من فكر السيد القحطاني
من ملازمات القول بتجدد القرآن هو القول بنظرية الحقائق الآياتية ، فما هي نظرية الحقائق الآياتية ؟
بعد حمد الله والتوكل عليه نقول : ان معرفة الشيء تكمن في معرفة حقيقته ، ولا يمكن معرفة هذه الحقيقة من خلال المعنى الظاهري أو الوصف الخارجي لذلك الشيء دون عملية الربط بين مكونات هذا الشيء وبينه وبين الموجودات .
ولا تتحقق هذه المعرفة قبل الوصول الى أعماق هذا الشيء ، ومدى الارتباط الحاصل بين حقيقته وبين حقائق الاشياء الاخرى ، وليس بإستطاعة الجميع اكتشاف هذه الحقيقة أو القدرة على سلوك طريق سر معرفتها ، بل ان الامر يدخل في باب الخصوص وليس العموم .
ثم بعد ذلك نقول : ان كتاب الله عز وجل هو الحقيقة الكاملة التي تحتوي على حقائق الاشياء ، وذلك واضح في قوله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}.
وقوله {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}.
وقوله تعالى {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ}.
ومن خلال هذه الشمولية تكون معرفة الأشياء على حقيقتها ، وبما أن القرآن متكون من آيات مجتمعة على شكل سور ، فتنقسم هذه الحقائق على تلك الآيات ، وهذه النظرية ـ أي نظرية الحقائق الآياتية ـ قائمة على أن كلام الله عز وجل المكونة لهذه الآيات القرآنية له حقائق في الخارج ، وهذه الحقائق تختلف من آية الى أخرى .
ولكن ما معنى كلام الله ؟ هل هو مثل كلامنا ؟ ـ كما يذهب اليه البعض ـ أم أن كلام الله نفسي ؟ ـ كما قالت الأشاعرة ـ وأنه ذو معنى واحد بسيط ؟
الجواب : كلا ، لا هذا وذاك لأن كلام الله له موجودات ومدلولات في الخارج ، ولا بد من هذا الأمر لأن الموجود في الكتب لا يعطي المعنى الشامل للوجود .
وهنالك آيات عديدة في كتاب الله تؤكد هذه الحقيقة ـ حقيقة ان كلام الله وجودي ـ منها :
قوله تعالى{أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ}. وقوله تعالى {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}. وقوله تعالى {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ}.
أما من جهة أحاديث الأئمة (عليهم السلام) فمنها قول الامام الصادق (عليه السلام) : ( إن الله اذا تكلم أوجد ) .
وفي رواية أخرى : ( ان كلامه نور ) .
اذن فالوجود نوراني ، وقد جاء في بحار الانوار عن الامام الرضا (عليه السلام) في كلام طويل :
( .. ثم ركب الحروف وأوجدها بها الأشياء وجعلها فعلاً منه كما قال {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ})( ) .
وقد رود عن السكوني عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال : ( ان على كل حقيقة وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه ).
وهذه القاعدة التي تثبت دعائماً الامام (عليه السلام) عامة لكل الوجودات سواء كانت لفظية أم معنوية أو وجودية عادية .
ان الله اذا تكلم أوجد ـ كما وردفي الحديث ـ والله يتكلم في كل سنة في ليلة القدر ، فكل ليلة قدر ينزل كلام من الله عز وجل ، والقرآن يتجدد كل ليلة قدر .
وكما أوضحنا ذلك في نظرية تجدد القرآن من الفصل السابق ، وقد أثبتنا حينها بأن القرآن ينزل في كل ليلة قدر على قلب المعصوم لكونه حادث متجدد وله تاويلات ووجوه عديدة لا يعلمها الا الوصي .
واذا رفعت ليلة القدر رفع القرآن ، أي أن هناك حقائق ملكوتية للقرىن تبقى تجري متواصلة بين السماء والأرض ، وهي جارية ومتواصلة ببقاء المعصوم ، وبموت المعصوم وخلو الأرض منه يرفع القرآن .
حيث ورد الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ( لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن ) أورده صاحب كتاب الدر المنثور .
وهذا مصداق من مصاديق حديث الثقلين الذين لن يفترقا حتى يردا الحوض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ولقد توصل العلم الحديث الى وجود كهرومغناطيسية بين السماء والارض ، وتحت طبقة الأوزون محفوظة كميات كبيرة منها ، والكون كله محاط بالكهرومغناطيسية .
وقد أثبتت أحدث الدراسات الى أن أقوال الانسان وافعاله لها كم ، وإن وحدة القياس للامواج المنبعثة منها هي ( الكم ) وأن الكلام اذا خرج من الفم يبقى محفوظاً تحت طبقة الاوزون حتى ولو مرت عليه الآف السنين .
واذا ما استطاع الانسان في يوم من الايام من ايجاد أجهزة متطورة تستطيع تحليل الشحنات الصوتية الموجودة في الجو الى كلام بصورته الاصلية حينما صدر من قائله ، فإنه بذلك يستطيع اكتشاف الكثير من الحقائق ومعرفة الامور الخافية علينا ، كما إن الاصوات لا تنتقل الا عبر واسطة .
واذا عرجنا على النظرية الوجودية متسائلين : هل الوجود يتكرر ؟ ان لفلاسفة أجمعوا على أن الوجود لا يتكرر ، وذلك لأن الوجود فيه زمان ومكان ، والأمر الاهم هو الزمان فإرتباط الزمان معه بإعتبار ان الزمان لا يعاد ، فلا يمكن إعادة الزمان .
وبما أن الوجود هو ( آنات ) فياتي الان ومعه زمن ، فعندما تريد إعادة الآن فيجب عليك إعادة الزمن ، والزمن لا يعاد ، وبالتالي فالوجود لا يتكرر .
وبعد أن ثبت بأن كلام الله وجودي ، وان الوجود لا يتكرر إذن فآيات الله لا تتكرر ، فهناك حقائق للآيات ، فكل آية لها حقيقة ثابتة تختلف عن غيرها ولا يمكن تكرارها ، فقوله تعالى في سورة الرحمن {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الأولى تختلف عن الثانية وهي بدورها تختلف عن الثالثة وهكذا .
وليس كما يذكر المفسرون بأن قوله تعالى {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} هي متكررة وتعطي نفس المعنى والتفسير ، ولو أخذنا بكلامهم فذلك التكرار بعينه ، وهو يناقض الحكمة الالهية ، لأن الله سبحانه وتعالى في هذه الحالة كأنه يعيد ويكرر الأمر .
وهو يتعارض أيضاً مع قول الإمام الصادق (عليه السلام) : ( ان الله اذا تكلم أوجد ) ، نحن نقول في هذه المسألة ان هنالك بُعد رابع كما أثبته أنشتاين وهو ( الزمكاني ) .
فالزمان والمكان يتحكم فيها وفي حقائقها المستخلصة في الخارج ، فالزمن يؤثر في الكلام لتغيره وتفاوته على الكلام ، وبالتالي فان الزمان هو الذي يؤثر تاثيراً مباشراً في حقائق تلك الآيات .
ولا يمكن الاستغناء عن الزمن لكونه موجود في الآيات وموجود في الكلام ، إذن فالحقائق التي في الكون لا يمكن أن تتكرر والقرآن غير ممكن أن يتكرر فآيات غير متكررة ، وإن كانت متشابهة في الظاهر وهي نفس اللفظ والمعنى ، لكن حقائقها في الخارج تختلف من آية الى أخرى .
لو عدنا الى تاريخ علم النحو لوجدنا أن أول من أكتشف هذا العلم هو الامام علي (عليه السلام) وهو صاحب علم الكتاب ، والنحو يعني القصد فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما أعطى كتابه لابي الاسود الدؤلي قال له : ( خذ هذا الكتاب وأنحو ) أي اقصد .
وقد ورد عن محمد بن سلام الجمحي : ( إن أبا الاسود الدؤلي دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) فرمى اليه رقعة فيها بسم الله الرحمن الرحيم ثلاثة اشياء اسم وفعل وحرف جاء لمعنى فالاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره ...).
أي ان ما في الكون إما اسم أو فعل أو حرف ، وذلك حتى تركيبته الكيميائية والفيزيائية ، ولو أردنا تفصيل أفعال البشر واسماء الموجودات وأدوات الربط ( الحروف ) فلا يوجد غيرهن ابداً في الكون كله ، فهذه المعادلة الكونية تمثل جميع الموجودات في هذا الكون الفسيح .
وأما الحركات (حركات الحروف) فإن فيها نغمة وجودية ، قال تعالى {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}. والامام الصادق (عليه السلام) يقول : ( لربما عمد ولكن لا ترونها ) .
وقوله تعالى {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ}.
لماذا يمسك الله السماء أن تقع على الارض ؟ لأن كل شيء يرفع يقع حسب قانون الجاذبية ، فيحتاج كي يرفعه أن يضمه ، فجعل علامة الضم للرفع .
وهذه نظرية فيزيائية نعيشها في الوجود ، وكل شيء ينصب بفتح عادةً ، فإذا نصب فلان الخريطة فتحها ، وبذلك تتبين العلاقة بين النصب والفتح ، وكل شيء يجر يكسر ، وبالامكان ذلك في تكسر ذرات المواد أو تكسر الكريات وغير ذلك ، وكل شيء يقف فهو ساكن وكل شيء يجزم فهو واقف فالجزم علامة الوقوف .
ان هذا الارتباط العجيب بين هذه الحركات وتلك النغمات الوجودية في الخارج لم يأت من فراغ بل هو دليل على الوجود الخارجي لتلك الحركات ، وهذا يؤكد قولنا بأن لكلام الله تعالى حقائق ومدلولات خارجية ثابتة تختلف الواحدة عن الاخرى ، وبالتالي فعندما يقول في الحديث :
( حبل ممدود من الله الى المعصوم ، وهذا المدد سوف ينزل من السماء الى الارض فيغيرهم ثم يصعد لينزل في ليلة القدر من العام التالي وهكذا .
ويتبين من ذلك ان الذي ينزل في ليلة القدر من أفعال البشر واقوالهم هو من القرآن لأنه تقدست آلائه يقول {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} ، ويقول {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، ويقول {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
فإذاً هذه الأفعال والأقوال هي من صنع الله وإيجاده وبالتالي فهي مذكورة في كتابه جل وعلا ، وذلك ليس بمعنى الجبر ولكن بمعنى التقدير الذي قدره الله عز وجل .
بدليل ان العبد يفعلها بمحض ارادته ولكن بتقدير الله عز وجل قال تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، وقال تعالى {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} .
وقد ورد عن الامام الرضا (عليه السلام) قوله : ( ... إن أفعال العباد مخلوقة لله خلق تقدير لا خلق تكوين ( والله خالق كل شيء ) ولا نقول بالجبر والتفويض ... الخبر )( ) .
اذاً فالقرآن هو نفسه الافعال المكتوبة والحقائق الملكوتية التي تسبح بين السماء والأرض والتي تخضع للتقدير الالهي وبالتالي تتم عملية النزول في كل ليلة قد ، فنزول القرآن هو نزول التقدير ، أي بمعنى آخر :
إن كل ما مقدر عند الله تعالى هو نفسه الكتاب ، فنزوله واحد لكن الموجودات مختلفة ، فنزوله يكون على شكل حروف ، وهذه الحروف فيها عمق كبير .
فقد ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله : ( إن كل حرف واحد ومطلع ) أي ان هذا الحرف يختلف عن الحرف الذي يليه ، فلكل منها أثره ومعناه ، ويختلف هذا الحرف من كلمة الى أخرى .
.
يتبع
تعليق