نظرية تجزئة القرآن الحلقة الأولى
بدءاً نقول إن الباحث لكي يستطيع أن يجني ثمار هذه النظرية التي تطرح كبديل للنظريات والمدارس التفسيرية السائدة ، عليه أن يتجرد من العبودية لأساسيات النظرية القديمة ولا يستسلم لنزعة التحجر للأسماء وينظر بعين الحيادية ، أما إذا درس هذه النظرية وهو قد أعطى حكماً مسبقاً عليها فننصحه بعدم الإطلاع عليها .
وفي اعتقادي ( ان الذي يطلع على هذه النظرية يجد فيها أداة الحسم والكلمة الفصل للكثير من الجدل والتناقض الذي وقع فيه عموم المفسرين عند تفسيرهم لآيات عديدة , كما إنها تعتبر المفتاح للعديد من خزائن كنوز المصحف الشريف التي بفتحها يستطيع الباحث الوصول لبعض الأسرار الإلهية التي حفظها المولى تبارك وتعالى في كتابه المنزل .
وتستند هذه النظرية على ربط القرآن بالقرآن وشهادة الكتاب بعضه لبعض ، كيف لا وهو {الْكِتَابِ الْمُبِينِ} و{آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} ، كما وتستدل النظرية بروايات النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ) . وتتلخص هذه النظرية في إن القرآن ليس كتاباً واحداً – بالمعنى الموضوعي أو المادي – وإنما هو عبارة عن عدة كتب ، أختص كل كتاب منها بموضوع خاص به ) .
وأما تفاصيل وأدلة هذه النظرية فسنتعرض لها بعونه تعالى .
القرآن والكتاب
قبل البدء بتفاصيل النظرية ، نحاول إيضاح العلاقة التي تربط بين لفظ (القرآن) ولفظ ( الكتاب) ، إذ إن الفكرة المترسخة عند عامة المشتغلين بعلوم القرآن إن لفظ (الكتاب) يعني (القرآن) وهذه الفكرة وإن كان فيها جانب من الصحة إلا إن الأخذ بها في كل حال سيضعنا إمام إشكالات منها ما ذكرناه سابقاً ومنها ما لم نذكره .
فعلاوة على ما ذكرنا سابقاً نضيف إن لفظ (الكتاب) غالباً ما يشار إليه في كلام الله تعالى ، بقوله { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } البقرة 2.
بمعنى إن الإشارة إليه تكون بالإشارة إلى البعيد وقليلة هي الموارد التي يشار فيها إلى (الكتاب) بالقريب ، مثل {وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً}- الأحقاف12
بينما لا تكون الإشارة إلى ( القرآن ) إلا بالقريب مثل قوله تعالى {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } الحشر21.
وقوله تعالى { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً }- الإسراء89.
وقوله تعالى { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القرآن لأُنذِرَكُم بِهِ } الأنعام19.
لذا فلا يصح أن نقول إن البعيد هو نفسه القريب ولو من باب الاختلاف في المقامات .
ثم إن مادة (الكتاب) هي الفعل (كتب) ومادة (القرآن) هي الفعل (قرأ) فيكون (الكتاب) هو الحاوي لآيات الله حسب مقاماتها ، وهذا يقودنا إلى ( الكتاب التدويني ) الذي يمثل الظرف الحاوي على آيات الوحي المنزل على رُسل الله (صلوات الله عليهم أجمعين) والى (الكتاب التكويني) الذي يمثل هذا الكون الحاوي على آيات الخلق الافاقي والى (الكتاب الإنساني ) الذي يمثل آيات الله في خلق الإنسان .
قال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فصلت53.
فيكون التعريف الجامع لكل ما سبق إن الكتاب هو الظرف الحاوي على الآيات . أما ( القرآن ) فإنه مشتق من فعل (قرأ) قال تعالى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } القيامة 17، 18.
وأما مجيئه بهذه الهيئة (قران) على وزن (فعلان) للدلالة على ( ما يقرأ في كل آن ).
وهنا تتضح العلاقة بين الكتاب والقرآن ، وهي علاقة العموم والخصوص . فالكتاب يعني القرآن ويعني غير القرآن . بينما لا يكون القرآن إلا من الكتاب .
وعلى هذا نستطيع أن نذكر ما تشير إليه الآية المباركة {الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } الحجر1.
فطبقاً لما قدمناه لا يمكن تفسير (الكتاب) في الآية المباركة بأنها تعني (القرآن) فإنه سيكون من اللغو الذي لا مبرر له في تكرار لفظ (قران) في الآية ، سبحان الله عن ذلك.
إن أول خطوة في ما أسميناه (نظرية تجزئة القرآن) تنطلق من الفهم الصحيح لمعنى الآية الواردة في سورة البينة وهي قوله تعالى {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}- البينة2، 3.
ولقد أوردنا ما ذهب إليه المفسرون في سبب الإتيان بصيغة الجمع وما فيها من تهافت فقد عجز أرباب التفاسير عن تفسير هذه الآية الشريفة وشرحها بالوجه الصحيح فقد اضطروا إلى البحث عن معاني مجازية بعيدة كل البعد عن الحقيقة ليسحبوا الآية إلى حدود فهمهم .
وأما المعنى المناسب فهو الإقرار بما تصرح به الآية وهو احتواء هذه الصحف المطهرة وهي القرآن على كتب متعددة يبينها القرآن في مواضع متعددة ، سنشير إليها إن شاء الله ، فكما هو معروف من إن لفظ (كتب) يدل على مجموعة من الكتب وليس كتاباً واحداً .
وهذا لا يعني إن كل كتاب من هذه الكتب هو كيان منفصل عن غيره من الكتب انفصالاً يجعله لا يمت إليها بصلة ، بل هو يعني تقرير حالة من التخصص تجعل كل كتاب يضطلع بدوره عن غيره .
إن نظرية تجزئة القرآن تعني بمقتضى ما توصلنا إليه من تتبع آيات القرآن والتدبر فيها ، ان كتاب الله المنزل على نبيه المرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) هو حاوي على أكثر من قرآن وأكثر من كتاب يجمعها كلها المصحف الشريف .
فهو – الكتاب الجامع – يحتوي على (قران كريم وكتاب كريم و قران مجيد وكتاب مجيد وقران حكيم وكتاب حكيم والفرقان وكتاب الذكر وكتاب المثاني وكتاب المحكم وكتاب المتشابه ، ولكل قران وكتاب من هذه الكتب خصوصية تميزه عن غيره .
فالقرآن الكريم يمتاز بصفة الكرم ويحتوي الآيات التي تمتلك هذه الصفة ، والقرآن المجيد يمتاز بصفة المجد والقهر الرباني والغلبة الإلهية ويحتوي آيات العزة والغلبة ، والقرآن الحكيم يحتوي آيات الحكمة وهو موجود في الكتاب الحكيم ، وكذلك الفرقان ، وكتاب الذكر ، وكتاب المثاني ، والمحكم ، والمتشابه وغيرها .
ورب سائل يسأل :
ما هو الدليل على صحة هذه النظرية ؟! .
فنقول إن القرآن أما أن يكون متجزئاً بالمعنى الذي أوردته النظرية أو لا ، وليس هنالك قسم ثالث ، فإذا ثبت صحة أحدهما انتفى القسم الآخر.
وفي مقام إيراد الأدلة المناسبة لإثبات ما ذهبت إليه النظرية نذكر مجموعة من الآيات التي توضح وتثبت المطلب :-
1- قوله تعالى {ص وَالقرآن ذِي الذِّكْرِ } ص1.
وهذه الآية تثبت إن من القرآن جزء مختص بالذكر اقتضى تسمية هذا الجزء به وجيء بالحرف النوارني (ص) لارتباطه وعلاقته بالذكر .
2- قوله تعالى {ق وَالقرآن الْمَجِيدِ } ق1.
وهي كسابقتها تحدد جزء من القرآن سمّته (القرآن المجيد) اختص بأخبار وقصص البطش والغلبة الإلهية على الأمم السالفة لاحظ قوله تعالى في نفس السورة {فَذَكِّرْ بِالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} ق45.
وقال تعالى {اِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} . ثم قال تعالى {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} البروج12-21.
3- قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة 185
واضح من هذه الآية ان الفرقان جزء من القرآن وليس كل الكتاب قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ } الأنبياء48.
4- قوله تعالى {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}- آل عمران7.
وفي هذه الآية دلالة واضحة على إن في القرآن كتاب يسمى (المحكم) وآخر يسمى (المتشابه) لكل منهما خصائصه .
5- قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ } الحجر87.
تفصل هذه الآية بين (كتاب المثاني) الذي منه فاتحة الكتاب وبين (القرآن العظيم) .
وأما ما ورد عن ثقل القرآن بيت العصمة (صلوات الله عليهم) من الأخبار الصحيحة التي يمكن الاستشهاد بها على صحة مضمون النظرية فمنها :-
أ- ما ورد عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن سنان أو عن غيره ممن ذكره قال : سألت أبا عبد الله عن القرآن والفرقان أهمها شيئان أو شيء واحد فقال (عليه السلام) : (القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به) الكافي ج2 ص620 باب النوادر.
وكذلك عن أبي عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن والفرقان فقال : ( القرآن جملة الكتاب وأخبار ما يكون والفرقان المحكم الذي يعمل به وكل محكم فهو فرقان ) تفسير العياشي ، بحار الأنوار ج89 ص15.
ب- وما ورد في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة :
( يا الهي واله آبائي .. إلى أن قال .. واله المنتجبين ، ومنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ومنزل كهيعص وطه ويس والقرآن الحكيم ) إقبال الأعمال ج2 ص80.
ج- وقال الإمام زين العابدين وإمام الساجدين علي بن الحسين (عليه السلام) في دعاءه عند ختم القرآن :
( ... وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك ... ) .
وقال : ( فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه وموضحات بيناته )( ).
ومن النصوص التي ذكرناها يتضح إن الفرقان جزء من القرآن مختص بالحلال والحرام كما في الفقرة (1) وما في الفقرة (ج) . وان الفرقان هو غير القرآن الحكيم كما في الفقرة (ج) .
ونخرج من هاتين المجموعتين نتيجة مفادها صحة مضمون نظرية تجزئة القرآن التي تضمن إيضاح معالم العديد من الآيات القرآنية التي يكون ظاهرها متناقضاً حسب النظريات التفسيرية التقليدية التي دأب عليها المفسرون .
وتشكل انعطافة قيمة في مسيرة تفسير القرآن ، وتضطلع بما عجز عن حل ما أشكل من الألفاظ القرآنية التي صنف فيها المفسرون وأطلقوا عليها (غريب القرآن) أو ( مشكل القرآن) وغيرها .
وستتضح معالم هذه النظرية كلما سرنا قدماً في هذا الكتاب .
نقلا من الموسوعة القرآنية للسيد القحطاني
يتبع
بدءاً نقول إن الباحث لكي يستطيع أن يجني ثمار هذه النظرية التي تطرح كبديل للنظريات والمدارس التفسيرية السائدة ، عليه أن يتجرد من العبودية لأساسيات النظرية القديمة ولا يستسلم لنزعة التحجر للأسماء وينظر بعين الحيادية ، أما إذا درس هذه النظرية وهو قد أعطى حكماً مسبقاً عليها فننصحه بعدم الإطلاع عليها .
وفي اعتقادي ( ان الذي يطلع على هذه النظرية يجد فيها أداة الحسم والكلمة الفصل للكثير من الجدل والتناقض الذي وقع فيه عموم المفسرين عند تفسيرهم لآيات عديدة , كما إنها تعتبر المفتاح للعديد من خزائن كنوز المصحف الشريف التي بفتحها يستطيع الباحث الوصول لبعض الأسرار الإلهية التي حفظها المولى تبارك وتعالى في كتابه المنزل .
وتستند هذه النظرية على ربط القرآن بالقرآن وشهادة الكتاب بعضه لبعض ، كيف لا وهو {الْكِتَابِ الْمُبِينِ} و{آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} ، كما وتستدل النظرية بروايات النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ) . وتتلخص هذه النظرية في إن القرآن ليس كتاباً واحداً – بالمعنى الموضوعي أو المادي – وإنما هو عبارة عن عدة كتب ، أختص كل كتاب منها بموضوع خاص به ) .
وأما تفاصيل وأدلة هذه النظرية فسنتعرض لها بعونه تعالى .
القرآن والكتاب
قبل البدء بتفاصيل النظرية ، نحاول إيضاح العلاقة التي تربط بين لفظ (القرآن) ولفظ ( الكتاب) ، إذ إن الفكرة المترسخة عند عامة المشتغلين بعلوم القرآن إن لفظ (الكتاب) يعني (القرآن) وهذه الفكرة وإن كان فيها جانب من الصحة إلا إن الأخذ بها في كل حال سيضعنا إمام إشكالات منها ما ذكرناه سابقاً ومنها ما لم نذكره .
فعلاوة على ما ذكرنا سابقاً نضيف إن لفظ (الكتاب) غالباً ما يشار إليه في كلام الله تعالى ، بقوله { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } البقرة 2.
بمعنى إن الإشارة إليه تكون بالإشارة إلى البعيد وقليلة هي الموارد التي يشار فيها إلى (الكتاب) بالقريب ، مثل {وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً}- الأحقاف12
بينما لا تكون الإشارة إلى ( القرآن ) إلا بالقريب مثل قوله تعالى {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } الحشر21.
وقوله تعالى { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً }- الإسراء89.
وقوله تعالى { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القرآن لأُنذِرَكُم بِهِ } الأنعام19.
لذا فلا يصح أن نقول إن البعيد هو نفسه القريب ولو من باب الاختلاف في المقامات .
ثم إن مادة (الكتاب) هي الفعل (كتب) ومادة (القرآن) هي الفعل (قرأ) فيكون (الكتاب) هو الحاوي لآيات الله حسب مقاماتها ، وهذا يقودنا إلى ( الكتاب التدويني ) الذي يمثل الظرف الحاوي على آيات الوحي المنزل على رُسل الله (صلوات الله عليهم أجمعين) والى (الكتاب التكويني) الذي يمثل هذا الكون الحاوي على آيات الخلق الافاقي والى (الكتاب الإنساني ) الذي يمثل آيات الله في خلق الإنسان .
قال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فصلت53.
فيكون التعريف الجامع لكل ما سبق إن الكتاب هو الظرف الحاوي على الآيات . أما ( القرآن ) فإنه مشتق من فعل (قرأ) قال تعالى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } القيامة 17، 18.
وأما مجيئه بهذه الهيئة (قران) على وزن (فعلان) للدلالة على ( ما يقرأ في كل آن ).
وهنا تتضح العلاقة بين الكتاب والقرآن ، وهي علاقة العموم والخصوص . فالكتاب يعني القرآن ويعني غير القرآن . بينما لا يكون القرآن إلا من الكتاب .
وعلى هذا نستطيع أن نذكر ما تشير إليه الآية المباركة {الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } الحجر1.
فطبقاً لما قدمناه لا يمكن تفسير (الكتاب) في الآية المباركة بأنها تعني (القرآن) فإنه سيكون من اللغو الذي لا مبرر له في تكرار لفظ (قران) في الآية ، سبحان الله عن ذلك.
إن أول خطوة في ما أسميناه (نظرية تجزئة القرآن) تنطلق من الفهم الصحيح لمعنى الآية الواردة في سورة البينة وهي قوله تعالى {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}- البينة2، 3.
ولقد أوردنا ما ذهب إليه المفسرون في سبب الإتيان بصيغة الجمع وما فيها من تهافت فقد عجز أرباب التفاسير عن تفسير هذه الآية الشريفة وشرحها بالوجه الصحيح فقد اضطروا إلى البحث عن معاني مجازية بعيدة كل البعد عن الحقيقة ليسحبوا الآية إلى حدود فهمهم .
وأما المعنى المناسب فهو الإقرار بما تصرح به الآية وهو احتواء هذه الصحف المطهرة وهي القرآن على كتب متعددة يبينها القرآن في مواضع متعددة ، سنشير إليها إن شاء الله ، فكما هو معروف من إن لفظ (كتب) يدل على مجموعة من الكتب وليس كتاباً واحداً .
وهذا لا يعني إن كل كتاب من هذه الكتب هو كيان منفصل عن غيره من الكتب انفصالاً يجعله لا يمت إليها بصلة ، بل هو يعني تقرير حالة من التخصص تجعل كل كتاب يضطلع بدوره عن غيره .
إن نظرية تجزئة القرآن تعني بمقتضى ما توصلنا إليه من تتبع آيات القرآن والتدبر فيها ، ان كتاب الله المنزل على نبيه المرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) هو حاوي على أكثر من قرآن وأكثر من كتاب يجمعها كلها المصحف الشريف .
فهو – الكتاب الجامع – يحتوي على (قران كريم وكتاب كريم و قران مجيد وكتاب مجيد وقران حكيم وكتاب حكيم والفرقان وكتاب الذكر وكتاب المثاني وكتاب المحكم وكتاب المتشابه ، ولكل قران وكتاب من هذه الكتب خصوصية تميزه عن غيره .
فالقرآن الكريم يمتاز بصفة الكرم ويحتوي الآيات التي تمتلك هذه الصفة ، والقرآن المجيد يمتاز بصفة المجد والقهر الرباني والغلبة الإلهية ويحتوي آيات العزة والغلبة ، والقرآن الحكيم يحتوي آيات الحكمة وهو موجود في الكتاب الحكيم ، وكذلك الفرقان ، وكتاب الذكر ، وكتاب المثاني ، والمحكم ، والمتشابه وغيرها .
ورب سائل يسأل :
ما هو الدليل على صحة هذه النظرية ؟! .
فنقول إن القرآن أما أن يكون متجزئاً بالمعنى الذي أوردته النظرية أو لا ، وليس هنالك قسم ثالث ، فإذا ثبت صحة أحدهما انتفى القسم الآخر.
وفي مقام إيراد الأدلة المناسبة لإثبات ما ذهبت إليه النظرية نذكر مجموعة من الآيات التي توضح وتثبت المطلب :-
1- قوله تعالى {ص وَالقرآن ذِي الذِّكْرِ } ص1.
وهذه الآية تثبت إن من القرآن جزء مختص بالذكر اقتضى تسمية هذا الجزء به وجيء بالحرف النوارني (ص) لارتباطه وعلاقته بالذكر .
2- قوله تعالى {ق وَالقرآن الْمَجِيدِ } ق1.
وهي كسابقتها تحدد جزء من القرآن سمّته (القرآن المجيد) اختص بأخبار وقصص البطش والغلبة الإلهية على الأمم السالفة لاحظ قوله تعالى في نفس السورة {فَذَكِّرْ بِالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} ق45.
وقال تعالى {اِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} . ثم قال تعالى {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} البروج12-21.
3- قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة 185
واضح من هذه الآية ان الفرقان جزء من القرآن وليس كل الكتاب قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ } الأنبياء48.
4- قوله تعالى {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}- آل عمران7.
وفي هذه الآية دلالة واضحة على إن في القرآن كتاب يسمى (المحكم) وآخر يسمى (المتشابه) لكل منهما خصائصه .
5- قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ } الحجر87.
تفصل هذه الآية بين (كتاب المثاني) الذي منه فاتحة الكتاب وبين (القرآن العظيم) .
وأما ما ورد عن ثقل القرآن بيت العصمة (صلوات الله عليهم) من الأخبار الصحيحة التي يمكن الاستشهاد بها على صحة مضمون النظرية فمنها :-
أ- ما ورد عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن سنان أو عن غيره ممن ذكره قال : سألت أبا عبد الله عن القرآن والفرقان أهمها شيئان أو شيء واحد فقال (عليه السلام) : (القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به) الكافي ج2 ص620 باب النوادر.
وكذلك عن أبي عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن والفرقان فقال : ( القرآن جملة الكتاب وأخبار ما يكون والفرقان المحكم الذي يعمل به وكل محكم فهو فرقان ) تفسير العياشي ، بحار الأنوار ج89 ص15.
ب- وما ورد في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة :
( يا الهي واله آبائي .. إلى أن قال .. واله المنتجبين ، ومنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ومنزل كهيعص وطه ويس والقرآن الحكيم ) إقبال الأعمال ج2 ص80.
ج- وقال الإمام زين العابدين وإمام الساجدين علي بن الحسين (عليه السلام) في دعاءه عند ختم القرآن :
( ... وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك ... ) .
وقال : ( فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه وموضحات بيناته )( ).
ومن النصوص التي ذكرناها يتضح إن الفرقان جزء من القرآن مختص بالحلال والحرام كما في الفقرة (1) وما في الفقرة (ج) . وان الفرقان هو غير القرآن الحكيم كما في الفقرة (ج) .
ونخرج من هاتين المجموعتين نتيجة مفادها صحة مضمون نظرية تجزئة القرآن التي تضمن إيضاح معالم العديد من الآيات القرآنية التي يكون ظاهرها متناقضاً حسب النظريات التفسيرية التقليدية التي دأب عليها المفسرون .
وتشكل انعطافة قيمة في مسيرة تفسير القرآن ، وتضطلع بما عجز عن حل ما أشكل من الألفاظ القرآنية التي صنف فيها المفسرون وأطلقوا عليها (غريب القرآن) أو ( مشكل القرآن) وغيرها .
وستتضح معالم هذه النظرية كلما سرنا قدماً في هذا الكتاب .
نقلا من الموسوعة القرآنية للسيد القحطاني
يتبع
تعليق