديق فلذلك حصل عندهم جهل تصديقي لأن ملكة الحكم لم توجد عندهم .
قال الله تعالى {انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} فنفى الله العلم عنهم وهذه دلالة على انهم يجهلون {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}يوسف86 ، نسب يعقوب (ع) الى ابنائه الجهل لكن من اي قسم هو ذلك الجهل ؟ ذلك الجهل قسم من الجهل التصويري وذلك لأنهم حتى تصور كثيراً من الامور لا يعرفونها حيث ان هذه الآية تحكي عن يعقوب بأنه يعلم ان يوسف حي وغائب عنه وهم يقولون ان يوسف مات فهم يجهلون ان يوسف حي .
الجهل اليسيط والمركب :
قد عرفنا ان معنى الجهل هو عدم العلم وكذلك عرفنا انه ينقسم الى اقسام ومنها انقسامه الى بسيط ومركب ومعنى البسيط ( ان يجهل الانسان شيئاً وهو ملتفت لجهله ) ومعنى المركب ( ان يجهل الانسان شيء وهو غير ملتفت لجهله ) وهذا مما وضحه القرآن في آيات كثيرة فمثلاً بالنسبة الى البسيط قال الله تعالى عن الملائكة {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم}البقرة31 - 32 ، فهنا الملائكة عندهم جهل بأسماء هؤلاء الذين عرضهم آدم ولم يعرفوها لأن الله نفى عنهم العلم بها قال على لسانهم ( لا علم لنا ) فلذلك هذا جهل بسيط لأنهم يجهلون وهم يعلمون بأنفسهم انهم يجهلون بهذه الاسماء وكذلك قصة يوسف ، ذكر الله تعالى هذا النوع من الجهل وهي حكاية عن العزيز حيث رأى الرؤيا وقال {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}يوسف43 ، فقالوا له {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}يوسف44 ، فإعترفوا انهم لا علم لهم بتأويل الاحلام اذاً هذا جهل بسيط وهناك الكثير من الآيات التي تثبت ذلك الا اننا سنكتفي بما ذكر لضيق المقام .
اما الجهل المركب فقد قال الله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}البقرة11-12 ، فهنا هم عندهم جهل مركب من جهلين - الأول يجهلون الافساد - الثاني يجهلون بأنفسهم انهم يجهلون ، فلذلك قال الله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}البقرة13 ، فهنا ايضاً عندهم جهل مركب لأنهم يجهلون الايمان وقالوا هؤلاء سفهاء وكذلك لا يعلمون {انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} فنفى الله العلم عنهم وهذه دلالة على انهم يجهلون ، وكذلك قوله تعالى حكاية عن الملائكة {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} البقرة 30 ، فهنا كان اعتراض الملائكة عن جهل وجهلهم كان مركباً لأنهم لا يعلمون ما هو مغزى والهدف الرئيس من خلق الانسان وجعل الخليفة وكذلك لا يعلمون انهم جاهلون بهذه القضية فقالوا {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} وهذا ناتج عن وجود جهل لديهم فلذلك قال الله تعالى {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون}.
الجهل الحسي والوهمي الخيالي :
ان معنى الجهل الحسي هو عدم العلم الحسي ومعنى الجهل الوهمي هو عدم العلم الوهمي ومعنى الجهل الخيالي هو عدم العلم الخيالي لأن عدم الملكة هو الجهل فمن شأن بعض الامور ان تدرك الحواس لكن في بعض الاحيان يجهلها الانسان وهناك آية في القرآن تثبت كل انواع الجهل ، قال تعالى {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} النحل 78 ، فهنا ثبت الله سبحانه الجهل المطلق الذي يثبت كل انواع الجهل الحسي والوهمي والخيالي وذلك لأن ملكة الحواس غير موجودة وكذلك ملكة الخيال وكذلك ملكة الوهم غير موجودة وفي مرحلة الطفولة حيث يتميز الانسان فيها بجهالة شديدة وتبدا المدارك تتطور عنده شيئاً فشيئاً قال الله تعالى {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}الأحزاب72 ، اي ان الانسان بطبيعته يتميز بالجهل بل انه في بعض الاحيان تكون الحواس موجودة عند الانسان لكنه يجهل كثيراً من الامور دلالة على وجود الجهل الحسي قال الله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}الأعراف27 ، فهنا يقر الله سبحانه وتعالى ان الانسان عنده جهل حسي بالشياطين حيث انهم موجودون ولكن لا تراهم وهم يروننا وكذلك قال الله تعالى { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}الأعراف116 ، فهنا يكشف الله سبحانه ان بعض السحر هو جهل حسي حيث يؤثر على العين فلا ترى الحقيقة فلذلك قال { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} وقال الله تعالى {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}الأعراف198 ، يعني عندهم جهل بالشيء المراد منهم عن طريق النبي رغم ان هذا الشيء يدرك بالحس .
الجهل البديهي والنظري :
معنى الجهل البديهي هو عدم العلم البديهي يعني ملكة العلم البديهي قال الله تعالى {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}يوسف58 ، اننا نعرف بأن معرفة الأخ لا تحتاج الى كسب ونظر وعملية عقلية بل تكون بالبداهة لكن في بعض الاحيان توجد امور توهم الانسان فتمنعه عن المعرفة فيفقد البداهة ويحصل عنده جهل بديهي - وهو عدم العلم البديهي - وهذا له أمثلة كثيرة .
وكذلك قال الله تعالى حكاية لقصة سليمان بن داود (ع) مع بلقيس {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ}النمل41 ، فان معرفة الاشياء الخاصة به معرفة بديهية وخصوصاً العرش المشار اليه لانها كانت تجلس عليه يومياً لكنها حينما نكروا وغيروا لها عرشها لم تعرفه مما يؤكد وجود جهل بديهي لأن ملكة البداهة انتفت فلذلك قال الله تعالى {فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ }النمل42 ، وكذلك قال الله تعالى {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}النمل44 ، ان بلقيس حينما دخلت الصرح ورأته حسبته لجة - يعني ماء - فهنا معرفة بديهية لا تحتاج الى كسب ونظر ولكن حصل عندها جهل بديهي .
اما الجهل النظري فقد قال الله تعالى فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}الأنعام76 ، فالنبي ابراهيم (ع) يمر هنا بمرحلة جهل نظري وذلك لأن معرفة الرب معرفة نظرية قائمة على البرهان والدليل الا تراه حينما رأى كوكباً قال جهلاً : هذا ربي فلما افل يعني غاب قال انه ليس ربي وذلك لأن الرب لا يغيب اي ان جهل الافول دليل على انه ليس برب وقال تعالى {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}الأنعام77 ، وكذلك حصل عنده في بداية الامر جهل نظري ومن ثم حينما أفل وغاب القمر اصبح عنده علم نظري {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}الأنعام78 ، وأخيراً أصبح عنده علم نظري بأن ربه الذي فطر السماوات وحصل على ذلك العلم عن طريق الدليل {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}الأنعام79 .
الجهل واقسامه:
ان الجهل ليس له تعريف قائم بنفسه بل انه يعتمد على بيان العلم حيث ان الجهل عدم العلم ، فالأمر العدمي لا يبين الا بالاضافة الى غيره وكذلك قيوده تكون عرضية من هذا تعرف ان معنى الجهل ( عدم حضور صورة الشيء بالعقل ) ، وكذلك تعرف ان التقابل بينهما تقابل الملكة وعدمها حيث ان الملكة قيودها وجودية وهو ( العلم ) وعدمها قيود عدمية وهو عدم العلم ( الجهل ) من هذا تنبه المناطقة وقسموا الجهل الى اقسام متعددة وذلك لأنه يقابل العلم ويبادله في موارده ولعل سائلاً يسأل كيف يمكن تقسيم الامر العدمي رغم ان القسمة هي ضم القيود ؟ .
نقول ان هذه القسمة بالنظر الى طرف العلم فكلما كان هناك علم يقابله عدم العلم وهو الجهل وبما ان العلم على اقسام لكن الاشكال هنا هو انهم قسموا العلم الى اقسام كثيرة اكثر من الجهل وقسموا الجهل الى اقسام معروفة ( كما سنوضحها).
حيث قسموا الجهل الى تصوري وتصديقي ومن ثم قسموا الجهل التصديقي الى بسيط ومركب اقول ، ألم نقسم العلم الى اقسام كثيرة مثل ( العلم الحسي والخيالي والوهمي ) وكذلك العلم البديهي والنظري فلماذا لم نقسم الجهل اليها كذلك ؟ نعم يجب ان ينقسم الجهل حسب الاقسام المذكورة والدليل على ذلك:-
1- انهم ذكروا الحجة في تقسيم الجهل انه يقابل العلم ويبادله بأقسامه - اذاً لماذا لا يبادله في الاقسام المذكورة واليك نص الحجة في تقسيم الشيخ المظفر للجهل ( والجهل على قسمين كما ان العلم على قسمين لأنه يقابل العلم فيبادله في موارده فتارة يبادل التصور اي يكون في موارده واخرى يبادل التصديقي اي يكون في موارده):
أ - أقول لماذا أخذنا التقسيم الى التصويري والتصديقي فقط ؟ فهناك قد قسمنا العلم الى حسي وخيالي ووهمي والى نظري وبديهي .
2- انهم ذكروا في بطون الكتب ما مضمونه ان هناك جهلاً بديهياً لكنهم لم يعطوه عنواناً او يعترفوا به كقسم - واليك نص الكلام المنقول من كتاب تحرير القواعد ( الشمسية ) : ( ليس كل واحد من التصور والتصديق بديهياً فانه لو كانت جميع التصورات والتصديقات بديهية لما كان شيء من الاشياء مجهولاً لنا وهو باطل وفيه نظر لجواز ان يكون الشيء بديهياً ومجهولاً لنا فان البديهي وان لم يتوقف حصوله على نظر وكسب لكن يمكن ان يتوقف حصوله على نظر وكسب ، لكن يمكن ان يتوقف حصوله على شيء اخر من توجه العقل اليه - او الاحساس به - او الحدس او التجربة ( وغير ذلك ) انتهى .
اقول انه يثبت الجهل البديهي بعبارته : ( الجواز ان يكون الشيء بديهياً ومجهولاً لنا ) وكذلك ما قاله الشيخ المظفر (قده) : ( فان الشيء قد يكون بديهياً ولكن يجهله الانسان لفقد اسباب النفس فلا يجب ان يكون الانسان عالماً بجميع البديهيات ولا يضر ببداهة البديهي ).
ب- اذاً تحصل مما ذكرنا ان اقسام الجهل كاقسام العلم كلها .
النتيجة :- ينقسم الجهل الى اقسام ، فينقسم بإعتبار انه يقابل ( العلم الحسي والخيالي والوهمي ) الى جهل حسي وجهل خيالي وجهل وهمي :
الجهل الحسي :
وهو عدم العلم الحسي ( الذي نحصل عليه عن طريق الحواس ) وذلك مثل فقدان البصر ( فالاعمى ) يجهل كثيراً من الاشياء الخارجية لكن جهله يسمى جهلاً حسياً لأنه فقد حساً ولعله الى هذا تشير الحكمة ( من فقد حساً فقد علماً ) وكذلك الاصم يجهل كثيراً من الاشياء التي من شأنها ان تدرك عن طريق السامعة مثل الاصوات ويسمى هذا الجهل بالجهل الحسي وكذلك .
الجهل الخيالي :
وهو عدم العلم الخيالي ( الذي نحصل عليه عن طريق قوة الخيال ) وذلك مثل بعض الناس الذين تحصل عندهم بالرأس مما يؤدي الى عطل بالخيال ويؤدي الى عدم ضبط الخيال وليس له المقدرة على ادراك وتأليف الصور الخارجية او المحفوظة عنده .
الجهل الوهمي :
وهو عدم العلم الوهمي ( الذي نحصل عليه من طريق قوة الوهم ) وذلك مثل كثير من الناس الذين لا يدركون معاني والبغض حيث نرى بعض الناس يحب الآخر لكنهم لا يدركون هذا المعنى ويسمى هذا الجهل ( الجهل الوهمي ) لأن من شأنه ان يدرك بالوهم.
وكذلك ينقسم الجهل الى قسمين بإعتبار انه يقابل ( العلم البديهي والنظري):
1- الجهل البديهي : وهو عدم العلم البديهي الذي من شانه انه يدرك بالبداهة فبعض الناس مثلاً يجهل اموراً بديهية حتى يصل الى مرحلة انه يجهل اسمه او وجوده ( فيقول هل انا موجود ) وذلك يحصل نتيجة فقدان الاشياء التي يحصل بها الانسان على ذلك العلم مثل الحدس والتجربة او الانتباه فاننا اذا لاحظنا مثلاً المعتزلة الذين يقولون بشبهة الحال وهي ان هناك حالة وسطاً بين الوجود والعدم صفة لا هي موجودة ولا هي معدومة فهنا عندهم في هذه المسألة من البديهيات التي تحصل بالبداهة وغيرها من الامور بل حتى تصل الى مرحلة ان بعض الناس لا يعرف ( 1+1 ) كم يساوي .
الجهل النظري :
وهو عدم العلم النظري ( الذي نحصل عليه عن طريق الكسب والمعرفة ) فهذا القسم امثلته كثيره لأنه اكثر سعة واستخداماً من العلوم الاخرى ما عدا ( الحسي ) فمثلاً : اذا سألت احدهم عن مقدار وزن شيء من الاشياء فقال لا اعرف فذلك نظري لأنه من شأن هذه المسألة ان تدرك بالعلم النظري . ( انتبه ) ان العلم ينقسم الى قسمين الحصولي والحضوري ولما كان الجهل كما قال المناطقة يقابل العلم ويبادله موارده لزم ان ينقسم ايضاً الى قسمين الجهل الحصولي والجهل الحضوري ولما كان العلم الحصولي هو حضور صورة الشيء عند الذهن .
ولما كان العلم الحضوري هو حضور نفس الشيء . اذن الجهل الحضوري : هو عدم حضور نفس الشيء . وقد مثلوا لذلك كعلم النفس بذاتها ، ولما كان كذلك فكيف يوصف الانسان وهو في حالته التخدير العام . كالانسان في حالة التخدير العام فان نفسه حتماً حاضرة لكنه جاهل بحضورها وهذا القسم من اقسام الجهل لايمكن تصوره او انطباقه على المولى عزوجل لانه لايوصف بذلك اطلاقاً .
الجهل التصويري والتصديقي :
ان معنى الجهل التصويري وهو عدم ملكة التصور ومعنى الجهل التصديقي هو عدم التصديق قال الله تعالى {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}يوسف44 ، فهنا حصل لهم تصور بالحلم الذي قصه عليهم العزيز لكنهم لم يحكموا ولم يدركوا معناه ولم يحصل عندهم تصديق فلذلك حصل عندهم جهل تصديقي لأن ملكة الحكم لم توجد عندهم .
قال الله تعالى {انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} فنفى الله العلم عنهم وهذه دلالة على انهم يجهلون {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}يوسف86 ، نسب يعقوب (ع) الى ابنائه الجهل لكن من اي قسم هو ذلك الجهل ؟ ذلك الجهل قسم من الجهل التصويري وذلك لأنهم حتى تصور كثيراً من الامور لا يعرفونها حيث ان هذه الآية تحكي عن يعقوب بأنه يعلم ان يوسف حي وغائب عنه وهم يقولون ان يوسف مات فهم يجهلون ان يوسف حي .
الجهل اليسيط والمركب :
قد عرفنا ان معنى الجهل هو عدم العلم وكذلك عرفنا انه ينقسم الى اقسام ومنها انقسامه الى بسيط ومركب ومعنى البسيط ( ان يجهل الانسان شيئاً وهو ملتفت لجهله ) ومعنى المركب ( ان يجهل الانسان شيء وهو غير ملتفت لجهله ) وهذا مما وضحه القرآن في آيات كثيرة فمثلاً بالنسبة الى البسيط قال الله تعالى عن الملائكة {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم}البقرة31 - 32 ، فهنا الملائكة عندهم جهل بأسماء هؤلاء الذين عرضهم آدم ولم يعرفوها لأن الله نفى عنهم العلم بها قال على لسانهم ( لا علم لنا ) فلذلك هذا جهل بسيط لأنهم يجهلون وهم يعلمون بأنفسهم انهم يجهلون بهذه الاسماء وكذلك قصة يوسف ، ذكر الله تعالى هذا النوع من الجهل وهي حكاية عن العزيز حيث رأى الرؤيا وقال {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}يوسف43 ، فقالوا له {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}يوسف44 ، فإعترفوا انهم لا علم لهم بتأويل الاحلام اذاً هذا جهل بسيط وهناك الكثير من الآيات التي تثبت ذلك الا اننا سنكتفي بما ذكر لضيق المقام .
اما الجهل المركب فقد قال الله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}البقرة11-12 ، فهنا هم عندهم جهل مركب من جهلين - الأول يجهلون الافساد - الثاني يجهلون بأنفسهم انهم يجهلون ، فلذلك قال الله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}البقرة13 ، فهنا ايضاً عندهم جهل مركب لأنهم يجهلون الايمان وقالوا هؤلاء سفهاء وكذلك لا يعلمون {انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} فنفى الله العلم عنهم وهذه دلالة على انهم يجهلون ، وكذلك قوله تعالى حكاية عن الملائكة {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} البقرة 30 ، فهنا كان اعتراض الملائكة عن جهل وجهلهم كان مركباً لأنهم لا يعلمون ما هو مغزى والهدف الرئيس من خلق الانسان وجعل الخليفة وكذلك لا يعلمون انهم جاهلون بهذه القضية فقالوا {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} وهذا ناتج عن وجود جهل لديهم فلذلك قال الله تعالى {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون}.
الجهل الحسي والوهمي الخيالي :
ان معنى الجهل الحسي هو عدم العلم الحسي ومعنى الجهل الوهمي هو عدم العلم الوهمي ومعنى الجهل الخيالي هو عدم العلم الخيالي لأن عدم الملكة هو الجهل فمن شأن بعض الامور ان تدرك الحواس لكن في بعض الاحيان يجهلها الانسان وهناك آية في القرآن تثبت كل انواع الجهل ، قال تعالى {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} النحل 78 ، فهنا ثبت الله سبحانه الجهل المطلق الذي يثبت كل انواع الجهل الحسي والوهمي والخيالي وذلك لأن ملكة الحواس غير موجودة وكذلك ملكة الخيال وكذلك ملكة الوهم غير موجودة وفي مرحلة الطفولة حيث يتميز الانسان فيها بجهالة شديدة وتبدا المدارك تتطور عنده شيئاً فشيئاً قال الله تعالى {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}الأحزاب72 ، اي ان الانسان بطبيعته يتميز بالجهل بل انه في بعض الاحيان تكون الحواس موجودة عند الانسان لكنه يجهل كثيراً من الامور دلالة على وجود الجهل الحسي قال الله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}الأعراف27 ، فهنا يقر الله سبحانه وتعالى ان الانسان عنده جهل حسي بالشياطين حيث انهم موجودون ولكن لا تراهم وهم يروننا وكذلك قال الله تعالى { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}الأعراف116 ، فهنا يكشف الله سبحانه ان بعض السحر هو جهل حسي حيث يؤثر على العين فلا ترى الحقيقة فلذلك قال { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} وقال الله تعالى {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}الأعراف198 ، يعني عندهم جهل بالشيء المراد منهم عن طريق النبي رغم ان هذا الشيء يدرك بالحس .
الجهل البديهي والنظري :
معنى الجهل البديهي هو عدم العلم البديهي يعني ملكة العلم البديهي قال الله تعالى {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}يوسف58 ، اننا نعرف بأن معرفة الأخ لا تحتاج الى كسب ونظر وعملية عقلية بل تكون بالبداهة لكن في بعض الاحيان توجد امور توهم الانسان فتمنعه عن المعرفة فيفقد البداهة ويحصل عنده جهل بديهي - وهو عدم العلم البديهي - وهذا له أمثلة كثيرة .
وكذلك قال الله تعالى حكاية لقصة سليمان بن داود (ع) مع بلقيس {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ}النمل41 ، فان معرفة الاشياء الخاصة به معرفة بديهية وخصوصاً العرش المشار اليه لانها كانت تجلس عليه يومياً لكنها حينما نكروا وغيروا لها عرشها لم تعرفه مما يؤكد وجود جهل بديهي لأن ملكة البداهة انتفت فلذلك قال الله تعالى {فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ }النمل42 ، وكذلك قال الله تعالى {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}النمل44 ، ان بلقيس حينما دخلت الصرح ورأته حسبته لجة - يعني ماء - فهنا معرفة بديهية لا تحتاج الى كسب ونظر ولكن حصل عندها جهل بديهي .
اما الجهل النظري فقد قال الله تعالى فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}الأنعام76 ، فالنبي ابراهيم (ع) يمر هنا بمرحلة جهل نظري وذلك لأن معرفة الرب معرفة نظرية قائمة على البرهان والدليل الا تراه حينما رأى كوكباً قال جهلاً : هذا ربي فلما افل يعني غاب قال انه ليس ربي وذلك لأن الرب لا يغيب اي ان جهل الافول دليل على انه ليس برب وقال تعالى {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}الأنعام77 ، وكذلك حصل عنده في بداية الامر جهل نظري ومن ثم حينما أفل وغاب القمر اصبح عنده علم نظري {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}الأنعام78 ، وأخيراً أصبح عنده علم نظري بأن ربه الذي فطر السماوات وحصل على ذلك العلم عن طريق الدليل {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}الأنعام79 .