آثار ومساوئ الأكل المحرّم
نحن قد تصيبنا في الحياة سيّئات ولا نعرف جذورها لأنّنا غافلون.. فربما ظلمنا إنساناً أو غصبناه حقّه وإن لم نكن منتبهين، فإنّ الآثار التكوينية للأعمال لا تغيّرها النوايا ولا الجهل بها، فهي تترك آثارها، سواء عَلِم الإنسان بها أم لم يعلم!
فلو أخذتَ حبّة شعير وتصوّرت أنّها حبّة قمح وبذرتها في التربة، فهل ستنبت حسب تصوّرك أم بحسب واقع الحبّة؟ لاشكّ أنّ النبت سيكون حسب واقع الحبّة. فمن يزرع قمحاً يحصد قمحاً ومن يزرع شوكاً لا يحصد إلاّ الشوك، وإن تصوّر أنّه كان غير ذلك !
شريك بن عبد الله بن سنان ألنخعي أحد علماء البلاط في العصر العباسي، كان يتصوّر نفسه عالِماً في قبال الإمام الصادق سلام الله عليه وكان يتظاهر بالعبادة والزهد والابتعاد عن الحكّام. وكان العباسيون يصرّون عليه أن يقترب منهم ولكنه كان يرفض.
في إحدى الأيام طلبه المهدي العباسي قائلاً: علَيَّ بشريك النخعي. ولما جاءوا به قال له: أعرضُ عليك ثلاثة أمور فإمّا أن تقبل بأحدها وإلاّ فمصيرك السجن! (وكانت هذه الأمور الثلاثة تصبّ كلّها في أمر واحد وهو أن يظهر النخعي أنه مرتبطاً بالنظام الحاكم)
وقال له المهدي: إن لم ترتبط بنا فسيقول الناس: "لا شكّ أنّ الحاكم غير جيّد، وإلاّ لم يقاطعه النخعي وهو عالِم معروف!" لذا عليك أن تختار واحداً من ثلاثة أشياء: إما أن تقبل القضاء أي تكون قاضياً لنا، أو تكون محدّثنا ومعلّم أولادنا، أو تأكل عندنا وتكون ضيفاً علينا.
فكّر شريك قليلاً ثم قال: إذا كان ولابدّ فأختار الثالث، وإنما اختار الثالث لإنّه رأى أنّه أسهل من الأمرين الآخرين ولا يلزم منه أن يبقى كلّ حياته قاضياً للظالم أو محدّثاً له ومعلّماً لأولاده، فإنّ الأمر ينتهي بأكلة واحدة لا تترك انطباعاً كبيراً لدى الجمهور عن علاقة النخعي بالنظام.
ولكن المهدي العباسي كان أذكى من النخعي فأمر طبّاخه بأن يعدّ أطيب الأطعمة وألذّها، وأخّر النخعي لما جاء للضيافة لعدّة ساعات لكي يشتدّ جوعه، ثم دعاه إلى المائدة.
وتكمن المشكلة في أنّ النخعي لم يكن عابداً وزاهداً حقيقياً، بل كان متظاهراً بهما، وإلاّ لعمل بالاحتياط أقلها وأكل قليلاً من الطعام ثم اعتذر بالشبع مثلا ،او اكل من الاكل المباح فقط وابتعد عن اللحوم مثلا ..
ولكنّه وجدها فرصة لا تعوّض، فلم يقتصر على الضروري في تناول الأكل المحرّم الذي لم يعلم مصدره ولا ما فيه!
بعد بضعة أيام بعث المهدي يطلب النخعي مرة أخرى، ولكنّ الأخير لبّى مسرعاً في هذه المرّة، ثم بعث خلفه ثانياً وثالثاً ورابعاً ـ ومن يهن مرة يسهل الهوان عليه مرارا ـ حتى بلغ به الحال أن أصبح قاضياً للمهدي ومحدّثاً، أي من علماء البلاط، ومؤدّباً لأولاده.
بل بلغ الحال بهذا الرجل الذي كان يبتعد عن المهدي العباسي وحكومته، أن يتقاضى منه مرتّباً شهرياً. وفي إحدى المرات التي كان يحمل شيك المرتّب للصرّاف اعتذر منه الصراف بكثرة المشترين وقلة النقود وأوكله إلى الغد. لكن النخعي اعترض قائلاً: لقد أتيتك بنفسي وأنا مَن تعلم، أفتردّني وتوكلني إلى وقت آخر؟ وتشاجرا وارتفعت أصواتهما وقال له الصراف: هل بعتني بُرّاً لتستعجلني بالثمن؟ فقال في جوابه: بل بعتك ما هو أغلى! تعجّب الصراف وقال: وما بعتني؟ قال: بعتك ديني!
ورآه يوماً سفيان الثوري فقال له: يا شريك أ بعد الإسلام والفقه والصلاح كلّما يُسأل عنك يقال عند المهدي أو الهادي العباسي؟! وقضى شريك بقية حياته في خدمة السلاطين حتى نيّف على المئة فطرده الرشيد العباسي في قصّة ليس هذا محلّ ذكرها.
ولكن المهمّ هو النتيجة والاعتبار منها، وهي أنّ الأكلة المحرّمة الواحدة عملت عملها وأثمرت هذه الثمرة السيّئة!
يقول المسعودي راوي القصة: إنّ الطباخ قال للربيع (صاحب الخليفة) بعدما خرج النخعي: لقد عملتُ له أكلة لا أراه ينجو منها بعد ذلك! وهكذا كانت بالفعل، والله وحده يعلم ماذا كان قد وضع الطباخ في تلك الوجبة مما حرّم الله من الخبائث فضلاً عن كونها مغصوبة ومن يد الظالم!
إذن، كلّما أصبتَ بسيّئة فابحث عن السبب لأنّ الله عادل لا يظلِم أحدا
وما ربّك بظلاّم للعبيد
بل هو مبعث الإحسان والكرم.
ما أصابك من حسنة فمن الله،
أمّا السوء الذي يصيب الإنسان فمن نفسه،
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى
وكلّما عدّل الإنسان سيرته في الحياة قلّت إصابته بالسيّئات.
والحمد لله رب العالمين
نحن قد تصيبنا في الحياة سيّئات ولا نعرف جذورها لأنّنا غافلون.. فربما ظلمنا إنساناً أو غصبناه حقّه وإن لم نكن منتبهين، فإنّ الآثار التكوينية للأعمال لا تغيّرها النوايا ولا الجهل بها، فهي تترك آثارها، سواء عَلِم الإنسان بها أم لم يعلم!
فلو أخذتَ حبّة شعير وتصوّرت أنّها حبّة قمح وبذرتها في التربة، فهل ستنبت حسب تصوّرك أم بحسب واقع الحبّة؟ لاشكّ أنّ النبت سيكون حسب واقع الحبّة. فمن يزرع قمحاً يحصد قمحاً ومن يزرع شوكاً لا يحصد إلاّ الشوك، وإن تصوّر أنّه كان غير ذلك !
شريك بن عبد الله بن سنان ألنخعي أحد علماء البلاط في العصر العباسي، كان يتصوّر نفسه عالِماً في قبال الإمام الصادق سلام الله عليه وكان يتظاهر بالعبادة والزهد والابتعاد عن الحكّام. وكان العباسيون يصرّون عليه أن يقترب منهم ولكنه كان يرفض.
في إحدى الأيام طلبه المهدي العباسي قائلاً: علَيَّ بشريك النخعي. ولما جاءوا به قال له: أعرضُ عليك ثلاثة أمور فإمّا أن تقبل بأحدها وإلاّ فمصيرك السجن! (وكانت هذه الأمور الثلاثة تصبّ كلّها في أمر واحد وهو أن يظهر النخعي أنه مرتبطاً بالنظام الحاكم)
وقال له المهدي: إن لم ترتبط بنا فسيقول الناس: "لا شكّ أنّ الحاكم غير جيّد، وإلاّ لم يقاطعه النخعي وهو عالِم معروف!" لذا عليك أن تختار واحداً من ثلاثة أشياء: إما أن تقبل القضاء أي تكون قاضياً لنا، أو تكون محدّثنا ومعلّم أولادنا، أو تأكل عندنا وتكون ضيفاً علينا.
فكّر شريك قليلاً ثم قال: إذا كان ولابدّ فأختار الثالث، وإنما اختار الثالث لإنّه رأى أنّه أسهل من الأمرين الآخرين ولا يلزم منه أن يبقى كلّ حياته قاضياً للظالم أو محدّثاً له ومعلّماً لأولاده، فإنّ الأمر ينتهي بأكلة واحدة لا تترك انطباعاً كبيراً لدى الجمهور عن علاقة النخعي بالنظام.
ولكن المهدي العباسي كان أذكى من النخعي فأمر طبّاخه بأن يعدّ أطيب الأطعمة وألذّها، وأخّر النخعي لما جاء للضيافة لعدّة ساعات لكي يشتدّ جوعه، ثم دعاه إلى المائدة.
وتكمن المشكلة في أنّ النخعي لم يكن عابداً وزاهداً حقيقياً، بل كان متظاهراً بهما، وإلاّ لعمل بالاحتياط أقلها وأكل قليلاً من الطعام ثم اعتذر بالشبع مثلا ،او اكل من الاكل المباح فقط وابتعد عن اللحوم مثلا ..
ولكنّه وجدها فرصة لا تعوّض، فلم يقتصر على الضروري في تناول الأكل المحرّم الذي لم يعلم مصدره ولا ما فيه!
بعد بضعة أيام بعث المهدي يطلب النخعي مرة أخرى، ولكنّ الأخير لبّى مسرعاً في هذه المرّة، ثم بعث خلفه ثانياً وثالثاً ورابعاً ـ ومن يهن مرة يسهل الهوان عليه مرارا ـ حتى بلغ به الحال أن أصبح قاضياً للمهدي ومحدّثاً، أي من علماء البلاط، ومؤدّباً لأولاده.
بل بلغ الحال بهذا الرجل الذي كان يبتعد عن المهدي العباسي وحكومته، أن يتقاضى منه مرتّباً شهرياً. وفي إحدى المرات التي كان يحمل شيك المرتّب للصرّاف اعتذر منه الصراف بكثرة المشترين وقلة النقود وأوكله إلى الغد. لكن النخعي اعترض قائلاً: لقد أتيتك بنفسي وأنا مَن تعلم، أفتردّني وتوكلني إلى وقت آخر؟ وتشاجرا وارتفعت أصواتهما وقال له الصراف: هل بعتني بُرّاً لتستعجلني بالثمن؟ فقال في جوابه: بل بعتك ما هو أغلى! تعجّب الصراف وقال: وما بعتني؟ قال: بعتك ديني!
ورآه يوماً سفيان الثوري فقال له: يا شريك أ بعد الإسلام والفقه والصلاح كلّما يُسأل عنك يقال عند المهدي أو الهادي العباسي؟! وقضى شريك بقية حياته في خدمة السلاطين حتى نيّف على المئة فطرده الرشيد العباسي في قصّة ليس هذا محلّ ذكرها.
ولكن المهمّ هو النتيجة والاعتبار منها، وهي أنّ الأكلة المحرّمة الواحدة عملت عملها وأثمرت هذه الثمرة السيّئة!
يقول المسعودي راوي القصة: إنّ الطباخ قال للربيع (صاحب الخليفة) بعدما خرج النخعي: لقد عملتُ له أكلة لا أراه ينجو منها بعد ذلك! وهكذا كانت بالفعل، والله وحده يعلم ماذا كان قد وضع الطباخ في تلك الوجبة مما حرّم الله من الخبائث فضلاً عن كونها مغصوبة ومن يد الظالم!
إذن، كلّما أصبتَ بسيّئة فابحث عن السبب لأنّ الله عادل لا يظلِم أحدا
وما ربّك بظلاّم للعبيد
بل هو مبعث الإحسان والكرم.
ما أصابك من حسنة فمن الله،
أمّا السوء الذي يصيب الإنسان فمن نفسه،
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى
وكلّما عدّل الإنسان سيرته في الحياة قلّت إصابته بالسيّئات.
والحمد لله رب العالمين