مناظرة الإمام الكاظم ( عليه السلام ) مع هارون الرشيد في أنّهم ورثة النبي (ص) وأولاده
قال الشيخ الطبرسي عليه الرحمة : وحدث أبو أحمد هاني بن محمد العبدي، قال : حدّثني أبو محمد ، رفعه إلى موسى بن جعفر عليهما السلام قال : لما أدخلت على الرشيد سلمت عليه فرد عليَّ السلام ثمّ قال : يا موسى بن جعفر ، خليفتان يُجبى إليهما الخراج ؟
فقلت : يا أمير المؤمنين ! أُعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك ، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا ، فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ، كما علم ذلك عندك ، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله أن تأذن لي أُحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
فقال : قد أذنت لك .
فقلت : أخبرني أبي عن آبائه عن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال : إنّ الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت ، فناولني يدك جعلني الله فداك .
قال : ادن مني ! فدنوت منه ، فأخذ بيدي ثمّ جذبني إلى نفسه وعانقني طويلاً ثمّ تركني وقال : اجلس يا موسى ! فليس عليك بأس ، فنظرت إليه فإذا به قد دمعت عيناه ، فرجعت إليَّ نفسي ، فقال : صدقت وصدق جدّك صلى الله عليه وآله لقد تحرك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت عليَّ الرقة وفاضت عيناي ، وأنا أريد أن اسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين ، لم أسأل عنها أحداً ، فإن أنت أجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك ، وقد بلغني عنك أنّك لم تكذب قطّ ، فأصدقني فيما أسألك ممّا في قلبي .
فقلت : ما كان علمه عندي فإني مخبرك به إن أنت أمنتني .
قال : لك الاَمان إن أصدقتني ، وتركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.
فقلت : ليسأل أمير المؤمنين عمّا يشاء .
قال : أخبرني لِمَ فُضّلتم علينا ، ونحن وأنتم من شجرة واحدة ، وبنو عبد المطّلب ونحن وأنت واحد ، إنّا بنو عبّاس وأنتم ولد أبي طالب ، وهما عمّا رسول الله صلى الله عليه وآله وقرابتهما منه سواء ؟
فقلت : نحن أقرب .
قال : وكيف ذلك ؟
قلت : لاَنّ عبدالله وأبا طالب لاَب واُمّ ، وأبوكم العباس ليس هو من اُم عبدالله ولا من اُمّ أبي طالب .
قال : فلم ادّعيتم أنّكم ورثتم النبي صلى الله عليه وآله والعم يحجب ابن العم (1) وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمّه حي ؟
فقلت له : إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة ، ويسألني عن كل باب سواه يريده .
فقال : لا ، أو تجيب .
فقلت : فآمني .
قال : قد آمنتك قبل الكلام .
فقلت : إنَّ في قول عليّ بن أبي طالب عليه السلام : إنّه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو اُنثى لاَحد سهم إلاّ الاَبوين والزوج والزوجة ، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث ، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنّة ، إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني اُميّة قالوا : العم والدٌ ، رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومن قال بقول علي عليه السلام من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء ، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي عليه السلام ، وقد حكم به ، وقد ولاّه أمير المؤمنين فأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله ، منهم : سفيان الثوري ، وإبراهيم المدني ، والفضيل بن عياض ، فشهدوا أنّه قول علي عليه السلام في هذه المسألة ، فقال لهم فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز : لم لا تفتون وقد قضى به نوح بن دراج ؟
فقالوا : جسر وجبنّا ، وقد أمضى أمير المؤمنين عليه السلام قضيته بقول قدماء العامة عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال : أقضاكم علي (2) وكذلك عمر بن الخطاب قال : عليّ أقضانا (3) وهو اسم جامع ، لاَنّ جميع ما مدح به النبي صلى الله عليه وآله أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء .
قال : زدني يا موسى !
قلت : المجالس بالاَمانات وخاصة مجلسك ؟
فقال : لا بأس به .
فقلت : إنَّ النبي صلى الله عليه وآله لم يورث من لم يهاجر ، ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر.
فقال : ما حجّتك فيه ؟
قلت : قول الله تبارك وتعالى : ( وَالّذين آمنُوا وَلَم يُهاجِرُوا ما لَكُم مِنْ ولايَتِهِم مِن شيءٍ حتى يُهاجِرُوا ) (4) وإنّ عمّي العباس لم يهاجر .
فقال لي : إنّي أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا ، أم أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشيء ؟
فقلت : اللّهم لا ، وما سألني عنها إلاّ أمير المؤمنين .
ثمّ قال لي : لِمَ جوّزتم للعامّة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ويقولوا لكم : يا بني رسول الله ! وأنتم بنو علي ، وإنّما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنّما هي وعاء ، والنبي صلى الله عليه وآله جدّكم من قبل اُمّكم؟ (5)
فقلت : يا أمير المؤمنين ! لو أنَّ النبي صلى الله عليه وآله نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه ؟
فقال : سبحان الله ! ولِمَ لا اُجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك .
فقلت له : لكنّه لا يخطب إليَّ ولا أُزوجه .
فقال : ولِمَ ؟
فقلت : لاَنّه ولدني ولم يلدك . (6)
فقال : أحسنت يا موسى ! ثمّ قال : كيف قلتم إنّا ذرّية النبي صلى الله عليه وآله والنبي لم يعقب ، وإنّما العقب للذكر لا للاُنثى ، وأنت ولد الابنة ولا يكون لها عقب له .
قلت : أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه ، إلاّ أعفيتني عن هذه المسألة .
فقال : لا ، أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي ! وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم ، كذا اُنهي إليَّ ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله ، وأنتم تدعون معشر ولد عليّ أنّه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلاّ تأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ : ( ما فَرَّطنا في الكتاب مِن شيءٍ ) (7) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم .
فقلت : تأذن لي في الجواب ؟
قال : هات .
فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ( وَمِن ذُريَّتهِ داوُد وسُليمان وأيُّوبَ وَموسى وَهارُون وَكذلِكَ نَجزِي المُحسنينَ وَزَكريا وَيحيى وَعيسى وإلياس كُلُّ مِنَ الصالحينَ ) (8) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟
فقال : ليس لعيسى أب .
فقلت : إنّما ألحقناه بذراري الاَنبياء : من طريق مريم عليها السلام ، وكذلك اُلحقنا بذراري النبي عليهم السلام من قبل اُمنا فاطمة عليها السلام ، أزيدك يا أمير المؤمنين ؟
قال : هات .
قلت : قول الله عزّ وجلّ : ( فَمن حاجَّكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العلم فقُل تَعالُوا نَدعُ أبناءَنا وَأَبناءَكُم وَنِساءَنا وَنِساءَكُم وَأَنفُسنا وأنفُسكُم ثُمَّ نَبتَهِلُ فَنجعل لَعنةَ اللهِ عَلى الكاذبين ) (9) ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبي صلى الله عليه وآله تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلاّ علي بن أبي طالب ، وفاطمة ، والحسن والحسين ، فأبناءنا الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة ، وأنفسنا عليّ بن أبي طالب: ، على أنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرئيل قال يوم أحد : يا محمد ! إنَّ هذه لهي المواساة من علي قال : لاَنّه مني وأنا منه .
فقال جبرئيل : «وأنا منكما يا رسول الله» ثمّ قال :
لا سيف إلاّ ذو الفقار *** ولا فتى إلاّ علي (10)
فكان كما مدح الله عزّ وجلّ به خليله عليه السلام إذ يقول : ( قالُوا سَمِعنا فَتىً يَذكُرُهُم يُقال لَهُ إبراهيمُ ) (11) إنّا نفتخر بقول جبرئيل أنّه منّا .
فقال : أحسنت يا موسى ! إرفع إلينا حوائجك .
فقلت له : إنَّ أول حاجة لي أن تأذن لابن عمّك أن يرجع إلى حرم جده صلى الله عليه وآله وإلى عياله .
فقال : ننظر إن شاء الله. (12)
وروي أنه لما حج الرشيد ونزل في المدينة ، اجتمع إليه بنو هاشم وبقايا المهاجرين والاَنصار ووجوه الناس ، وكان في الناس الاِمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام .
فقال لهم الرشيد : قوموا إلى زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : ثمّ نهض معتمداً على يد أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام حتى انتهى إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله فوقف ثمّ قال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا بن عم ، افتخاراً ! على قبائل العرب الذين حضروا معه ، واستطالةً عليهم بالنسب ؟!
قال : فنزع أبو الحسن موسى عليه السلام يده من يده ثمّ تقدم ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبة .
قال : فتغيّر لون الرشيد ثمّ قال : يا أبا الحسن ، إن هذا لهو الفخر الجسيم. (13)
____________
(1) أقول : طالما أخذ بنو العباس أمثال هذه الدعاوى دليلاً على أولوية العباس ـ بميراث النبي صلى الله عليه وآله وخلافته ـ من أمير المؤمنين باعتبار أن العم أقرب من ابن العم وقد أغفلوا وتناسوا ابنته فاطمة عليها السلام التي تحجب العم ، وراحوا يضللون الناس بدعاواهم المزيفة ليعموا الناس عن الحقيقة ، مُسخّرين في ذلك الشعراء المرتزقة ذلك الاَعلام المضلل الزائغ عن الحق ، فضمنوا ذلك في الاَشعار محتجّين بآية : (وأولوا الاَرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) الاَنفال| 75 ، ومن أولئك الشعراء الذين استخدموهم في ذلك مروان بن أبي حفصة الذي لم يذخر وسعاً في هجاء الطالبيين ومقدّساتهم وذمّ محبّيهم ، فأخذ ينفث حقده الدفين عليهم متبجّحاً بدعاواه الباطلة ، مردداً :
أنى يكون وليس ذاك بكائن * لبني البنات وراثة الاَعمام
(راجع : تاريخ بغداد : ج 13 ص 143 ، الاَغاني للاَصفهاني : ج 10 ص 94 .)
ليغيض به رسول الله صلى الله عليه وآله في ذرّيته بدل أن يتقرب إليه بحبّهم ومدحهم ، لم يبق شيء لم يفعلوه تجاه ذريته ـ كأنه لم يوص بهم ولم يكن أبوهم ـ فراحوا قتلاً وتشريداً وحبساً في السجون والمطامير ، ولم يبق سوى إنكار نسبتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وقد فعلوها .
والجدير بالذكر هنا هو ما روي عن عبد العظيم بن عبدالله الحسني رضي الله عنه عن عبدالسلام بن صالح الهروي ، قال : حدّثني معمّر بن خلاد وجماعة ، قالوا: دخلنا على الرضا عليه السلام ، فقال له بعضنا : جعلنا الله فداك ! ما لي أراك متغيّر الوجه؟! فقال عليه السلام : إني بقيت ليلتي ساهراً متفكّراً في قول مروان بن أبي حفصة :
أنَّى يكونُ وليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الاَعمام
ثمّ نمت فإذا أنا بقائل قد أخذ بعضادة الباب وهو يقول :
أنَّــى يكونُ وليس ذاك بكائن*** للمشـــركين دعائم الاِسلام
لبني البنات نصيبهم من جدهم*** والعـــم متروك بغير سهام
ما للطليــق وللتراث ؟ وإنّما*** سجد الطليق مخافة الصمصام
قد كان أخبـرك القرآن بفضله*** فمضى القضـاء بهمن الحكام
إنَّ ابن فاطمة المنــوه بأسمه*** حاز الوراثة عن بني الاَعمام
وبقي ابن نثلة واقفاً متــردداً*** يبكي ويسعده ذووا الاَرحـام
قال الشيخ الطبرسي عليه الرحمة : وحدث أبو أحمد هاني بن محمد العبدي، قال : حدّثني أبو محمد ، رفعه إلى موسى بن جعفر عليهما السلام قال : لما أدخلت على الرشيد سلمت عليه فرد عليَّ السلام ثمّ قال : يا موسى بن جعفر ، خليفتان يُجبى إليهما الخراج ؟
فقلت : يا أمير المؤمنين ! أُعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك ، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا ، فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ، كما علم ذلك عندك ، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله أن تأذن لي أُحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
فقال : قد أذنت لك .
فقلت : أخبرني أبي عن آبائه عن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال : إنّ الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت ، فناولني يدك جعلني الله فداك .
قال : ادن مني ! فدنوت منه ، فأخذ بيدي ثمّ جذبني إلى نفسه وعانقني طويلاً ثمّ تركني وقال : اجلس يا موسى ! فليس عليك بأس ، فنظرت إليه فإذا به قد دمعت عيناه ، فرجعت إليَّ نفسي ، فقال : صدقت وصدق جدّك صلى الله عليه وآله لقد تحرك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت عليَّ الرقة وفاضت عيناي ، وأنا أريد أن اسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين ، لم أسأل عنها أحداً ، فإن أنت أجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك ، وقد بلغني عنك أنّك لم تكذب قطّ ، فأصدقني فيما أسألك ممّا في قلبي .
فقلت : ما كان علمه عندي فإني مخبرك به إن أنت أمنتني .
قال : لك الاَمان إن أصدقتني ، وتركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.
فقلت : ليسأل أمير المؤمنين عمّا يشاء .
قال : أخبرني لِمَ فُضّلتم علينا ، ونحن وأنتم من شجرة واحدة ، وبنو عبد المطّلب ونحن وأنت واحد ، إنّا بنو عبّاس وأنتم ولد أبي طالب ، وهما عمّا رسول الله صلى الله عليه وآله وقرابتهما منه سواء ؟
فقلت : نحن أقرب .
قال : وكيف ذلك ؟
قلت : لاَنّ عبدالله وأبا طالب لاَب واُمّ ، وأبوكم العباس ليس هو من اُم عبدالله ولا من اُمّ أبي طالب .
قال : فلم ادّعيتم أنّكم ورثتم النبي صلى الله عليه وآله والعم يحجب ابن العم (1) وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمّه حي ؟
فقلت له : إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة ، ويسألني عن كل باب سواه يريده .
فقال : لا ، أو تجيب .
فقلت : فآمني .
قال : قد آمنتك قبل الكلام .
فقلت : إنَّ في قول عليّ بن أبي طالب عليه السلام : إنّه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو اُنثى لاَحد سهم إلاّ الاَبوين والزوج والزوجة ، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث ، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنّة ، إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني اُميّة قالوا : العم والدٌ ، رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومن قال بقول علي عليه السلام من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء ، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي عليه السلام ، وقد حكم به ، وقد ولاّه أمير المؤمنين فأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله ، منهم : سفيان الثوري ، وإبراهيم المدني ، والفضيل بن عياض ، فشهدوا أنّه قول علي عليه السلام في هذه المسألة ، فقال لهم فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز : لم لا تفتون وقد قضى به نوح بن دراج ؟
فقالوا : جسر وجبنّا ، وقد أمضى أمير المؤمنين عليه السلام قضيته بقول قدماء العامة عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال : أقضاكم علي (2) وكذلك عمر بن الخطاب قال : عليّ أقضانا (3) وهو اسم جامع ، لاَنّ جميع ما مدح به النبي صلى الله عليه وآله أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء .
قال : زدني يا موسى !
قلت : المجالس بالاَمانات وخاصة مجلسك ؟
فقال : لا بأس به .
فقلت : إنَّ النبي صلى الله عليه وآله لم يورث من لم يهاجر ، ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر.
فقال : ما حجّتك فيه ؟
قلت : قول الله تبارك وتعالى : ( وَالّذين آمنُوا وَلَم يُهاجِرُوا ما لَكُم مِنْ ولايَتِهِم مِن شيءٍ حتى يُهاجِرُوا ) (4) وإنّ عمّي العباس لم يهاجر .
فقال لي : إنّي أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا ، أم أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشيء ؟
فقلت : اللّهم لا ، وما سألني عنها إلاّ أمير المؤمنين .
ثمّ قال لي : لِمَ جوّزتم للعامّة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ويقولوا لكم : يا بني رسول الله ! وأنتم بنو علي ، وإنّما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنّما هي وعاء ، والنبي صلى الله عليه وآله جدّكم من قبل اُمّكم؟ (5)
فقلت : يا أمير المؤمنين ! لو أنَّ النبي صلى الله عليه وآله نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه ؟
فقال : سبحان الله ! ولِمَ لا اُجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك .
فقلت له : لكنّه لا يخطب إليَّ ولا أُزوجه .
فقال : ولِمَ ؟
فقلت : لاَنّه ولدني ولم يلدك . (6)
فقال : أحسنت يا موسى ! ثمّ قال : كيف قلتم إنّا ذرّية النبي صلى الله عليه وآله والنبي لم يعقب ، وإنّما العقب للذكر لا للاُنثى ، وأنت ولد الابنة ولا يكون لها عقب له .
قلت : أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه ، إلاّ أعفيتني عن هذه المسألة .
فقال : لا ، أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي ! وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم ، كذا اُنهي إليَّ ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله ، وأنتم تدعون معشر ولد عليّ أنّه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلاّ تأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ : ( ما فَرَّطنا في الكتاب مِن شيءٍ ) (7) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم .
فقلت : تأذن لي في الجواب ؟
قال : هات .
فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ( وَمِن ذُريَّتهِ داوُد وسُليمان وأيُّوبَ وَموسى وَهارُون وَكذلِكَ نَجزِي المُحسنينَ وَزَكريا وَيحيى وَعيسى وإلياس كُلُّ مِنَ الصالحينَ ) (8) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟
فقال : ليس لعيسى أب .
فقلت : إنّما ألحقناه بذراري الاَنبياء : من طريق مريم عليها السلام ، وكذلك اُلحقنا بذراري النبي عليهم السلام من قبل اُمنا فاطمة عليها السلام ، أزيدك يا أمير المؤمنين ؟
قال : هات .
قلت : قول الله عزّ وجلّ : ( فَمن حاجَّكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العلم فقُل تَعالُوا نَدعُ أبناءَنا وَأَبناءَكُم وَنِساءَنا وَنِساءَكُم وَأَنفُسنا وأنفُسكُم ثُمَّ نَبتَهِلُ فَنجعل لَعنةَ اللهِ عَلى الكاذبين ) (9) ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبي صلى الله عليه وآله تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلاّ علي بن أبي طالب ، وفاطمة ، والحسن والحسين ، فأبناءنا الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة ، وأنفسنا عليّ بن أبي طالب: ، على أنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرئيل قال يوم أحد : يا محمد ! إنَّ هذه لهي المواساة من علي قال : لاَنّه مني وأنا منه .
فقال جبرئيل : «وأنا منكما يا رسول الله» ثمّ قال :
لا سيف إلاّ ذو الفقار *** ولا فتى إلاّ علي (10)
فكان كما مدح الله عزّ وجلّ به خليله عليه السلام إذ يقول : ( قالُوا سَمِعنا فَتىً يَذكُرُهُم يُقال لَهُ إبراهيمُ ) (11) إنّا نفتخر بقول جبرئيل أنّه منّا .
فقال : أحسنت يا موسى ! إرفع إلينا حوائجك .
فقلت له : إنَّ أول حاجة لي أن تأذن لابن عمّك أن يرجع إلى حرم جده صلى الله عليه وآله وإلى عياله .
فقال : ننظر إن شاء الله. (12)
وروي أنه لما حج الرشيد ونزل في المدينة ، اجتمع إليه بنو هاشم وبقايا المهاجرين والاَنصار ووجوه الناس ، وكان في الناس الاِمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام .
فقال لهم الرشيد : قوموا إلى زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : ثمّ نهض معتمداً على يد أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام حتى انتهى إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله فوقف ثمّ قال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا بن عم ، افتخاراً ! على قبائل العرب الذين حضروا معه ، واستطالةً عليهم بالنسب ؟!
قال : فنزع أبو الحسن موسى عليه السلام يده من يده ثمّ تقدم ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبة .
قال : فتغيّر لون الرشيد ثمّ قال : يا أبا الحسن ، إن هذا لهو الفخر الجسيم. (13)
____________
(1) أقول : طالما أخذ بنو العباس أمثال هذه الدعاوى دليلاً على أولوية العباس ـ بميراث النبي صلى الله عليه وآله وخلافته ـ من أمير المؤمنين باعتبار أن العم أقرب من ابن العم وقد أغفلوا وتناسوا ابنته فاطمة عليها السلام التي تحجب العم ، وراحوا يضللون الناس بدعاواهم المزيفة ليعموا الناس عن الحقيقة ، مُسخّرين في ذلك الشعراء المرتزقة ذلك الاَعلام المضلل الزائغ عن الحق ، فضمنوا ذلك في الاَشعار محتجّين بآية : (وأولوا الاَرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) الاَنفال| 75 ، ومن أولئك الشعراء الذين استخدموهم في ذلك مروان بن أبي حفصة الذي لم يذخر وسعاً في هجاء الطالبيين ومقدّساتهم وذمّ محبّيهم ، فأخذ ينفث حقده الدفين عليهم متبجّحاً بدعاواه الباطلة ، مردداً :
أنى يكون وليس ذاك بكائن * لبني البنات وراثة الاَعمام
(راجع : تاريخ بغداد : ج 13 ص 143 ، الاَغاني للاَصفهاني : ج 10 ص 94 .)
ليغيض به رسول الله صلى الله عليه وآله في ذرّيته بدل أن يتقرب إليه بحبّهم ومدحهم ، لم يبق شيء لم يفعلوه تجاه ذريته ـ كأنه لم يوص بهم ولم يكن أبوهم ـ فراحوا قتلاً وتشريداً وحبساً في السجون والمطامير ، ولم يبق سوى إنكار نسبتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وقد فعلوها .
والجدير بالذكر هنا هو ما روي عن عبد العظيم بن عبدالله الحسني رضي الله عنه عن عبدالسلام بن صالح الهروي ، قال : حدّثني معمّر بن خلاد وجماعة ، قالوا: دخلنا على الرضا عليه السلام ، فقال له بعضنا : جعلنا الله فداك ! ما لي أراك متغيّر الوجه؟! فقال عليه السلام : إني بقيت ليلتي ساهراً متفكّراً في قول مروان بن أبي حفصة :
أنَّى يكونُ وليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الاَعمام
ثمّ نمت فإذا أنا بقائل قد أخذ بعضادة الباب وهو يقول :
أنَّــى يكونُ وليس ذاك بكائن*** للمشـــركين دعائم الاِسلام
لبني البنات نصيبهم من جدهم*** والعـــم متروك بغير سهام
ما للطليــق وللتراث ؟ وإنّما*** سجد الطليق مخافة الصمصام
قد كان أخبـرك القرآن بفضله*** فمضى القضـاء بهمن الحكام
إنَّ ابن فاطمة المنــوه بأسمه*** حاز الوراثة عن بني الاَعمام
وبقي ابن نثلة واقفاً متــردداً*** يبكي ويسعده ذووا الاَرحـام
تعليق