منقول من الموسوعة القرآنية للسيد القحطاني
مثل البعوضة
لقد ذكر الكثير من المفسرين ان المراد من لفظة (بعوضة) هو حشرة البعوضة بالتحديد , حيث فسروها على هذا الأساس الأمر الذي أدى إلى تضييق معنى الآية وإلغاء الغرض منها وتعارضها مع الآية التي تليها , إضافة إلى بروز عدة إشكالات وهي :
أولاً : ان هذه الآية من الآيات المتشابهات , وان المتشابه لا يفسر بل يُؤَول , فكيف أمكن للمفسرين تفسير المتشابه وفق ما فهموه من ظاهرهِ الذي لا ينطبق مع المعنى الحقيقي الذي أراده المولى عز وجل .
ثانياً : ان كان المثل يخص البعوضة بالتحديد فلا يتطلب كل هذه الأهمية , وإلا فما معنى قوله تعالى :
{ انهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } فما علاقة البعوضة بالحق وما تأثيرها على الناس حتى تتسبب في تقسيمهم إلى مؤمنين وكافرين ؟
ثالثاً : ما هو الترابط بين البعوضة وبين الضلالة والهدى وكيف أدى نزول هذه الآية إلى كثير من المهتدين والضالين ؟
إذن فان ما ذهب إليه المفسرون من ان مثل البعوضة الذي ضربه الله عز وجل في هذه الآية المباركة يعني البعوضة وما فوقها لا يصمد تماماً أمام البحث الصحيح في تقصي معناه , وقبل الدخول في تفاصيل التأويل لابد من توضيح النقاط التالية :
{ ان اللَّهَ لاَ يَسْتَحْي ان يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ انهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } البقرة 26 .
1- ان قول الله تعالى : { ان اللَّهَ لاَ يَسْتَحْي ان يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ انهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } هو مثل والمثل يضرب ويراد به شيء آخر ، وانما استخدم الله الأمثال لكي يبين الحقائق للناس بوسيلة أخرى , وقد استخدم القران أسلوب المثل المعروف ( إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة ) في مواضع عديدة .
2- لقد شخص الله تبارك وتعالى انه لا يضل به إلا الفاسقين في قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } والفسق هنا غير الكفر أي انهم مسلمون ( وفسقوا ) أي خرجوا عن الطريق المستقيم ، وأصل الفسق هو الخروج من الأمر كقوله تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أمر رَبِّهِ} الكهف 50 .
والمقصود في هذه الآية إبليس لعنه الله الذي كان عابداً لله تعالى قبل خروجه من أمر المولى عز وجل , وقيل فسقت الرطبة أي إذا خرجت من القشرة .
3- ان الله سبحانه بين الفاسقين بانهم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وهم الذين يقطعون ما أمر الله به ان يوصل , فقال تعالى : { ... وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أمر اللَّهُ بِهِ ان يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } البقرة 27
ان عهد الله هم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وأولهم والد الأئمة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، والفاسقين هم الذين يخرجون من ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) .
وعن شهاب بن عبد ربه قال : سمعت الصادق (عليه السلام) يقول : ( يا شهاب نحن شجرة النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ونحن عهد الله...) بحار الانوار ج24 ص87 .
4- نستدل من قوله تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً} ان الله تبارك وتعالى أراد لهذا المثل وهذه الإرادة ان تتبين مستقبلاً فيؤدي هذا المثل إلى انقسام الناس إلى ضالين ومهتدين , أي ان الأمر ليس انياً مقروناً بنزول هاتين الآيتين .
5- ذكرنا ان الأمثال التي ذكرها الله تعالى في مواطن متعددة يطلقها على شيء ولكن يراد بها شيء آخر غير المعنى الظاهر , وقد قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } العنكبوت 43 . .
إذن يتبين من هذه الآية المباركة ان المراد من هذا الشيء الذي يضرب فيه المثل ليس بالشيء الظاهري كالبعوضة وما شابه من الأمثال الأخرى فقط بل هناك معان باطنيةٍ أُخرى تحتاج إلى من يمتلك علماً عميقاً وواسعاً لكي يفهم معنى المثل الذي يُطلق ومعرفة أبعاده الانية والمستقبلية .
وان قوله تعالى { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } . و( إلا ) هنا للحصر والاختصاص .
وورد عن نزول هاتين الآيتين هي بعد مدح علي (عليه السلام) وتعظيمه , فقد ذكر صاحب كنز الدقائق ما روي عن التفسير المنسوب إلى مولانا الحسن العسكري (عليه السلام) من انه قيل للباقر (عليه السلام) : ( ان بعض من ينتحل موالاتكم , يزعم ان البعوضة علي .... فقال الباقر (عليه السلام) : سمع هؤلاء شيئاً لم يضعوه على وجهه . انما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) قاعداً ذات يوم وعلي (عليه السلام) , إذ سمع قائلاً يقول : ما شاء الله وشاء محمد , وسمع آخر يقول : ما شاء الله وشاء علي , فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) : لا تقرنوا محمداً وعلياً بالله عز وجل ولكن قولوا ما شاء الله . ثم ما شاء محمد ما شاء الله , ثم ما شاء علي , ان مشيئة الله هي القاهرة التي لا تساوي ولا تكافأ ولا تداني ـ إلى ان قال ـ وما علي في الله وفي قدرته إلا كبعوضة ) .
إذن فالمراد بهذا المثل هو أمير المؤمنين (عليه السلام) .
وإليك هذه الرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) إثباتاً لما قلناه.
جاء في تفسير البرهان عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ( ان هذا المثل ضربه الله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) , فالبعوضة أمير المؤمنين (عليه السلام) وما فوقها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) ) بحار الانوارج24 ص393
والدليل على ذلك قوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } يعني ان المقصود بالمثل هو أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك لان النّاس انقسموا في ولائهم لعليٍ (عليه السلام) فمنهم من بغضه فضلّ عن سبيل الله ومنهم من أحبه ووالاه فاهتدى سواء السبيل .
كما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) الميثاق عليهم لعليٍ (عليه السلام) { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } ، فرد الله عليهم فقال :
{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ـ في علي ـ وَيَقْطَعُونَ مَا أمر اللَّهُ بِهِ ان يُوصَلَ ـ يعني من صلة أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) - وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
لو أرجعنا كلمة (البعوضة ) لتبين انها آتية من البعضية والبعض معناه جزء من الكل وهو شبه الكل أي بمعنى انه صورة مصغرة من الكل .
وورد عن علل الشرائع عن انس بن مالك عن معاذ بن جبل ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) قال :
( ان الله عز وجل خلقني وعلياً وفاطمة والحسن والحسين قبل ان يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام ـ إلى ان قال (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) ـ فلما صيرنا إلى صلب عبد المطلب أخرج ذلك النور فشقه إلى نصفين فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في أبي طالب ثم أخرج النصف الذي لي إلى آمنة والنصف الذي لعلي إلى فاطمة بنت أسد فأخرجتني آمنة وأخرجت فاطمة علياً ثم أعاد عز وجل العمود إليّ فخرجت مني فاطمة ثم أعاد عز وجل العمود إلى علي فخرج منه الحسن والحسين يعني منه النصفين جميعاً ، فما كان من نور علي فصار في ولد الحسن وما كان من نوري فصار في ولد الحسين فهو ينتقل في الأئمة من ولده إلى يوم القيامة ) بحار الانوار ج35 ص34 .
وبذلك يكون الحسن (عليه السلام) يشابه علي (عليه السلام) وهو صورة مصغرة منه (عليه السلام) , وان الحسين (عليه السلام) يشابه فاطمة (عليها السلام) وهو صورة مصغرة منها , وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) :
( فاطمة بضعة مني ) أي أخذت من كل شيء شيء من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) أي هي صورة مصغرة منه .
أما انطباق البعوضة في التأويل فهي لا تنطبق على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالتحديد بل لها انطباق آخر على رجل من ذرية الإمام علي (عليه السلام) يظهر في آخر الزمان وهو شبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
والدليل على انطباق ذلك هو هذه الرواية التي وردت عن صالح بن ميثم عن عباية الأسدي قال : سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام)وهو متكئ وانا قائم عليه :
( لأبنين بمصر منبراً ولانقضن دمشق حجراً حجراً ولأخرجن اليهود والنصارى من كل كور العرب ولأسوقن العرب بعصاي هذه .
قال : قلت له يا أمير المؤمنين كـانك تخبر انك تحيى بعد ما تموت .
فقال (عليه السلام) : هيهات يا عباية ذهبت في غير مذهب يفعله رجل مني ) بحار الانوار ج53 ص59.
ان هذا الرجل الذي يذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) هو السيد اليماني الذي يخرج في آخر الزمان داعياً إلى الإمام المهدي (عليه السلام) , وان مثل البعوضة في التأويل ينطبق على اليماني كونه بضعة من علي (عليه السلام) وان أوجه الشبه متعددة بين الجزء والكل وهي :
يتبع يتبع
مثل البعوضة
لقد ذكر الكثير من المفسرين ان المراد من لفظة (بعوضة) هو حشرة البعوضة بالتحديد , حيث فسروها على هذا الأساس الأمر الذي أدى إلى تضييق معنى الآية وإلغاء الغرض منها وتعارضها مع الآية التي تليها , إضافة إلى بروز عدة إشكالات وهي :
أولاً : ان هذه الآية من الآيات المتشابهات , وان المتشابه لا يفسر بل يُؤَول , فكيف أمكن للمفسرين تفسير المتشابه وفق ما فهموه من ظاهرهِ الذي لا ينطبق مع المعنى الحقيقي الذي أراده المولى عز وجل .
ثانياً : ان كان المثل يخص البعوضة بالتحديد فلا يتطلب كل هذه الأهمية , وإلا فما معنى قوله تعالى :
{ انهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } فما علاقة البعوضة بالحق وما تأثيرها على الناس حتى تتسبب في تقسيمهم إلى مؤمنين وكافرين ؟
ثالثاً : ما هو الترابط بين البعوضة وبين الضلالة والهدى وكيف أدى نزول هذه الآية إلى كثير من المهتدين والضالين ؟
إذن فان ما ذهب إليه المفسرون من ان مثل البعوضة الذي ضربه الله عز وجل في هذه الآية المباركة يعني البعوضة وما فوقها لا يصمد تماماً أمام البحث الصحيح في تقصي معناه , وقبل الدخول في تفاصيل التأويل لابد من توضيح النقاط التالية :
{ ان اللَّهَ لاَ يَسْتَحْي ان يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ انهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } البقرة 26 .
1- ان قول الله تعالى : { ان اللَّهَ لاَ يَسْتَحْي ان يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ انهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } هو مثل والمثل يضرب ويراد به شيء آخر ، وانما استخدم الله الأمثال لكي يبين الحقائق للناس بوسيلة أخرى , وقد استخدم القران أسلوب المثل المعروف ( إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة ) في مواضع عديدة .
2- لقد شخص الله تبارك وتعالى انه لا يضل به إلا الفاسقين في قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } والفسق هنا غير الكفر أي انهم مسلمون ( وفسقوا ) أي خرجوا عن الطريق المستقيم ، وأصل الفسق هو الخروج من الأمر كقوله تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أمر رَبِّهِ} الكهف 50 .
والمقصود في هذه الآية إبليس لعنه الله الذي كان عابداً لله تعالى قبل خروجه من أمر المولى عز وجل , وقيل فسقت الرطبة أي إذا خرجت من القشرة .
3- ان الله سبحانه بين الفاسقين بانهم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وهم الذين يقطعون ما أمر الله به ان يوصل , فقال تعالى : { ... وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أمر اللَّهُ بِهِ ان يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } البقرة 27
ان عهد الله هم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وأولهم والد الأئمة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، والفاسقين هم الذين يخرجون من ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) .
وعن شهاب بن عبد ربه قال : سمعت الصادق (عليه السلام) يقول : ( يا شهاب نحن شجرة النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ونحن عهد الله...) بحار الانوار ج24 ص87 .
4- نستدل من قوله تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً} ان الله تبارك وتعالى أراد لهذا المثل وهذه الإرادة ان تتبين مستقبلاً فيؤدي هذا المثل إلى انقسام الناس إلى ضالين ومهتدين , أي ان الأمر ليس انياً مقروناً بنزول هاتين الآيتين .
5- ذكرنا ان الأمثال التي ذكرها الله تعالى في مواطن متعددة يطلقها على شيء ولكن يراد بها شيء آخر غير المعنى الظاهر , وقد قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } العنكبوت 43 . .
إذن يتبين من هذه الآية المباركة ان المراد من هذا الشيء الذي يضرب فيه المثل ليس بالشيء الظاهري كالبعوضة وما شابه من الأمثال الأخرى فقط بل هناك معان باطنيةٍ أُخرى تحتاج إلى من يمتلك علماً عميقاً وواسعاً لكي يفهم معنى المثل الذي يُطلق ومعرفة أبعاده الانية والمستقبلية .
وان قوله تعالى { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } . و( إلا ) هنا للحصر والاختصاص .
وورد عن نزول هاتين الآيتين هي بعد مدح علي (عليه السلام) وتعظيمه , فقد ذكر صاحب كنز الدقائق ما روي عن التفسير المنسوب إلى مولانا الحسن العسكري (عليه السلام) من انه قيل للباقر (عليه السلام) : ( ان بعض من ينتحل موالاتكم , يزعم ان البعوضة علي .... فقال الباقر (عليه السلام) : سمع هؤلاء شيئاً لم يضعوه على وجهه . انما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) قاعداً ذات يوم وعلي (عليه السلام) , إذ سمع قائلاً يقول : ما شاء الله وشاء محمد , وسمع آخر يقول : ما شاء الله وشاء علي , فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) : لا تقرنوا محمداً وعلياً بالله عز وجل ولكن قولوا ما شاء الله . ثم ما شاء محمد ما شاء الله , ثم ما شاء علي , ان مشيئة الله هي القاهرة التي لا تساوي ولا تكافأ ولا تداني ـ إلى ان قال ـ وما علي في الله وفي قدرته إلا كبعوضة ) .
إذن فالمراد بهذا المثل هو أمير المؤمنين (عليه السلام) .
وإليك هذه الرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) إثباتاً لما قلناه.
جاء في تفسير البرهان عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ( ان هذا المثل ضربه الله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) , فالبعوضة أمير المؤمنين (عليه السلام) وما فوقها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) ) بحار الانوارج24 ص393
والدليل على ذلك قوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } يعني ان المقصود بالمثل هو أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك لان النّاس انقسموا في ولائهم لعليٍ (عليه السلام) فمنهم من بغضه فضلّ عن سبيل الله ومنهم من أحبه ووالاه فاهتدى سواء السبيل .
كما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) الميثاق عليهم لعليٍ (عليه السلام) { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } ، فرد الله عليهم فقال :
{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ـ في علي ـ وَيَقْطَعُونَ مَا أمر اللَّهُ بِهِ ان يُوصَلَ ـ يعني من صلة أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) - وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
لو أرجعنا كلمة (البعوضة ) لتبين انها آتية من البعضية والبعض معناه جزء من الكل وهو شبه الكل أي بمعنى انه صورة مصغرة من الكل .
وورد عن علل الشرائع عن انس بن مالك عن معاذ بن جبل ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) قال :
( ان الله عز وجل خلقني وعلياً وفاطمة والحسن والحسين قبل ان يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام ـ إلى ان قال (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) ـ فلما صيرنا إلى صلب عبد المطلب أخرج ذلك النور فشقه إلى نصفين فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في أبي طالب ثم أخرج النصف الذي لي إلى آمنة والنصف الذي لعلي إلى فاطمة بنت أسد فأخرجتني آمنة وأخرجت فاطمة علياً ثم أعاد عز وجل العمود إليّ فخرجت مني فاطمة ثم أعاد عز وجل العمود إلى علي فخرج منه الحسن والحسين يعني منه النصفين جميعاً ، فما كان من نور علي فصار في ولد الحسن وما كان من نوري فصار في ولد الحسين فهو ينتقل في الأئمة من ولده إلى يوم القيامة ) بحار الانوار ج35 ص34 .
وبذلك يكون الحسن (عليه السلام) يشابه علي (عليه السلام) وهو صورة مصغرة منه (عليه السلام) , وان الحسين (عليه السلام) يشابه فاطمة (عليها السلام) وهو صورة مصغرة منها , وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) :
( فاطمة بضعة مني ) أي أخذت من كل شيء شيء من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) أي هي صورة مصغرة منه .
أما انطباق البعوضة في التأويل فهي لا تنطبق على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالتحديد بل لها انطباق آخر على رجل من ذرية الإمام علي (عليه السلام) يظهر في آخر الزمان وهو شبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
والدليل على انطباق ذلك هو هذه الرواية التي وردت عن صالح بن ميثم عن عباية الأسدي قال : سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام)وهو متكئ وانا قائم عليه :
( لأبنين بمصر منبراً ولانقضن دمشق حجراً حجراً ولأخرجن اليهود والنصارى من كل كور العرب ولأسوقن العرب بعصاي هذه .
قال : قلت له يا أمير المؤمنين كـانك تخبر انك تحيى بعد ما تموت .
فقال (عليه السلام) : هيهات يا عباية ذهبت في غير مذهب يفعله رجل مني ) بحار الانوار ج53 ص59.
ان هذا الرجل الذي يذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) هو السيد اليماني الذي يخرج في آخر الزمان داعياً إلى الإمام المهدي (عليه السلام) , وان مثل البعوضة في التأويل ينطبق على اليماني كونه بضعة من علي (عليه السلام) وان أوجه الشبه متعددة بين الجزء والكل وهي :
يتبع يتبع
تعليق