تأريخ التقليد المسيحي
نستطيع القول ان التقليد في المسيحية بدأ منذ موت المسيح ، وتحديداً بعد ان بدأت المسيحية يبشر بها في عصر الرسل (التلاميذ الأوائل ) حين أخذوا يبشرون بالمخلص وموته وقيامته بين البلدان ، وقد أخذ الأنجيل بالأنتشار بفعل تضحيات التلاميذ الآوائل ، لكن مقابل هذا الأنتشار اختلطت الآراء الدينية للتلاميذ جنباً الى جنب مع الأنجيل المقدس ، وهذا كان اول الغيث كما يقال حيث تسللت العقائد والتشريعات من حيث لا يعلم التلاميذ الى جسد الايمان المسيحي ، وكان بولس هو قائد هذه الحملة على الرغم من انه ليس واحد من الإثني عشر ، لكنه احتل مكانة غير مسبوقة وحظي بقدسية كبيرة ، ولنعرف مدى تأثير هذه الشخصية في حياة الناس الى اليوم علينا ان نسأل أي مسيحي ينتمي للكنيسة التقليدية في الشرق او الغرب ونسأله عن رأيه بهذه الشخصية وسرعان ما سنسمعه يجيب أخ بولس او شآوول هو مؤسس الايمان المسيحي ان لم نكن مبالغين ، هذه هي صورة بولس القديس كما يحلو للبعض تسميته ونعته ، لكن من ينظر بعين ثانية او لنقل زاوية أخرى يدرك ان تلك القدسية إنما هي زائفة ومصطنعة ومكذوبة ، وهي من حياكة رجالات الكنيسة على مر العصور ، اما بقية التلاميذ الأحد عشر الباقين بعد قيامة يسوع ، فقد كان لهم دور كذلك بتغيير بعض ملامح الناموس كالختان وغيره ، وبوضوح يدرك المتتبع للتأريخ ان الشريعة بدأت تهتز أركانها بتقليد القديسين المزعومين وما أحدثوه في جسد الايمان المسيحي منذ تلك الحقبة .
وبالعودة الى بولس او شآوول ، فنستطيع القول انه اول من وضع اللبنة الأولى لمفهوم التقليد واستخدم كلمة (التسليم) كتعبير مرادف للكلمة المعنية بالبحث ، وكان يراد منها تحريف المعنى المقصود وملاعبة الذهن المسيحي المتشنج تجاه التقليد بسبب ذم المسيح لها في اكثر من مورد ، ولذلك كانت الطريقة الأسلم هي اختلاق مفهوم او معنى حرفي يصب في بودقة واحدة على الرغم من ان المعنيين متشابهين في المضمون ، وهذه الخطوة كانت تحت ذريعة محكمة ترتكز على اعتبار ان هذه التعاليم المختلقة الجديدة إنما هي من وحي التسليم أي التعاليم المستلمة من جيل التلاميذ مروراً بجيل الملتحقين بالتلاميذ وحتى القديسين -المزعومين- الذين أكملوا مسيرة بولس المبتدع الكبير .
ولنتذكر هذه النصوص من رسائل بولس والتي تتضمن ترسيخ وتأسيس بدعة التقليد الرسولي وعلى لسان شآوول نفسه ، يقول :-
* [ وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا ] ( 2 تى 2 : 2 )
* [ فَاثْبُتُوا إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ وَتَمَسَّكُوا بِالتَّعَالِيمِ الَّتِي تَعَلَّمْتُمُوهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالْكَلاَمِ(الشفهى) أَمْ بِرِسَالَتِنَا (المكتوب) ] ( 2 تس 2 : 15 )
* [فَأَمْدَحُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ عَلَى أَنَّكُمْ تَذْكُرُونَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَحْفَظُونَ التَّعَالِيمَ كَمَا سَلَّمْتُهَا إِلَيْكُمْ ] ( 1 كو 11 : 2 )
* [لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضًا ] ( 1 كو 11 : 23 )
لقد بدأت سلسلة البدع البولسية أولاً بمسألة الختان والتي كانت متسالمة ومن صلب الناموس اليهودي الا ان بولس كان صاحب فكرة ألغاءها بعد ان بدأت الناس تلج الى المسيحية ومن شعوب وأمم لم تكن من اليهود مما يعني أنهم أولي غرلة -غير مختتنين- فاللازم ختن أولئك لأن المسيح لم ينقض الناموس كما اخبر في الأنجيل ، الا ان بولس -ومن وراءه التلاميذ- ارتأوا تغيير الناموس والأجتهاد فقاموا بإلغاء هذه الفريضة ، وقد كانت تعاليم بولس الجديدة كالمعول الذي يهدم بالبشارة التي جاء بها المسيح ، والأدهى من ذلك كله هو نسبة ما يقوله ويبتدعه الى دين المسيح نفسه بقوله "لأنني تسلمت من الرب ما سلامتكم أيضاً" ، وتتجلى هنا الكارثة لأن المبتدع حين ينسب ما يجئ به الى الرب فهو يضفي القدسية على الأقوال والأفعال التي يوصي بها لمتبعيه ومريديه ، وبالتالي ستكون النتيجة مجموعة من القوانين الوضعية البشرية المحتملة الخطأ والصواب ، وفوق ذلك فهي تحظى بهالة من القداسة من قبل اتباع الديانات تلك .
ان من ضمن الأدوات التي استخدمها بولس ببراعة هي اللعب على أوتار الروحانية وبواطن النصوص ، ويتجلى هذا المعنى من خلال كلامه عن الختان الروحي وانه بديل عن الختان الحقيقي ، وهذا وإن كان يبدو للوهلة انه تخفيف عن كاهل الداخلين الجدد من الأمم الملتحقة بالمسيحية الجديدة والمبشر بها حديثاً آنذاك ، الا ان الواقع يبين ان ذلك نوع من التجاوز على صلب الشريعة اليهودية التي جاء بها موسى وأنبياء العهد القديم المقدسين ، وحتى السيد المسيح ذاته تمم ما جاء بها السابقون ، فمن يكون بولس حتى يستبدل الختان المادي بالختان الروحي ؟..ومن يجرؤ كأنسان ان يقول برأيه وعقله الناقص أمام ناموس الله الخالد ؟... لكن الواقع المرير يرينا الحالة المآساوية التي آل إليها اتباع الديانات -كما أسلفنا - على مر العصور بأتباع رجال ليسوا من السماء ، بل هم بالأصل من عبدة الجماد وإذا بهم يستيقظون في لحظة فيقفزون كالكنغر ويهرعون كسرعة الفهد ليتعلوا أعلى مناصب القديسين ويحظون بلقب كبير كآباء الدين من جيل الى آخر .
نعود الى ما قاله بولس حول الختان الذي جمده بحسب منظوره العقلي ورأيه الحاذق الماكر ، يقول (فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس. ولكن إن كنت متعديا الناموس فقد صار ختانك غرلة. إذا إن كان الأغرل يحفظ أحكام الناموس أفما تحسب غرلته ختانا.
وتكون الغرلة التي من الطبيعة وهي تكمل الناموس تدينك أنت الذي في الكتاب والختان تتعدى الناموس. لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديا ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختاناً بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي. وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان. الذي مدحه ليس من الناس بل من الله ..)رومية :2: 25-29 ، كانت هذه ربما البداية ، ولم تنتهي سلسلة البدع في الدين ولعلها اهم بدعة بدأها بولس الطرطوسي ، وهي بدعة التبتل والتي لم تكن مطروقة من قبل لا على لسان أي من أنبياء العهد ألقديم ولا يسوع نفسه ، نعم ان المسيح لم يتزوج وهذا متسالم به ، لكنه لم يذكر في الأنجيل ولا نص واحد في إيثار التبتل الذي نادى به بولس ، والى الآن تعيش فئة من الناس من خدمة الكنائس التقليدية حول العالم منهم الشمامسة والقسيسين والرهبان من دون زواج ليس لوصية من ناموس او شريعة إلهية ، وإنما هي بدعة ابتدعها بولس الطرطوسي وسار على نهجه من آمن به من المسيحيين ، وأقول أي كفر أعظم من هذا وأي جريمة بحق الأنسانية حين يقتل الأنسان غريزة طبيعية ليس في الأنسان وحده بل هي في كل مخلوقات الله الحية التي تعيش في الأرض ، وهي سر ديمومة البشرية على الرغم من الدماء والحروب والأوبئة التي عصفت بالملايين منذ خلق الله العالم والى اليوم ، أنها هبة كريمة من خالق الكون لأشرف كائن على الأرض وهدية نفيسة ولذة عظيمة لا توصف بكلمة ، ونعمة من نعمه التي لا تنتهي للأنسان ، الا انه هذا الأنسان -في بعض الموارد- يؤثر حرمان نفسه والناس من بعض تلك السعادات المباحة من خلال اتخاذ أوثان بشرية كبولس وأمثاله يحرمون ما حلله الرب للمؤمنين في كل آن ومكان ، لنستمع الآن الى ما سطره بولس بهذا الصدد وكيف حرم ما أحل الله (وأما من جهة أمور التي كتبتم لي عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة. ولكن لسبب الزنا ليكن لكل واحد امرأته وليكن لكل واحدة رجلها. ليوف الرجل المرأة حقها الواجب وكذلك المرأة أيضا الرجل. ليس للمرأة تسلط على جسدها بل للرجل. وكذلك الرجل أيضا ليس له تسلط على جسده بل للمرأة. لا يسلب أحدكم الآخر إلا أن يكون على موافقة إلى حين لكي تتفرغوا للصوم والصلاة ثم تجتمعوا أيضا معا لكي لا يجربكم الشيطان لسبب عدم نزاهتكم. ولكن أقول هذا على سبيل الإذن لا على سبيل الأمر. لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا. لكن كل واحد له موهبته الخاصة من الله. الواحد هكذا والآخر هكذا
ولكن أقول لغير المتزوجين وللأرامل إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا. ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا. لأن التزوج أصلح من التحرق. ) كورنثوس 7: 1-10 ، انا لا اربد ان أعلق على كل ما قاله ، فما ذكره لا بعدو كونه سفسطة يستطيع أي إنسان قرأ الكتاب المقدس ان يتكلم بتلك المثل والقيم الأنسانية ، مثل وفاء الزوح لزوجته ، وأداء الحقوق التي هي أشبه بشعارات منظمات مجتمع مدني في عصرنا الحالي ، الا أنني احب ان أركز على أواخر حديثه وفيه يدعو اتباع يسوع ممن يؤمن ببولس ان يجعلوها من نفسه -أي بولس- مثال يحتذى به فيقول (لأني أريد ان يكون جميع الناس كما أنا) !!...فمن هو بولس ؟...وما مقدار شأنه وعلمه ؟...ومن أعطاه تلك الهالة من القدسية العظيمة حتى يصبح كلامه كدستور مثالي للبشر على مر التأريخ ؟!
نحن نعلم ان اتباع الكنيسة التقليدية ممن يقدسون بولس الطرطوسي وبقية الرسل يقولون ان منشأ تعاليم الرسل ومنهم بولس هي من الروح القدس على أساس ان المسيح بشرهم من قبل أن الروح القدس سيكون معهم بعد قيامته ورحيله ، لكن السؤال يكون : هل من الممكن ان يكون الرسول والأمين على الناموس ووكيل المسيح ان يتكلم برأيه وظنه مع انه بعملية الروح القدس ؟!... ان اصل الأيمان بحلول الروح القدس تلك والتي كانت مع أنبياء كثيرين في العهد القديم وكانت مع المسيح ، اصل المفهوم والأعتقاد بها أنها مرشدة للأنبياء والقديسين على مر الزمان ، فكيف يكون لبولس ان يتكلم برأيه كأي إنسان اعتيادي ويلجأ الى الظنون والتخمينات في تحديد شرائع خطيرة ومهمة كالزواج والطلاق وبالتالي يسير على إثره الملايين من اتباع المسيحية التقليدية في شرق العالم وغربه !!!
ومن هنا ينطلق الدكتور المطران بولس يازجي في كتابه "التقليد" محاولاً تثبيت عقيدة قدسية تعاليم الرسل وبولس الطرطوسي والتذكير بأن الروح القدس هو وراء تلك التعاليم الجديدة المخالفة لنصوص الكتاب المقدس بقوله : ( يمتد التقليد من سفر اعمال الرسل ، الى الرسائل ، الى الأقوال الشفهية المتناقلة آنذاك ، والى المجامع المقدسة ، ثم الى اعمال وأقوال القديسين ، كل هذه المختارات من التأريخ تمت بالروح القدس ذاته الذي يكشف المسيح ويكون جسده التأريخ . ان كتاب اعمال الرسل هو القسم الأول من التقليد ، لم يقم بأحداثه ولا وضع تعاليمه المسيح نفسه (زمن الأنجيل) ، إنما الرسل والزمن الرسولي هو امتداد للزمن الأنجيلي . وهكذا بالروح القدس سيبقى الزمن كله رسولياً . يشكل بولس الرسول حلقة الوصل بين زمني التدبير ، ولقد قبلت الكنيسة "مساواته بالرسل" ، وهذا واضح في رسائله وفي مجمع أورشليم ، لكن بولس لم يختر في زمن الأنجيل وأنما في زمن التقليد ...) كتاب التقليد د. المطران بولس يازجي ص4 .
لا عجب الآن من اتباع الملايين من المسيحيين في العالم لتعاليم بولس والتلاميذ أو الرسل الآخرين في كل ما وصل الى تراث الكنيسة ، فمن يربط الروح القدس الذي كان له ابلغ الأثر في شرائع ونبؤات القدامى من الأنبياء بتعاليم البشر الوضعية الظنية وما يرتأيه العقل الأنساني كأنما يشرعن تلك الآراء ويصدر جواز المرور النافذ لآلاف السنين يكون بحوزة قانون موازي أو قد يكون بديلاً للناموس الالهي العظيم .
اما المجامع المسكونية للكنائس الأولى فحدث عنها ولا حرج ، لأنها بكل بساطة استمرت على نهج بولس وما أقره التلاميذ الأوائل وأكملت الرسالة والرحلة التشريعية التالية لعصر المسيح ، وكانت تلك المجامع -كما يعلم اكثر المطلعين على التأريخ الكنسي- هي نتاج حتمي للخلافات التي عصفت بالكنآئس الأولى وادت الى ظهور او طفو عقائد متناحرة فيما بينها ومتقاطعين الى حد التكفير والبرآءة واحدة من الأخرى ، فوجد الأساقفة الأوائل انفسهم معلنين انعقاد مؤتمرات دينية للرد على هرطقات -كما يحلو لهم التسمية- وبدع بعض المنتمين للكنيسة من أساقفة المسيحيين في المشرق ، ومحاولة تثبيت عقيدة موحدة لماهية وكنه المسيح ، وقد نتج من تلك المجامع مفاهيم لم تكن موجودة في عهد المسيح ولا حتى تلاميذه اللاحقين ، وبرزت مصطلحات الى الساحة سمعتها الآذان لأول مرة ، منها "مفهوم الطبيعتين " و"الأقانيم الثلاثة" و ...الخ من المفاهيم التي ابتدعها الأساقفة والآباء الأوائل ، ووجدت الأجيال اللاحقة لعصر تلك المجامع والوارثة للكنيسة الأولى ، أنها مرغمة بل ومقتنعة بقبول قرارات من جلس في تلك المجامع التي أصبحت مقدسة حتى قبل انعقادها ، فكل ما أقره آبائنا نحن نقره ونقبله من غير تفكير ولا نقاش ولا تمحيص ، لأنهم الأمناء على الناموس دون سواهم وانبثقت الكنيسة من جهودهم وتضحياتهم وتأسست العقيدة على فكرهم وتنظيرهم ، ولو سئل المسيحي اليوم من قبل أي رجل من خارج الديانة المسيحية عن سر هذا التسليم للآباء الآوائل ولتعاليمهم الوضعية ، سيقول لك ان السر هو التقليد ، نعم هذه الكلمة التي ذمها السيد المسيح في مواضع مختلفة من الأنجيل وأصبحت وقتها مشؤومة في أذهان باع يسوع الناصري ، الا انها عادت لتشرق في العقيدة من جديد ولكن بمفهوم يتعنون بعنوان ذو شقين هما : التقاليد الصحيحة والتقاليد الباطلة .
عن كتاب(المسيح قادم في العراق) / بقلم تلامذة السيد المسيح