لنفهم عقلية الطغاة أولاً!
كثيراً ما أسمع استنكار الأصدقاء والمثقفين لمواقف الطغاة، فردود أفعال هؤلاء الجبابرة تضعنا أمام خيارين: إما أنهم لم يقرؤوا التاريخ ولم يدركوا سنن الحياة، أو أنهم يعيشون في عالم آخر.
علينا أن نفكر بعقولهم لتزول دهشتنا، ففرعون مصر كان إنسانا مثلنا، غير أنه استخف قومه فأطاعوه، وقال "أنا ربكم الأعلى" فعبدوه، حتى صدّق الأحمق كذبته التي صنعها بنفسه، وأنكر الآيات التي جاءه بها موسى عليه السلام بعد أن لمس آثارها بحواسه الخمس!
المصيبة هي أن قومه كانوا شاهدين أيضاً على كل ما جرى، وتحقق فيهم وعد نبيهم بانقلاب الماء إلى دماء وهجوم الضفادع والجراد، بيد أنهم ظلوا على ولائهم للطاغية، فلم يجد ما يمنعه من مصارحتهم في خطابه الجماهيري "ما علمت لكم من إله غيري".
في المقابل؛ ألم يصفق العراقيون لبطل العروبة الأوحد عشرات السنين، قبل أن يسحلوا أصنامه في شوارع بغداد عندما حانت الفرصة ليستيقظ العقل؟
أكاد أجزم بأن ماري أنطوانيت عبرت بصدق عن مشاعرها عندما قالت: "ليأكلوا البسكويت بدلاً من الخبز".. إذ كانت تعيش في عالمها الذي فرضته على الشعب بالقوة، فتركها الشعب مُكرهاً لتغفل فيه، ودارت عجلة الزمن حتى اعتاد الجميع على عالمه.
بدا لي أيضاً أن بوش الابن كان واثقاً من تبجيل التاريخ له، ففي لقاء منى الشاذلي معه كان مصراً على أن العرب سيشكرونه على ما قدمه لهم من ديمقراطية، وفي لقاء أوبرا بعد انتهاء حكمه، أكد بكل حرص على أن الشعب الأمريكي أيضاً سيتفهم دوافعه لتوريطه في حرب ذهب ضحيتها الآلاف، وهو الرجل عينه الذي لم يجد طريقة لإقناع جاك شيراك اللاديني بالمشاركة في غزو العراق أفضل من حثه على التصدي ليأجوج ومأجوج في بابل استعداداً لعودة المسيح.
لم يكن توني بلير أقل حرصاً على تأكيد إخلاصه لشعبه في كل لقاء تلفزيوني أو خطاب برلماني، وما زلت أذكر استماتته لإقناع محاوره التلفزيوني بأنه لم يرمِ بشعبه في حرب على العراق إلا لخوفه على مستقبل هذا الشعب، فالإرهاب القادم من الشرق كان على وشك الإجهاز على حضارة الغرب.
صدام أيضاً كان على يقين مطلق من كونه بطل القادسية الذي هزم الفرس والعرب والصهاينة والإمبريالية العالمية، قبل أن يخونه بعض ضعاف النفوس من حوله، وبن علي كان مطمئناً إلى صدق دعواه: "الآن فهمتكم"، بعد أن ضحى الشعب بنفسه، ومبارك كان مندهشاً من إصرار الشعب على الرحيل بالرغم من بطولاته وإصلاحاته، والقذافي ما زال يعيش في قرارة نفسه ثورة الفاتح ويؤمن يقيناً بأن شعبه المقموع ليس سوى قطيع من الجرذان المتواطئين مع الإمبريالية لإسقاطه، وأن عليه استقدام ثوار أمميين من "الفضاء الأفريقي"، بعد أن خذله أهل بلده في التصدي للمؤامرة الدولية.
الطاغية لا يعيش في عالمنا، ولا يفهم لماذا يخذله الشعب الذي ظل يعبده عقوداً طويلة، ولا يشعر بغضاضة نهب خيرات هذا الشعب طالما أنه يملك رقابهم أصلاً، لذا فهو لا يخجل عندما يقول لهم كلوا البسكويت إن لم تجدوا خبزاً، ولا يجد في عقله الباطن من رد فعل عفوي عندما يقبض عليه الثوار ليقتلوه سوى الصراخ: “ليسقط الخونة”، ثم ينشد في حماس هستيري أناشيد الاشتراكية الثورية بينما يتأهبون لإطلاق الرصاص على صدره كما فعل تشاوشيسكو، أو يقبض على مصحف خلال محاكمته ويردد الشهادتين قبل شنقه كما فعل صدام.
الطاغية يفكر بعقل واحد على مر الزمان، إنه يؤمن حقاً بما تخدعه به حاشيته، ويصدق فعلاً ما يتملق به إليه شعبه، قد يظن أنه مُرسل من السماء، وأن الشعب لا يقدر على العيش بدونه، أو أن الأرض ستكف عن الدوران إذا سقط صولجانه عن عرشه.
الطاغية ـ أيها السادة ـ لا يفكر بعقولكم، ولا يتحدث لغتكم.
الطاغية لا يجدي معه نصحكم، ولا يفهم فحوى طلباتكم، ولا يدرك مغزى نزوله عند رغباتكم.الطاغية يؤمن من أعماقه بأنه إلهكم، فإن عبدتموه منّ عليكم بالحياة على الكفاف ونهَب خيراتكم، وإن ارتكبتم خطيئة التمرد على عالمه استرد منكم حقكم في الوجود!
منقول
كثيراً ما أسمع استنكار الأصدقاء والمثقفين لمواقف الطغاة، فردود أفعال هؤلاء الجبابرة تضعنا أمام خيارين: إما أنهم لم يقرؤوا التاريخ ولم يدركوا سنن الحياة، أو أنهم يعيشون في عالم آخر.
علينا أن نفكر بعقولهم لتزول دهشتنا، ففرعون مصر كان إنسانا مثلنا، غير أنه استخف قومه فأطاعوه، وقال "أنا ربكم الأعلى" فعبدوه، حتى صدّق الأحمق كذبته التي صنعها بنفسه، وأنكر الآيات التي جاءه بها موسى عليه السلام بعد أن لمس آثارها بحواسه الخمس!
المصيبة هي أن قومه كانوا شاهدين أيضاً على كل ما جرى، وتحقق فيهم وعد نبيهم بانقلاب الماء إلى دماء وهجوم الضفادع والجراد، بيد أنهم ظلوا على ولائهم للطاغية، فلم يجد ما يمنعه من مصارحتهم في خطابه الجماهيري "ما علمت لكم من إله غيري".
في المقابل؛ ألم يصفق العراقيون لبطل العروبة الأوحد عشرات السنين، قبل أن يسحلوا أصنامه في شوارع بغداد عندما حانت الفرصة ليستيقظ العقل؟
أكاد أجزم بأن ماري أنطوانيت عبرت بصدق عن مشاعرها عندما قالت: "ليأكلوا البسكويت بدلاً من الخبز".. إذ كانت تعيش في عالمها الذي فرضته على الشعب بالقوة، فتركها الشعب مُكرهاً لتغفل فيه، ودارت عجلة الزمن حتى اعتاد الجميع على عالمه.
بدا لي أيضاً أن بوش الابن كان واثقاً من تبجيل التاريخ له، ففي لقاء منى الشاذلي معه كان مصراً على أن العرب سيشكرونه على ما قدمه لهم من ديمقراطية، وفي لقاء أوبرا بعد انتهاء حكمه، أكد بكل حرص على أن الشعب الأمريكي أيضاً سيتفهم دوافعه لتوريطه في حرب ذهب ضحيتها الآلاف، وهو الرجل عينه الذي لم يجد طريقة لإقناع جاك شيراك اللاديني بالمشاركة في غزو العراق أفضل من حثه على التصدي ليأجوج ومأجوج في بابل استعداداً لعودة المسيح.
لم يكن توني بلير أقل حرصاً على تأكيد إخلاصه لشعبه في كل لقاء تلفزيوني أو خطاب برلماني، وما زلت أذكر استماتته لإقناع محاوره التلفزيوني بأنه لم يرمِ بشعبه في حرب على العراق إلا لخوفه على مستقبل هذا الشعب، فالإرهاب القادم من الشرق كان على وشك الإجهاز على حضارة الغرب.
صدام أيضاً كان على يقين مطلق من كونه بطل القادسية الذي هزم الفرس والعرب والصهاينة والإمبريالية العالمية، قبل أن يخونه بعض ضعاف النفوس من حوله، وبن علي كان مطمئناً إلى صدق دعواه: "الآن فهمتكم"، بعد أن ضحى الشعب بنفسه، ومبارك كان مندهشاً من إصرار الشعب على الرحيل بالرغم من بطولاته وإصلاحاته، والقذافي ما زال يعيش في قرارة نفسه ثورة الفاتح ويؤمن يقيناً بأن شعبه المقموع ليس سوى قطيع من الجرذان المتواطئين مع الإمبريالية لإسقاطه، وأن عليه استقدام ثوار أمميين من "الفضاء الأفريقي"، بعد أن خذله أهل بلده في التصدي للمؤامرة الدولية.
الطاغية لا يعيش في عالمنا، ولا يفهم لماذا يخذله الشعب الذي ظل يعبده عقوداً طويلة، ولا يشعر بغضاضة نهب خيرات هذا الشعب طالما أنه يملك رقابهم أصلاً، لذا فهو لا يخجل عندما يقول لهم كلوا البسكويت إن لم تجدوا خبزاً، ولا يجد في عقله الباطن من رد فعل عفوي عندما يقبض عليه الثوار ليقتلوه سوى الصراخ: “ليسقط الخونة”، ثم ينشد في حماس هستيري أناشيد الاشتراكية الثورية بينما يتأهبون لإطلاق الرصاص على صدره كما فعل تشاوشيسكو، أو يقبض على مصحف خلال محاكمته ويردد الشهادتين قبل شنقه كما فعل صدام.
الطاغية يفكر بعقل واحد على مر الزمان، إنه يؤمن حقاً بما تخدعه به حاشيته، ويصدق فعلاً ما يتملق به إليه شعبه، قد يظن أنه مُرسل من السماء، وأن الشعب لا يقدر على العيش بدونه، أو أن الأرض ستكف عن الدوران إذا سقط صولجانه عن عرشه.
الطاغية ـ أيها السادة ـ لا يفكر بعقولكم، ولا يتحدث لغتكم.
الطاغية لا يجدي معه نصحكم، ولا يفهم فحوى طلباتكم، ولا يدرك مغزى نزوله عند رغباتكم.الطاغية يؤمن من أعماقه بأنه إلهكم، فإن عبدتموه منّ عليكم بالحياة على الكفاف ونهَب خيراتكم، وإن ارتكبتم خطيئة التمرد على عالمه استرد منكم حقكم في الوجود!
منقول