اختلف المفسرون والباحثون في مسألة تأويل القرآن وذهبوا في ذلك عدة مذاهب ، واختلفت آرائهم لأي مقولة يرجع التأويل ، كما إنهم اختلفوا أيضاً في موضوع التأويل هل أنه يختص ببعض القرآن كالمتشابه مثلاً ؟ أم أنه يشمل جميع القرآن محكمه ومتشابهه ؟ وهل يتناول الظاهر فقط أم أن التأويل يشمل الظاهر والباطن ؟ وهل أن التأويل موجود أم أنه لم يوجد بعد ؟
أو بعبارة أخرى هل نزل التأويل كاملاً أم أنه لم ينزل بعد ، وما إلى ذلك من الآراء والمذاهب التي شرق أصحابها وغربوا ولم يفلحوا في الوصول إلى حقيقة علم التأويل .
ذلك العلم الذي أعطى للقرآن قوة البقاء والديمومة والإعجاز والذي جعل من القرآن كتاباً فيه تبيان كل شيء كما أخبر المولى تبارك وتعالى في الآية الشريفة من قوله تعالى :
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}( ) .
وأصبح القرآن على مرّ الزمان وتعاقب الأجيال الكتاب الإلهي الوحيد الذي نجد فيه علاجاً لكل مسائل الحياة ومتعلقاتها وكل ذلك ما كان لولا اشتمال القرآن على عدة بطون من العلم فقد ورد في الحديث الشريف المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : ( إن للقرآن ظهراً وبطناً ، ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن )( ) .
وقد كتب الكثير من العلماء والمفسرين في مسألة تأويل القرآن ومن هؤلاء الذين كتبوا في هذا العلم سماحة السيد كمال الحيدري فقد أصدر كتاباً بعنوان ((تأويل القرآن النظرية والمعطيات)) وقد أورد في هذا الكتاب مجموعة من آراء السيد حيدر الآملي والسيد محمد حسين الطباطبائي صاحب الميزان والتي اعتقد بصحتها في هذه المسألة السيد كمال الحيدري .
والحقيقة إنا وجدنا هذا الكتاب يحمل بين صفحاته الكثير من الآراء الخاطئة لذا ومن منطلق الواجب الذي أملاه على عاتقنا المولى سبحانه وتعالى في رد الشبهات وتقويم الاعوجاج الذي يطرأ هنا وهناك .
سنقوم بحول منه وقوة وتوفيق منه سبحانه وتعالى بإظهار الحق ببيان واضح ويسير من دون تكلف أو ما شابه ذلك ، بل إننا سوف نحرص على مراعاة القراء على اختلاف مستوى العلم والثقافة لتعم الفائدة ولتشمل الجميع .
الفصل الأول
مناقشة السيد القحطاني لرأي السيد الحيدري والطباطبائي
في الراسخون في العلم وتأويل القرآن
رأي الطباطبائي والسيد كمال الحيدري
في الراسخين في العلم
[ (ذهب بعض القدماء والشافعية ومعظم المفسّرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف وأن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه من القرآن ، وذهب معظم القدماء والحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستئناف وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، وهو ما استأثر الله سبحانه بعلمه .
وقد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة وببعض الروايات ، والطائفة الثانية بوجوه أُخر وعدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه ، وتمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها .
ما ينبغي للباحث أن يتنبه له في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أول ما دارت بينهم ووقعت مورداً للبحث ، فاختلط المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ بما عنونا به المسألة وقررنا عليه الخلاف وقول كل من الطرفين ، لذلك أغضينا عن نقل حجج الطرفين ؛ لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط .
والذي ينبغي أن يقال : إن القرآن يدلّ على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى ، وأما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك .
أما الجهة الثانية : فإن الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه ، وتفرّق الناس في الأخذ بها ، فهم بين مائل إلى إتباع المتشابه لزيغ في قلبه ، وثابت على إتباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه .
فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمهم ، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول ، ولا دليل على تشركيهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلا وجوه غير تامّة ، فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله :
(وما يعلم تأويله) من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك .
فالذي تدلّ عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به .
لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدلّ على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب ، قال تعالى : {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}( ) ، وقال تعالى : {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ}( ) ، وقال تعالى : {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}( ) ، فدلّ جميع ذلك على الحصر .
ثم قال تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ}( ) ، فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول ، ولذلك نظائر في القرآن .
أما الجهة الأولى وهي جواز العلم بتأويله لغيره تعالى ، فإنه تعالى قال : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}( ) ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله يمسّون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغيّر ، ومن التغيّر تصرف الأذهان بالورود عليه والصدور منه ، وليس هذا المسّ إلا نيل الفهم والعلم
ومن المعلوم أيضاً أن الكتاب المكنون هذا هو أم الكتاب المدلول عليه بقوله تعالى : {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}( ) وهو المذكور في قوله تعالى : {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}( ) .
وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم ، وليس ينزلها إلا سبحانه ، فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}( ) .
وقوله تعالى : {وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ}( ) ، وما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلا منسوبة إلى الله أو بإذنه ، وليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب ، وليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به ويريد به ، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين .
ويرجع إلى إثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان إلى الشك ونوسان بين الحق والباطل ، وثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمايل إلى إتباع الهوى ونقض ميثاق العلم .
وهذا هو الرسوخ في العلم ، فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديّون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة ، فقد ظهر أن هؤلاء المطهّرين راسخون في العلم .
هذا ، لكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان ، فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهّرين يعلمون التأويل ، ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم ، لما أن تطهير قلوبهم منسوب إلى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب ، إلا أنّ الراسخين في العلم سبب للعلم بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك ، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل ، حيث قال تعالى :
{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} وقد وصف الله رجالاً من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك وشكرهم على الإيمان والعمل الصالح في قوله تعالى : {لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}( ) ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب)( ) .
والحاصل أن الآية ليست بصدد إثبات أن الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل كما تصوره القائلون بأن الواو للعطف ، لذا لا يثبت أن كل راسخ في العلم عالم بالتأويل بالضرورة ، وإنما الثابت أن العلم بالتأويل سبب للرسوخ في العلم ]( ) انتهى كلام السيد الطباطبائي والسيد كمال الحيدري .
نقاش السيد القحطاني مع الطباطبائي والحيدري
في الراسخين في العلم
لقد ذكر سماحة السيد الحيدري في الصفحة (81) من كتابه (تأويل القرآن) ما هذا نصه :
[... إن الراسخين في العلم سبب للعلم بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك ، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى : {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} ] .
ثم قال أيضاً في نفس الصفحة : ( والحاصل ان الآية ليست بصدد إثبات ان الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل كما تصوره القائلون بأن الواو للعطف ، لذا لا يثبت ان كل راسخ في العلم عالم بالتأويل بالضرورة ، وإنما الثابت ان العلم بالتأويل سبب للرسوخ في العلم ) انتهى كلام السيد الحيدري
أو بعبارة أخرى هل نزل التأويل كاملاً أم أنه لم ينزل بعد ، وما إلى ذلك من الآراء والمذاهب التي شرق أصحابها وغربوا ولم يفلحوا في الوصول إلى حقيقة علم التأويل .
ذلك العلم الذي أعطى للقرآن قوة البقاء والديمومة والإعجاز والذي جعل من القرآن كتاباً فيه تبيان كل شيء كما أخبر المولى تبارك وتعالى في الآية الشريفة من قوله تعالى :
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}( ) .
وأصبح القرآن على مرّ الزمان وتعاقب الأجيال الكتاب الإلهي الوحيد الذي نجد فيه علاجاً لكل مسائل الحياة ومتعلقاتها وكل ذلك ما كان لولا اشتمال القرآن على عدة بطون من العلم فقد ورد في الحديث الشريف المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : ( إن للقرآن ظهراً وبطناً ، ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن )( ) .
وقد كتب الكثير من العلماء والمفسرين في مسألة تأويل القرآن ومن هؤلاء الذين كتبوا في هذا العلم سماحة السيد كمال الحيدري فقد أصدر كتاباً بعنوان ((تأويل القرآن النظرية والمعطيات)) وقد أورد في هذا الكتاب مجموعة من آراء السيد حيدر الآملي والسيد محمد حسين الطباطبائي صاحب الميزان والتي اعتقد بصحتها في هذه المسألة السيد كمال الحيدري .
والحقيقة إنا وجدنا هذا الكتاب يحمل بين صفحاته الكثير من الآراء الخاطئة لذا ومن منطلق الواجب الذي أملاه على عاتقنا المولى سبحانه وتعالى في رد الشبهات وتقويم الاعوجاج الذي يطرأ هنا وهناك .
سنقوم بحول منه وقوة وتوفيق منه سبحانه وتعالى بإظهار الحق ببيان واضح ويسير من دون تكلف أو ما شابه ذلك ، بل إننا سوف نحرص على مراعاة القراء على اختلاف مستوى العلم والثقافة لتعم الفائدة ولتشمل الجميع .
الفصل الأول
مناقشة السيد القحطاني لرأي السيد الحيدري والطباطبائي
في الراسخون في العلم وتأويل القرآن
رأي الطباطبائي والسيد كمال الحيدري
في الراسخين في العلم
[ (ذهب بعض القدماء والشافعية ومعظم المفسّرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف وأن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه من القرآن ، وذهب معظم القدماء والحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستئناف وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، وهو ما استأثر الله سبحانه بعلمه .
وقد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة وببعض الروايات ، والطائفة الثانية بوجوه أُخر وعدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه ، وتمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها .
ما ينبغي للباحث أن يتنبه له في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أول ما دارت بينهم ووقعت مورداً للبحث ، فاختلط المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ بما عنونا به المسألة وقررنا عليه الخلاف وقول كل من الطرفين ، لذلك أغضينا عن نقل حجج الطرفين ؛ لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط .
والذي ينبغي أن يقال : إن القرآن يدلّ على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى ، وأما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك .
أما الجهة الثانية : فإن الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه ، وتفرّق الناس في الأخذ بها ، فهم بين مائل إلى إتباع المتشابه لزيغ في قلبه ، وثابت على إتباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه .
فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمهم ، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول ، ولا دليل على تشركيهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلا وجوه غير تامّة ، فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله :
(وما يعلم تأويله) من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك .
فالذي تدلّ عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به .
لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدلّ على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب ، قال تعالى : {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}( ) ، وقال تعالى : {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ}( ) ، وقال تعالى : {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}( ) ، فدلّ جميع ذلك على الحصر .
ثم قال تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ}( ) ، فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول ، ولذلك نظائر في القرآن .
أما الجهة الأولى وهي جواز العلم بتأويله لغيره تعالى ، فإنه تعالى قال : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}( ) ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله يمسّون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغيّر ، ومن التغيّر تصرف الأذهان بالورود عليه والصدور منه ، وليس هذا المسّ إلا نيل الفهم والعلم
ومن المعلوم أيضاً أن الكتاب المكنون هذا هو أم الكتاب المدلول عليه بقوله تعالى : {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}( ) وهو المذكور في قوله تعالى : {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}( ) .
وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم ، وليس ينزلها إلا سبحانه ، فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}( ) .
وقوله تعالى : {وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ}( ) ، وما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلا منسوبة إلى الله أو بإذنه ، وليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب ، وليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به ويريد به ، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين .
ويرجع إلى إثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان إلى الشك ونوسان بين الحق والباطل ، وثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمايل إلى إتباع الهوى ونقض ميثاق العلم .
وهذا هو الرسوخ في العلم ، فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديّون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة ، فقد ظهر أن هؤلاء المطهّرين راسخون في العلم .
هذا ، لكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان ، فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهّرين يعلمون التأويل ، ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم ، لما أن تطهير قلوبهم منسوب إلى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب ، إلا أنّ الراسخين في العلم سبب للعلم بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك ، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل ، حيث قال تعالى :
{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} وقد وصف الله رجالاً من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك وشكرهم على الإيمان والعمل الصالح في قوله تعالى : {لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}( ) ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب)( ) .
والحاصل أن الآية ليست بصدد إثبات أن الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل كما تصوره القائلون بأن الواو للعطف ، لذا لا يثبت أن كل راسخ في العلم عالم بالتأويل بالضرورة ، وإنما الثابت أن العلم بالتأويل سبب للرسوخ في العلم ]( ) انتهى كلام السيد الطباطبائي والسيد كمال الحيدري .
نقاش السيد القحطاني مع الطباطبائي والحيدري
في الراسخين في العلم
لقد ذكر سماحة السيد الحيدري في الصفحة (81) من كتابه (تأويل القرآن) ما هذا نصه :
[... إن الراسخين في العلم سبب للعلم بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك ، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى : {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} ] .
ثم قال أيضاً في نفس الصفحة : ( والحاصل ان الآية ليست بصدد إثبات ان الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل كما تصوره القائلون بأن الواو للعطف ، لذا لا يثبت ان كل راسخ في العلم عالم بالتأويل بالضرورة ، وإنما الثابت ان العلم بالتأويل سبب للرسوخ في العلم ) انتهى كلام السيد الحيدري
تعليق