المعرفة الإشراقية :
إن علياً -عليه السلام- كانت لهُ خلوات في السحر مع رسول الله -صلى الله عليه وآله- كما في بعض النصوص.. عن علي بن أبي طالب -عليه السلام- قال: (كانت لي ساعة من السحر، أدخل فيها على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فإن كان قائماً يصلي، سبح لي؛ فكان ذلك إذنه لي.. وإن لم يكن يصلي؛ أذن لي).. ماذا كانَ يجري بينهما؟.. قد نعلمُ شيئاً من هذه الأسرار من خلال حديث: (علمني رسول الله -صلى الله عليه وآله -ألف باب من العلم، ينفـتح لي من كل باب ألف باب).. ولكن ما هذهِ الفتوحات؟.. وكيفَ ينفتح من كل باب ألفَ باب؟.. نحنُ لا نعلم!.. هُنالكَ كما يُقال في اصطلاح البعض: معرفة إشراقية، فالنبي -صلى الله عليه وآله- كانَ ينقل ما عندهُ من مزايا وعلم، بطريقتهِ الخاصة إلى عليٍّ -عليه السلام- أي لم يكن الأمر بالكلام المُجرد.
- المعرفة المعنوية..
ما منزلة النبي -صلى الله عليه وآله- من ربه؟.. هذهِ المنزلة منزلة رسالية معنوية، ليسَ هناكَ أيّ مزيةٍ مادية في البين.. تعالى رب العالمين أن تكون لهُ مزية مادية مع حبيبهِ المصطفى -صلى الله عليه وآله-.. في عالم المخلوقات: النبي خَلقٌ من خلق اللهِ -عزَ وجل- كباقي مخلوقات الوجود.. وفي عالم المادة: نسبةُ النبي لله -عز وجل- كنسبةِ أعدائهِ في أصل الخَليقة.. ولكن الرابطة رابطة معنوية: أي رابطة القُرب، ورابطة العبودية، ورابطة المحبة.. وكذلك بالنسبة إلى ارتباط علي -عليه السلام- بالنبي -صلى الله عليه وآله-: صحيح كان صهره، وكانَ ابن عمه؛ ولكن حاشى لرسول الله -صلى الله عليه وآله- أن يعامل علياً -عليه السلام- فقط معاملة المصاهرة، وكونه ابن عمٍ له؛ بل هي علاقة متمحضة في عالم المعنى.. وفي حديث منقول قال النبي -صلى الله عليه وآله- لعائشة: (ليأتيني أمير المؤمنين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين).
المقامات المتاحة للعبد..
إن حديث: (إن لله عيوناً، وإن عليّاً من عيون الله في الأرض)؛ ليس غريباً!.. وعلينا أن نعلم أن هذه مقامات مُتاحة لنا، كما ورد في حديث قرب النوافل.. فعليٌ -عليه السلام- عين الله، لأنهُ عملَ بهذا الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب.. وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه.. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.. وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).. رحمَ الله أحد المراجع الماضيين، كانَ يقول -معنى كلامه-: بأنَ الغيبة أكلٌ للحم الميتة، ولكن بخصوص العلماء والأولياء، هؤلاء لحمٌ مسموم، لحمُ ميتةٍ وفيه سُمٌ قاتل؛ فإياكَ أن تتكلم بما لا يليق عن وليٍّ من أولياء اللهِ عزَ وجل!.. والمراد بالولي هُنا، أعم من أن يكون عالماً بزي العلماء.. ومن هُنا بعض الأوقات الإنسان عن غفلةٍ أو عن جهلٍ، وفي بيئةٍ منحرفة أو في مجلس البطالين، يتناول مؤمناً بكلمة أو بشطرِ كلمة؛ فيهوي بها أبعدَ من الثُريا، ثم بعد ذلك يشتكي من قساوةٍ في قلبه، ومن ضيقٍ في رزقه!.. والحال أنه هو الذي قتل قلبه، وهو الذي قطع رزقه بيده.. والرواية تقول: (قد أذنتهُ بالحرب)؛ فالإنسان قد يقاوم مخلوقاً مثلهُ، ولكن كيف يقاوم غضبَ جبار السموات والأرض؟!.. يا ترى الآن في عالم البرزخ، ما هو مصير الذينَ سبوا مثلَ علي -عليه السلام- على منابرهم عشرات السنين؟..
- محبوبية العمل..
يقول عز وجل: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه).. هذهِ الرواية من الروايات المُشكلة، لم نعلم: الفريضة أهم أم المستحب أهم؟.. الكلام هنا في محبوبية العمل: فالصلاة الواجبة أين والمستحب أين؟.. الصلاة الوسطى أين -أي الظهر- ونافلة الظهرين أين؟.. فالعمل أرقى بكثير منَ المُستحب!..
- محبوبية الذات..
أما عندما يقول عز وجل: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، هُنا محبوبية الذات لا محبوبية العمل.. فالذي يصومُ في شهر رمضان: عمله مُبارك، وصومه في شهر رمضان؛ أرقى من صومه في شهري: رجب وشعبان.. ولكن الذي يصوم في شهر رجب؛ ذاتهُ أحبُ إلى الله عزَ وجل؛ لأنَ الله -عزَ وجل- لم يُلزمهُ بهذا العمل؛ ومع ذلك فإنه يقاوم الجوع والعطش ويصوم.. كما أنه لم يُلزمهُ بصلاة الليل، فيُقاوم النوم ويقف ليصلي ركيعات بين يدي الله عز وجل!.. فإذن، قُرب النوافل: أي قُربُ صاحب النافلة من رب العزةِ والجلال.
- النتيجة:
يقول عز وجل: (فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).. وعليه، فلماذا نستنكر حديث: عليٌ يد الله، أو عليٌ عين الله؟.. إذا كان علي -عليه السلام- ليس من مصاديق هذا الحديث، فمن هو المصداق لهذا الحديث؟.. عندما أدّب عليٌ -عليه السلام- ذاك الذي كان ينظر إلى نساء المُسلمين في الحرم لأنه (يدهُ التي يبطشُ بها، ورجلهُ التي يمشي بها).. ويقول في آخر الرواية: (وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
فإذن، علينا أن نجعل هذهِ الرواية -رواية قُرب النوافل- سقف الاهتمام الأعلى.. فليسَ المهم أن يكون الإنسان عبداً للهِ -عزَ وجل- لأن هذه أول درجات العبودية؛ ولكن عليه أن يتحول إلى إنسان: كلامه كلام رب العالمين.. ولهذا يقولون: اتق غضب الحليم!.. فالإنسان عندما يريد أن يتكلم أو يعاتب أحداً في المنزل؛ فإنه: يرفع صوته، وتتوتر أوداجه، ويحمر وجهه؛ فيصبح شكله مضحكاً.. وذلك لأنه لا يتكلم بلسان الله عز وجل.. بينما كانَ النبي -صلى الله عليه وآله- إذا غضب أعرض وأشاح؛ أي إذا لم يعجبهُ شيء؛ كانَ يُعرض بوجهه فقط.. وهذا الإعراض من رسول الله -صلى الله عليه وآله- كالصاعقة على رأس الطرف المقابل؛ فلا يحتاجُ إلى حديث.. وعندما كانَ يكفهرُ وجه النبي -صلى الله عليه وآله- لم يكن أحدٌ يجرؤ أن يتكلمَ معه، وكانَ الوسيط الوحيد هو عليٌ (عليه السلام).
الإيمان المستقر..
إن هذا الحب الذي في قلوبنا، هو رأس مال صحيح.. ولكن كم من الذينَ في أواخر أعمارهم سُلبَ منهم حُب علي بن أبي طالب وولايته!.. فمن الممكن أن يُسلب الإنسان بالمعاصي هذهِ الجوهرة الإلهية!.. قال رسول الله -صلى الله عليه وآله- لعليّ -عليه السلام-: (يا عليّ!.. ما ثبت حبّك في قلب امرئ مؤمنٍ: فزلّت به قدمٌ على الصراط، إلا ثبتت له قدمٌ، حتى يُدخله الله -عزّ وجلّ- بحبك الجنة).. ويقول الإمام الباقر -عليه السلام- (ما ثبت الله -تعالى- حب علي في قلب أحد، فزلت له قدم؛ إلا ثبتت له قدم أخرى).. فإذن، هناكَ إيمانٌ مستودع، وهناكَ إيمانٌ مستقر.. ولكن إذا ثبتَ حُب علي في قلب أحد، ما دامَ مُحباً حُباً يُلامس شُغاف القلب، فليعلم بأنَ الله -عزَ وجل- سيأخذُ بيده في يومٍ ما.(منقول)