الصدقة نوع من المعروف و أحد أفراد البر وأجمل أنواع الإحسان يخرج الإنسان بها من الشّح و البخل من جهة ويقضي حاجة الآخرين من جهة أخرى ... فهي قضية تتعلق بطرفين أحدهما المعطي و الآخر الآخذ, وقد وضع الشارع آداباً لكل منهما ورسم أخلاقية معينة وحدوداً ينبغي المحافظة عليها ...
والصدقة مستحبة لما فيها – كما قلنا – من نفي للبخل فإن الشيطان يبسط ظله على المعطي ويسول له كي يمنعه من العطاء ويعده الفقر إن هو أخرج قسماً من ماله للمحتاجين وتبتدئ جنوده في عملية تزيين للدرهم وقيمته وكل منا نازعته نفسه يوماً ما وتردد في أن يعطي ويمنع, فيمدّ يده ليخرج صدقه و إذا به يتأخر ويتباطأ, إنه في تلك اللحظة يدخل إبليس بوساوسه وتزيناته وهنا يحتاج الإنسان إلى نوع من الرجوع إلى الله كي يطرد إبليس ويدحره من نفسه وفكره و عمله وليتذكر قول الإمام علي بن الحسين: إني لأستحي من ربي أني أرى الأخ من أخواني فاسأل الله له الجنة و أبخل عليه بالدينار والدرهم, فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة لك لكنت بها أبخل و أبخل وأبخل ...
وهذه الصدقة المستحبة وردت الأحاديث الكثيرة في الحثّ عليها والترغيب فيها ومدح معطيها ...
*عن أبي جعفر "عليه السلام" قال: قال علي بن أبي طالب "عليه السلام": تصدقت يوماً بدينار فقال لي رسول الله "صلى الله عليه وآله": أما علمت يا علي أن صدقة المؤمن لا تخرج من يده حتى يفك عنها من لحى سبعين شيطاناً كلهم يأمره بأن لا يفعل, و ما تقع في يد السائل حتى تقع في يد الرب جل جلاله ثم تلا هذه الآية: (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) .
*وعن أبي جعفر "عليه السلام" قال: البر و الصدقة ينفيان الفقر و يزيدان في العمر ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء .
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" : داووا مرضاكم بالصدقة .
العطاء قبل السؤال:
يريد الإسلام للناس أن يصونوا كرامة بعضهم ويحفظوا ماء وجوههم, ولا يريد أن يبذل الفرد أغلى ما عنده مقابل ما تعطيه فلذا رسم للمعطي أن يبتدئ هو بنفسه في العطاء ولا ينتظر من المحتاج أن يمد إليه يده ويستجديه حتى تمتد يده بالعطاء ...
عندما يمد يده إليك ينتفي المعروف ويصبح العطاء مقابل ما يبذله من كرامته هكذا تقول الأحاديث وتدفع القادرين إلى أخذ زمام المبادرة في العطاء ...
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" قال: المعروف ابتداء فأما من أعطيته بعد المسألة فإنما كافيته بما بذل لك من وجهه, يبيت ليلته أرقاً متململاً يتمثل بين الرجاء و اليأس لا يدري أين يتوجه لحاجته ثم يعزم بالقصد لها فيأتيك وقلبه يرتجف وفرائصه ترتعد, قد ترى دمه في وجهه لا يدري أيرجع بكآبة أم بفرح.
*عن أمير المؤمنين قال: السخاء ما كان ابتداء فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم.
والاستتار عند العطاء:
وزيادة في التحفظ على كرامة الناس وصوناً لعزتهم ينبغي إن أمكن أن يكون العطاء عندما تمد يدك إليه أن لا يراك ولا تراه لئلا تقع العينان فيخجل الآخذ ويتصبب عرقاً وتستنفر أوداجه ويحمر وجهه وتصيبه حرارة شديدة ويرتفع ضغطه بل أعمل جميع الوسائل لإيصالها دون أن يراك .
وهكذا كانت سيرة الأئمة من أهل البيت "عليهم السلام" ..
*عن اليسع بن حمزة قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرضا "عليه السلام" أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام إذ دخل عليه رجل طوال آدم .
فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله "صلى الله عليه وآله" رجل من محّبيك ومحبي آبائك وأجدادك مصدري الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله عليّ نعمة فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة.
فقال له: اجلس رحمك الله و أقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة و أنا فقال: أتأذنون لي في الدخول ؟
فقال له سليمان: قدم الله أمرك
فقام ودخل الحجرة و بقي ساعة ثم خرج ورد الباب و أخرج يده من أعلى الباب
وقال: أين الخرساني ؟
فقال: ها أنا ذا .
فقال: خذ هذه المائتي دينار فاستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تصدق بها عني واخرج فلا أراك ولا تراني ثم خرج فقال له سليمان الجعفري: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه ؟
فقال: مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته أما سمعت حديث رسول الله "صلى الله عليه وآله": المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له أما سمعت قول الأول
متى آته يوماً أطالب حاجة *** رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه
*عن الحارث الهمداني قال: سامرت أمير المؤمنين فقلت: يا أمير المؤمنين عرضت لي حاجة .
قال: ورأيتني لها أهلاً ؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: جزاك الله عني خيراً .
ثم قام إلى السراج فأغشاها وجلس, ثم قال: إنما أغشيت السراج لئلا أرى ذل حاجتك في وجهك فتكلم فإني سمعت رسول الله "صلى الله عليه وآله" يقول: الحوائج أمانة من الله في صدور العباد فمن كتمها كتب له عبادة ومن أفشاها كان حقاً على من سمعها أن يعينه.
لا إسراف في صدقة ولا قلة فيها:
ومهما اكثرت من الصدقة فهو مستحب فإن المال مال الله ما انفقت من فإنه يقع بأيدي عباد الله ويُصرف في حاجاتهم كما أن المرء يجب أن لا يستصغر ما يتصدق به مهما كان قليلاً أو حقيراً .
*في وصية رسول الله "صلى الله عليه وآله" لعلي: أوصيك في نفسك بخصال احفظها عني ثم قال: اللهم أعنه (إلى أن قال): وأما الصدقة فجهدك جهدك حتى تقول: قد اسرفت ولم تسرف .
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" : تصدقوا ولو بصاع من تمر ولو ببعض صاع ولو بقبضة, ولو بتمرة, ولو بشق تمرة, فمن لم يجد فبكلمة طيبة فإن أحدكم لاقي الله فقائل له: ألم أفعل بك؟ ألم أجعلك سميعاً بصيراً ؟ ألم أجعل لك مالاً وولداً ؟ ..
فيقول: بلى .
فيقول الله تبارك وتعالى: فانظر ما قدمت لنفسك .
قال: فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يجد شيئاً يقي به وجهه من النار .
الصدقة بأطيب المال وأحبه:
وينبغي أن تكون الصدقة من المكاسب المحللة الطيبة لصاحبها ولا يجوز أن تكون من الأموال المحرمة المأخوذة من السرقة والخيانة والاحتيال وغيرها من الوسائل غير المشروعة فإن صاحبها يأثم في دفعها كما أثم في أخذها ...
وكذلك ينبغي أن يتصدق بأفضل ما يحب ويرغب ليقع ممتثلاً لأمر الله بالإنفاق بأفضل ما يحب ...
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" في قوله عزّ وجلّ: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) .
فقال: كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم فيتصدقوا بها فأبى الله عزّ وجلّ أن يخرجوا إلا من أطيب ما كسبوا .
*كان أبو الحسن الرضا "عليه السلام" إذا أكل أتي بصحفة فتوضع بقرب مائدته فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئاً فيضع في تلك الصحفة ثم يأمر بها إلى المساكين ثم يتلو هذه الآية: (فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ) ثم قال: علم الله عز وجل أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة.
أن تكون سراً وليلاً:
وإذا كانت الصدقة مستحبة فمن آدابها أن تكون سراً فإنها تحفظ على المرء كرامته وتصون وجهه عن الذل, فإن الناس إذا عرفت بحاجة إنسان ربما احتقرته و ازدرته ونظرت إليه بعين غير طبيعية وهي في الليل أفضل لأن أعين الرقباء نائمة وتتخلص من كثير من موارد الرياء التي يمكن أن تحدث في وضح النهار ...
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" : صدقة السر تطفي غضب الرب تبارك تعالى.
*عن أبي جعفر "عليه السلام" قال: البرّ وصدقة السر ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان سبعين ميتة سوء .
*وعن علي بن الحسين "عليهما السلام": صدقة الليل تطفي غضب الرب.
*وعن أبي عبدالله "عليه السلام": الصدقة بالليل تدفع ميتة السوء وتدفع سبعين نوعاً من البلاء.
استحباب التبكير بها وافتتاح النهار بها وختمه:
وينبغي أن تكون الصدقة في وقت متقدم من النهار فإن آثارها تظهر بدفع المهلكات والمصيبات وتجلب الأرزاق والخيرات وكذلك ينبغي إن أمكن أن يتصدق مساء فيدفع سوء الليل وطوارقه .
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله": بكّروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها .
*عن الصادق "عليه السلام" قال: باكروا بالصدقة فإن البلايا لا تتخطاها ومن تصدق بصدقة أول النهار دفع الله عنه شر ما ينزل من السماء في ذلك اليوم فإن تصدق أول الليل دفع الله عنه شر ما ينزل من السماء في تلك الليلة.
والصدقة على كل مخلوق وتتأكد على المؤمن:
والصدقة جائزة – يترتب أثرها من الأجر و الثواب – على كل مخلوق حتى لو كان مخالفاً أو معانداً للحق بل لو كان غير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم وكذلك يُثاب المرء إذا أجرى صدقته على الحيوانات .. وهذا منتهى الرحمة الإسلامية التي تشمل كل مخلوقات الله ...
*قال أبو عبدالله "عليه السلام" : ليس شيء أثقل على الشيطان من الصدقة على المؤمن وهي تقع في يد الرب تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد العبد .
*وعن أبي جعفر "عليه السلام" : أن الله تبارك وتعالى يحب إبراد الكبد الحرى, ومن سقى كبداً حرى من بهيمة وغيرها أظله الله يوم لا ظل إلا ظله .
استحبابها على ذي الرحم:
وتتأكد الصدقة في حق الرحم فإن للمتصدق على رحمه أجر كبير فقد دعا الإسلام إلى صلة الرحم وتمتين روابط هذه العلاقة الحميمة ..
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله": الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر وصلة الإخوان بعشرين وصلة الرحم بأربعة وعشرين ...
*وفي حديث عن العالم "عليه السلام": لا يقبل الله الصدقة وذو رحم محتاج ...
استحبابها في الأوقات الشريفة:
وينبغي للمتصدق أن يلاحظ أشرف الأوقات وأفضل المناسبات فيغتنمها فرصة سائحة للصدقة فإن للزمان خواص كما للأمكنة والناس, فهناك رجال اختارهم الله سفراء وحيه وحملة رسالته وهناك أزمنة مقدسة رفع الله شأنها وأوجب احترامها كشهر رمضان وليلة القدر والنصف من شعبان وأيام الأعياد فإنها أوقات ينبغي للمؤمن أن يحافظ على قدسيتها ويستغنمها فرصة لصدقته ويحذر أن تمر عليه دون أن يبادر إلى الصدقة.
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" قال: من تصدق في شهر رمضان بصدقة صرف الله عنه سبعين نوعاً من أنواع البلاء .
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" قال: كان أبي أقل أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤنة. قال: وكان يتصدق كل يوم جمعة بدينار وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل الجمعة على غيره من الأيام .
*كان أبو جعفر الباقر "عليه السلام" إذا كان يوم عرفة لم يرد سائلاً.
وتستحب الصدقة عن المريض:
وهذا مورد تستحب فيه الصدقة فإذا كنت مريضاً فتصدق عن نفسك كما يصح أن تتصدق عن غيرك من المرضى بقصد الشفاء .
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" قال: داووا مرضاكم بالصدقة وينبغي أن تكون الصدقة بيد المريض.
*قال الصادق "عليه السلام": يستحب للمريض أن يعطي السائل بيده ويؤمر السائل أن يدعو له.
بل تستحب عند توقع البلاء وترقب المصيبة فلعلها تكون رافعة لها قبل نزولها .
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله": إن الله لا إله إلا هو ليدفع بالصدقة الداء والدبيلة (1) والحرق والغرق والهدم والجنون وعد سبعين باباً من السوء .
وتعدد الوسائط في إيصالها أفضل:
وإذا انتقلت الصدقة من يد إلى يد وهكذا – ما عدا المريض – فإنه أفضل لأن من انتقلت إلى يده قد يندفع ليضع معها شيئاً فتزداد مضافاً إلى أن هذه الواسطة تدخل تحت قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) والوسائط جميعها تثاب دون أن ينقص من ثواب المتصدق شيئاً وبذلك يؤجر الجميع ويثابون .
*عن أبي عبدالله "عليه السلام": لو جرى المعروف على ثمانين كفاً لأوجروا كلهم من غير أن ينقص صاحبه من أجره شيئاً .
*عن أبي جعفر "عليه السلام" قال: المعطون ثلاثة: الله المعطي, والمعطي من ماله, والساعي في ذلك معطٍ.
لا يُرَّد السائل:
وهذه قاعدة أدبية للتعامل مع السائلين (أكرم السائل ببذل يسير أو برد جميل) فإن كل سائل له حق على المسؤول فلا يرد رداً قبيحاً مهما كانت شخصيته ونوعه بل يعطى ما يتيسر فإن لم يملك شيئاً يتصدق بالرد الجميل وهذا هو أرفع أدب وأعظمه وكم نجد الفرق بين هذا الرد الذي يتضمن المواساة والرد إلى الله والدعاء للسائل بأن يعطيه الله, وبين أن يصرخ في وجهه ويصيح كما يقوم به بعض الناس ...
*قال أبو جعفر "عليه السلام": اعط السائل ولو كان على ظهر فرس .
يتبع
والصدقة مستحبة لما فيها – كما قلنا – من نفي للبخل فإن الشيطان يبسط ظله على المعطي ويسول له كي يمنعه من العطاء ويعده الفقر إن هو أخرج قسماً من ماله للمحتاجين وتبتدئ جنوده في عملية تزيين للدرهم وقيمته وكل منا نازعته نفسه يوماً ما وتردد في أن يعطي ويمنع, فيمدّ يده ليخرج صدقه و إذا به يتأخر ويتباطأ, إنه في تلك اللحظة يدخل إبليس بوساوسه وتزيناته وهنا يحتاج الإنسان إلى نوع من الرجوع إلى الله كي يطرد إبليس ويدحره من نفسه وفكره و عمله وليتذكر قول الإمام علي بن الحسين: إني لأستحي من ربي أني أرى الأخ من أخواني فاسأل الله له الجنة و أبخل عليه بالدينار والدرهم, فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة لك لكنت بها أبخل و أبخل وأبخل ...
وهذه الصدقة المستحبة وردت الأحاديث الكثيرة في الحثّ عليها والترغيب فيها ومدح معطيها ...
*عن أبي جعفر "عليه السلام" قال: قال علي بن أبي طالب "عليه السلام": تصدقت يوماً بدينار فقال لي رسول الله "صلى الله عليه وآله": أما علمت يا علي أن صدقة المؤمن لا تخرج من يده حتى يفك عنها من لحى سبعين شيطاناً كلهم يأمره بأن لا يفعل, و ما تقع في يد السائل حتى تقع في يد الرب جل جلاله ثم تلا هذه الآية: (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) .
*وعن أبي جعفر "عليه السلام" قال: البر و الصدقة ينفيان الفقر و يزيدان في العمر ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء .
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" : داووا مرضاكم بالصدقة .
العطاء قبل السؤال:
يريد الإسلام للناس أن يصونوا كرامة بعضهم ويحفظوا ماء وجوههم, ولا يريد أن يبذل الفرد أغلى ما عنده مقابل ما تعطيه فلذا رسم للمعطي أن يبتدئ هو بنفسه في العطاء ولا ينتظر من المحتاج أن يمد إليه يده ويستجديه حتى تمتد يده بالعطاء ...
عندما يمد يده إليك ينتفي المعروف ويصبح العطاء مقابل ما يبذله من كرامته هكذا تقول الأحاديث وتدفع القادرين إلى أخذ زمام المبادرة في العطاء ...
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" قال: المعروف ابتداء فأما من أعطيته بعد المسألة فإنما كافيته بما بذل لك من وجهه, يبيت ليلته أرقاً متململاً يتمثل بين الرجاء و اليأس لا يدري أين يتوجه لحاجته ثم يعزم بالقصد لها فيأتيك وقلبه يرتجف وفرائصه ترتعد, قد ترى دمه في وجهه لا يدري أيرجع بكآبة أم بفرح.
*عن أمير المؤمنين قال: السخاء ما كان ابتداء فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم.
والاستتار عند العطاء:
وزيادة في التحفظ على كرامة الناس وصوناً لعزتهم ينبغي إن أمكن أن يكون العطاء عندما تمد يدك إليه أن لا يراك ولا تراه لئلا تقع العينان فيخجل الآخذ ويتصبب عرقاً وتستنفر أوداجه ويحمر وجهه وتصيبه حرارة شديدة ويرتفع ضغطه بل أعمل جميع الوسائل لإيصالها دون أن يراك .
وهكذا كانت سيرة الأئمة من أهل البيت "عليهم السلام" ..
*عن اليسع بن حمزة قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرضا "عليه السلام" أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام إذ دخل عليه رجل طوال آدم .
فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله "صلى الله عليه وآله" رجل من محّبيك ومحبي آبائك وأجدادك مصدري الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله عليّ نعمة فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة.
فقال له: اجلس رحمك الله و أقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة و أنا فقال: أتأذنون لي في الدخول ؟
فقال له سليمان: قدم الله أمرك
فقام ودخل الحجرة و بقي ساعة ثم خرج ورد الباب و أخرج يده من أعلى الباب
وقال: أين الخرساني ؟
فقال: ها أنا ذا .
فقال: خذ هذه المائتي دينار فاستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تصدق بها عني واخرج فلا أراك ولا تراني ثم خرج فقال له سليمان الجعفري: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه ؟
فقال: مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته أما سمعت حديث رسول الله "صلى الله عليه وآله": المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له أما سمعت قول الأول
متى آته يوماً أطالب حاجة *** رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه
*عن الحارث الهمداني قال: سامرت أمير المؤمنين فقلت: يا أمير المؤمنين عرضت لي حاجة .
قال: ورأيتني لها أهلاً ؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: جزاك الله عني خيراً .
ثم قام إلى السراج فأغشاها وجلس, ثم قال: إنما أغشيت السراج لئلا أرى ذل حاجتك في وجهك فتكلم فإني سمعت رسول الله "صلى الله عليه وآله" يقول: الحوائج أمانة من الله في صدور العباد فمن كتمها كتب له عبادة ومن أفشاها كان حقاً على من سمعها أن يعينه.
لا إسراف في صدقة ولا قلة فيها:
ومهما اكثرت من الصدقة فهو مستحب فإن المال مال الله ما انفقت من فإنه يقع بأيدي عباد الله ويُصرف في حاجاتهم كما أن المرء يجب أن لا يستصغر ما يتصدق به مهما كان قليلاً أو حقيراً .
*في وصية رسول الله "صلى الله عليه وآله" لعلي: أوصيك في نفسك بخصال احفظها عني ثم قال: اللهم أعنه (إلى أن قال): وأما الصدقة فجهدك جهدك حتى تقول: قد اسرفت ولم تسرف .
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" : تصدقوا ولو بصاع من تمر ولو ببعض صاع ولو بقبضة, ولو بتمرة, ولو بشق تمرة, فمن لم يجد فبكلمة طيبة فإن أحدكم لاقي الله فقائل له: ألم أفعل بك؟ ألم أجعلك سميعاً بصيراً ؟ ألم أجعل لك مالاً وولداً ؟ ..
فيقول: بلى .
فيقول الله تبارك وتعالى: فانظر ما قدمت لنفسك .
قال: فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يجد شيئاً يقي به وجهه من النار .
الصدقة بأطيب المال وأحبه:
وينبغي أن تكون الصدقة من المكاسب المحللة الطيبة لصاحبها ولا يجوز أن تكون من الأموال المحرمة المأخوذة من السرقة والخيانة والاحتيال وغيرها من الوسائل غير المشروعة فإن صاحبها يأثم في دفعها كما أثم في أخذها ...
وكذلك ينبغي أن يتصدق بأفضل ما يحب ويرغب ليقع ممتثلاً لأمر الله بالإنفاق بأفضل ما يحب ...
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" في قوله عزّ وجلّ: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) .
فقال: كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم فيتصدقوا بها فأبى الله عزّ وجلّ أن يخرجوا إلا من أطيب ما كسبوا .
*كان أبو الحسن الرضا "عليه السلام" إذا أكل أتي بصحفة فتوضع بقرب مائدته فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئاً فيضع في تلك الصحفة ثم يأمر بها إلى المساكين ثم يتلو هذه الآية: (فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ) ثم قال: علم الله عز وجل أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة.
أن تكون سراً وليلاً:
وإذا كانت الصدقة مستحبة فمن آدابها أن تكون سراً فإنها تحفظ على المرء كرامته وتصون وجهه عن الذل, فإن الناس إذا عرفت بحاجة إنسان ربما احتقرته و ازدرته ونظرت إليه بعين غير طبيعية وهي في الليل أفضل لأن أعين الرقباء نائمة وتتخلص من كثير من موارد الرياء التي يمكن أن تحدث في وضح النهار ...
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" : صدقة السر تطفي غضب الرب تبارك تعالى.
*عن أبي جعفر "عليه السلام" قال: البرّ وصدقة السر ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان سبعين ميتة سوء .
*وعن علي بن الحسين "عليهما السلام": صدقة الليل تطفي غضب الرب.
*وعن أبي عبدالله "عليه السلام": الصدقة بالليل تدفع ميتة السوء وتدفع سبعين نوعاً من البلاء.
استحباب التبكير بها وافتتاح النهار بها وختمه:
وينبغي أن تكون الصدقة في وقت متقدم من النهار فإن آثارها تظهر بدفع المهلكات والمصيبات وتجلب الأرزاق والخيرات وكذلك ينبغي إن أمكن أن يتصدق مساء فيدفع سوء الليل وطوارقه .
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله": بكّروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها .
*عن الصادق "عليه السلام" قال: باكروا بالصدقة فإن البلايا لا تتخطاها ومن تصدق بصدقة أول النهار دفع الله عنه شر ما ينزل من السماء في ذلك اليوم فإن تصدق أول الليل دفع الله عنه شر ما ينزل من السماء في تلك الليلة.
والصدقة على كل مخلوق وتتأكد على المؤمن:
والصدقة جائزة – يترتب أثرها من الأجر و الثواب – على كل مخلوق حتى لو كان مخالفاً أو معانداً للحق بل لو كان غير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم وكذلك يُثاب المرء إذا أجرى صدقته على الحيوانات .. وهذا منتهى الرحمة الإسلامية التي تشمل كل مخلوقات الله ...
*قال أبو عبدالله "عليه السلام" : ليس شيء أثقل على الشيطان من الصدقة على المؤمن وهي تقع في يد الرب تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد العبد .
*وعن أبي جعفر "عليه السلام" : أن الله تبارك وتعالى يحب إبراد الكبد الحرى, ومن سقى كبداً حرى من بهيمة وغيرها أظله الله يوم لا ظل إلا ظله .
استحبابها على ذي الرحم:
وتتأكد الصدقة في حق الرحم فإن للمتصدق على رحمه أجر كبير فقد دعا الإسلام إلى صلة الرحم وتمتين روابط هذه العلاقة الحميمة ..
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله": الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر وصلة الإخوان بعشرين وصلة الرحم بأربعة وعشرين ...
*وفي حديث عن العالم "عليه السلام": لا يقبل الله الصدقة وذو رحم محتاج ...
استحبابها في الأوقات الشريفة:
وينبغي للمتصدق أن يلاحظ أشرف الأوقات وأفضل المناسبات فيغتنمها فرصة سائحة للصدقة فإن للزمان خواص كما للأمكنة والناس, فهناك رجال اختارهم الله سفراء وحيه وحملة رسالته وهناك أزمنة مقدسة رفع الله شأنها وأوجب احترامها كشهر رمضان وليلة القدر والنصف من شعبان وأيام الأعياد فإنها أوقات ينبغي للمؤمن أن يحافظ على قدسيتها ويستغنمها فرصة لصدقته ويحذر أن تمر عليه دون أن يبادر إلى الصدقة.
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" قال: من تصدق في شهر رمضان بصدقة صرف الله عنه سبعين نوعاً من أنواع البلاء .
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" قال: كان أبي أقل أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤنة. قال: وكان يتصدق كل يوم جمعة بدينار وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل الجمعة على غيره من الأيام .
*كان أبو جعفر الباقر "عليه السلام" إذا كان يوم عرفة لم يرد سائلاً.
وتستحب الصدقة عن المريض:
وهذا مورد تستحب فيه الصدقة فإذا كنت مريضاً فتصدق عن نفسك كما يصح أن تتصدق عن غيرك من المرضى بقصد الشفاء .
*عن أبي عبدالله "عليه السلام" قال: داووا مرضاكم بالصدقة وينبغي أن تكون الصدقة بيد المريض.
*قال الصادق "عليه السلام": يستحب للمريض أن يعطي السائل بيده ويؤمر السائل أن يدعو له.
بل تستحب عند توقع البلاء وترقب المصيبة فلعلها تكون رافعة لها قبل نزولها .
*قال رسول الله "صلى الله عليه وآله": إن الله لا إله إلا هو ليدفع بالصدقة الداء والدبيلة (1) والحرق والغرق والهدم والجنون وعد سبعين باباً من السوء .
وتعدد الوسائط في إيصالها أفضل:
وإذا انتقلت الصدقة من يد إلى يد وهكذا – ما عدا المريض – فإنه أفضل لأن من انتقلت إلى يده قد يندفع ليضع معها شيئاً فتزداد مضافاً إلى أن هذه الواسطة تدخل تحت قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) والوسائط جميعها تثاب دون أن ينقص من ثواب المتصدق شيئاً وبذلك يؤجر الجميع ويثابون .
*عن أبي عبدالله "عليه السلام": لو جرى المعروف على ثمانين كفاً لأوجروا كلهم من غير أن ينقص صاحبه من أجره شيئاً .
*عن أبي جعفر "عليه السلام" قال: المعطون ثلاثة: الله المعطي, والمعطي من ماله, والساعي في ذلك معطٍ.
لا يُرَّد السائل:
وهذه قاعدة أدبية للتعامل مع السائلين (أكرم السائل ببذل يسير أو برد جميل) فإن كل سائل له حق على المسؤول فلا يرد رداً قبيحاً مهما كانت شخصيته ونوعه بل يعطى ما يتيسر فإن لم يملك شيئاً يتصدق بالرد الجميل وهذا هو أرفع أدب وأعظمه وكم نجد الفرق بين هذا الرد الذي يتضمن المواساة والرد إلى الله والدعاء للسائل بأن يعطيه الله, وبين أن يصرخ في وجهه ويصيح كما يقوم به بعض الناس ...
*قال أبو جعفر "عليه السلام": اعط السائل ولو كان على ظهر فرس .
يتبع
تعليق