التجربة في القرآن من خلال قصة هابيل وقابيل
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
الله تعالى في كتابه المجيد: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض}
(المائدة: 31 ) أي يحفر فيها كأنَّه يطلب شيئاً في أعماقها، {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءة أَخِيهِ} أي عورته، كنايةً عمّا يمكن أن يتحوّل له أخوه، فيكون جيفة نتنة، أو يمكن أن يكون طعمةً للسباع، فيكره ذلك له.
والظّاهر من الآية، أنَّ قابيل كان ساذجاً في معرفته للأشياء، من خلال فقدان التجربة العمليّة الّتي يعرف بها خصائص الأمور، وعدم وجود أيّة وسائل تعليميّةٍ أخرى لما يتصرّف به الإنسان في قضاياه الخاصّة، وربَّما توحي بعض كلمات المفسّرين، بأنَّ هابيل كان أوّل ميّتٍ من النّاس، فلم يُعهد في واقع ذلك المجتمع الصّغير أيّة تجربةٍ مماثلةٍ سابقة، ليعرف قابيل ـ من خلالها ـ كيف يتعامل مع هذا الحدث الجديد، إلى أن بعث الله الغراب ليقوم بتجربة حفر الأرض، ثُمَّ العودة إلى طمر الحفرة بالتّراب من جديد، في الوقت الَّذي كان قابيل يتابع عمل الغراب. وقد ذكر بعض المفسّرين؛ اجتهاداً وتفسيراً أو رواية، أنَّ الله بعث غرابين، أحدهما حيّ والآخر ميّت، أو كانا حيّين فقتل أحدهما صاحبه، ثُمَّ بحث الأرض ودفنه فيها.
فقد جاء في الرّواية العامّة ـ كما يقول صاحب مجمع البيان ـ عن جعفر الصّادق)ع( قال: «قتل قابيل هابيل وتركه بالعراء لا يدري ما يصنع به، فقصده السّباع، فحمله في جراب على ظهره حتّى أروح، وعكفت عليه الطّير والسّباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، ثُمَّ حفر له بمنقاره وبرجله، ثُمَّ ألقاه في الحفيرة وواراه، وقابيل ينظر إليه، فدفن أخاه» . فإذا صحّت هذه الرِّواية، فإنَّها تدلّ على أنَّ المسألة كانت تعليماً إلهيّاً من خلال الإلهام للغراب حتَّى يفعل ذلك مما لم يكن معتاداً للطيور، وربَّما يؤيّد ذلك، ما يمكن استفادته من قوله تعالى: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءة أَخي}[المائدة : 31]، أي كما وارى هذا الغراب سوأة الغراب الآخر. ولكن جاء في بعض كتب التّفسير، أنَّ الغراب من بين الطير، من عادته أنَّه يدّخر بعض ما اصطاد لنفسه بدفنه في الأرض، وبعض ما يقتات بالحبّ ونحوه من الطّير، وربَّما بحث في الأرض للحصول على مثل الحبوب والدّيدان، لا للدّفن والادّخار. والله العالم.
وفي مطلق الأحوال، لقد عرف قابيل ـ من خلال تجربة الغراب ـ كيفيّة حفر الأرض وطمرها بالتّراب، ما جعله ينفتح على فكرة الدّفن الَّذي يحفظ به جثّة أخيه من السباع، أو من التحوّل إلى جيفةٍ نتنة، وهكذا: {قَالَ يَـوَيْلَتَا} في تعبير عن الإحساس بالفضيحة أو بالهلاك. {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ} الصّغير الحجم الَّذي يعرف ما لا أعرف، ويتصرّف بدرايةٍ وخبرةٍ في إدارة أموره، وأنا العاجز عن القيام بمثل هذا الأمر البسيط الَّذي لا يحتاج إلى المزيد من المعرفة، أو الكثير من التّفكير؟ {فَأُوَارِيَ سَوْءة أخي}، وأدفنه في التراب لحمايته من السّباع أو ظهور رائحته النّتنة، {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} على جريمته، بعد انفصاله عن الجوّ الانفعاليّ الّذي عاش فيه من خلال تأثير عقدة الحسد فيه، والّتي كانت نتيجتها قتل أخيه ظلماً وعدواناً من دون أيّ ذنبٍ جناه ضدّه، الأمر الّذي جعله يستعيد طبيعة عمله من خلال كلّ النّتائج السلبيّة الحاصلة من ذلك كلّه على مستوى الدّنيا والآخرة. وربَّما كان النّدم خوفاً من افتضاح أمره لدى أهله أو نحو ذلك.
وهكذا استطاع قابيل تعلّم طريقة الدّفن من التجربة الحسيّة للغراب، ليكون ذلك منهجاً للمعرفة بواسطة الحواسّ مما يشاهده الإنسان من فعل المخلوقات الأخرى، أو مما يسمعه أو يلمسه أو يشمّه أو يذوقه، ليكون ذلك سبيلاً لحركة الإدراك في إنتاج المعرفة، ليستخدم ذلك في الحصول على أغراضه وحاجاته الحيويّة في الدّنيا، فإنَّ للحسّ دوراً كبيراً في عمليّة البحث العلميّ، باعتبار أنَّ الحواسّ تزوّد الفكر بالموادّ الخام الّتي يستعملها في حركته الفكريّة.
وهذا ما يؤكّده المنهج القرآني للمعرفة، فلا يقتصر على الطريقة العقليّة الّتي تعتمد على التأمّل والاستنتاج العقلي، بل يمتدّ إلى الطريقة العلميّة التجريبيّة الّتي تتحرّك من خلال الحسّ الَّذي يجمع للإنسان كلّ مشاهداته ومسموعاته وملموساته ومشموماته ومذوقاته، ليحرّكها في اتجاه الإنتاج العقلي للفكرة العامة.
وهذا ما ينطلق من خلال الواقع الإنساني في أفكاره التجريديّة العقليّة الّتي لا علاقة لها بالحسّ، وفي نظريّاته التجريبيّة الّتي تنطلق من الحسّ إلى العقل، فلا صحّة للّذين ينكرون العقل، ولا للّذين ينكرون التجربة في المعرفة.
إنَّ هذه القصّة القصيرة الّتي رواواها القرآن لنا في إطار الحوار القصير، تجسّد لنا الصّورة الحيّة لشخصيّتي الإنسان الشرير والخيّر، لتربطنا بفكرة الخير وتبعدنا عن فكرة الشّرّ، في موقف يوحي ـ للنّاظر والمستمع ـ بفظاعة موقف ذاك إزاء روعة موقف هذا، حيث نرى الجريمة خاليةً من كلّ مبرّراتها وحيثيّاتها العادلة الّتي تجعل منها عملاً عادلاً، لأنَّها نشأت من حالة نفسيّة معقّدة بالحسد، إذ ليس للضحيّة فيها أيّ ذنب، بل نجد ـ في جوّ الآية ـ أنَّ الضحيّة لم تحاول أن تجعل من قبول قربانها ورفض قربان المجرم لها أساساً لأيّ تصرّف استعراضيّ يسيء إلى كرامته، بالشّكل الَّذي يتبعه الرّابحون أمام الخاسرين، لأنَّ خُلُق الأخ المؤمن كان بعيداً عن ذلك كلّ البعد. ولعلّ قيمة هذه القصّة، أو بالأحرى عرض القرآن لهذه القصّة، تتمثَّل في ما تخلقه في نفس القارئ أو السّامع من تأثير نفسيٍّ ضدّ الجريمة والمجرم، وتعاطفٍ روحيٍّ مع الضحيّة، ما يترك آثاره على السّلوك الإنسانيّ العام، في ما يريد أن يقدم عليه من عمل، أو يحكم عليه من أعمال الآخرين.
أمَّا نحن، فنستطيع الاستفادة منها في مجالين:
1 ـ المجال التّربويّ، الَّذي يعتبر القصّة وسيلةً حيّةً للإيضاح عندما تتحوّل إلى عمل مسرحيٍّ أو ما يشبه ذلك، وأسلوباً من أساليب التّوجيه والتّربية، فقد نجد من الخير لنا، أن نجعلها إحدى القصص الدّينيّة التربويّة الّتي نقدّمها للأطفال أو للشّباب، بالأسلوب الَّذي يتناسب مع ذهنيّاتهم، في عمليّةٍ تصويريّةٍ حيّة بالكلمة أو الصّورة أو التمثيل.
2 ـ استيحاء هذه القصّة في وضع قصصٍ متنوّعةٍ قريبةٍ إلى مثل هذه الأجواء، لتعالج قضيّة الجريمة والمجرم، في أيِّ جانب من جوانبها، سواءٌ منها الَّذي يتمثّل بالقتل، أو بالسّرقة، أو بالزّنى، أو بالظّلم والاعتداء على النّاس بشكلٍ عام، لأنَّ دور الأسلوب القرآني هو دور تخطيط المنهج التّربويّ ليسير عليه الآخرون في حركة اتِّباع أو استيحاءٍ وإبداع، لنكفل للعمل الإسلاميّ التربوي أن يعيش في أجواء القرآن فكرةً وأسلوباً، مستوحياً أفكاره وأساليبه في حركة العمل وفي فكره وأسلوبه.(منقول)