انه بيت الله الحقيقي
اعلم ان الله تعالى يجلّ عن المكان، والحلول، والسكنى، والمسكن، واتصاف بعض الامكنة بكونه بيتا لله تعالى. انما هو لشرافة خاصة له من حيث جعله محل عبادة الله تعالى، او كثرة العبادة فيه، او الامر بالتوجه اليه حين العبادة، او كونه محاذيا لمحل عبادة، او لنزول فيض خاص، او لكونه صعب المنازل. فيخلص فيه القصد الى الله، كما اجتمع ذلك كله في مكة المعظمة، وتحقق بعض ذلك في المساجد، وفي بيوت أذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه، وهذه كلها بيوت الله ظاهرا.
واما بيت الله الحقيقي فهو ما في الحديث القدسي: (لا تسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن )، وقد أوحى الله تعالى الى نبيه داود عليه السلام: (فرّغ لي بيتا أسكن فيه، فقال: يا رب إنك تجل عن المسكن، فأوحى إليه: (فرّغ لي قلبك (، وايضا جاء) القلب حرم الله تعالى فلا تسكنوا حرم الله إلا الله تعالى )، فكل قلب لم تكن فيه سوى محبة الله تعالى وذكره فهو بيت الله تعالى حقا.
فقلب المؤمن الكامل بيت الله حقيقة، لانه خال عن التعلق بغيره، فليس فيه فكر ولا ذكر ولا هم الا الله تعالى. وقد ينتهي الامر الى انه لا يبصر الا بالله تعالى، ولا يسمع الا بالله، وهذا احد معاني قوله تعالى في الحديث القدسي " حتى أكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به "…….
واذا تحقق ذلك وتأملت حق التأمل، ظهر لك ان بيت الله الحقيقي الاكبر هو قلب الحسين عليه السلام.فانه فرّغه تفريغا حقيقيا صادقا خالصا، اذ لم تبق فيه علاقة لغير الله عزوجل، حتى العلائق التي لا تنافي العلاقة مع الله تعالى، وذلك لان قطع العلاقة عن كل شيء لله - خصوصا مع شدة العلقة به - دليل على شدة العلقة مع الله تعالى.
وقطعها كلها دليل انحصارها، والشرائع مبتنية على ذلك، والتدين بالدين انما بمقدار قطع العلاقة عن غير الله لله تعالى. والدرجات المختلفة انما هي باختلاف العلائق شدة وضعفا، ومقدار تركها زمانا، وكيفية امتثال امر الله تعالى. اذا تحقق ذلك، فاعلم ان الحسين (ع) حين توجه اليه الامر في الصحيفة الالهية بخطاب: " إشر نفسك لله "، قد قصد من اول هجرته من المدينة الى مكة، ثم الى كربلاء، امتثال هذا الامر متقربا بجميع ما سيقع عليه.
فكان جميع ذلك منويا له موطّنا عليه نفسه الزكية حتى تقطيع اوصاله وطّن نفسه عليه وهو في مكة المكرمة، كما نوى (ع) التقرب بتحّمل ذبح اصحابه، واولاده، واهل بيته صلوات الله تعالى عليهم اجمعين. بل اكثر من ذلك، فقد وطّن نفسه بتحّمل ذبح طفله الرضيع على يديه بل وطفل رضيع اخر له، بل اُري صورة الواقعة ومحلها لأم سلمة مشاهدة بالعين.
فقد أخلـى قلبه من التعلق بالوطن، والديار والمساكن، ومن التعلق بالاموال حتى اللباس والسلطنة والراحة والرئاسة. ومن التعلق بالعيال والاطفال والاولاد والاخوان والعشيرة والاصحاب، فقدّمهم امامه ذبحا واسراً، ومن التعلق بجميع ما في الدنيا حتى الماء، وحتى قطرة منه للمحتضر الغريب. ومن تعلق الرأس بأجزاء البدن وعظامه ولحمه ودمه، ومن اتصاله وبقاء صورته وتركيبه وهيئته، حتى انه قطع علاقة قلبه المبارك مع صورة القلب التي في الصدور، ومع مهجة القلب التي هي دم القلب. فشبك قلبه سهم مسموم ذو ثلاث شعب، وقع عليه وسال دمه جاريا خارجا كالميزاب يتدفق، فأخذه بيده المباركة وخضّب به رأسه ولحيته، ففي الزيار ة: " وبذل مهجته فيك ".
فلما بذل فيه قلبه الظاهري ومهجته، وجميع علائق قلبه، تمحض القلب المعنوي لله تعالى، وصار خاليا عن غير الله، وفارغا عن جميع ما سوى الله تعالى وصار بيت الله الحقيقي التحقيقي الذي ليس فيه سوى الله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) ومن ذلك يظهر قوله (ص) " من زار الحسين (ع)كان كمن زار الله تعالى في عرشه".(منقول)