مَن الذي يقبض الأرواح عند الموت؟!
بسم الله الرحمن الرحيم..
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرج قائم آل محمد..
مَن الذي يقبض الأرواح عند الموت؟!
شبهة مسيحي:
مَن الذي يقبض روح الإنسان عند الـموت؟هل هو مَلَكُ الموت؟ كما في سورة السجدة: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(1) أو هي الملائكة؟كما في سورة محمد: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾(2)، أو ان الذي يقبض الأرواح هو الله كما في سورة الزمر: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾(3) فمن الأولى يتضح وجود ملك واحد للموت وعلى عكس الآية الثانية التي تنص على وجود ملائكة للموت؛ وقد يقول المسلمون ملك الموت هو أحد ملائكة الموت، ولكن ما ذا عن الله؟
الجواب:
معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ هو انَّ المكلَّف بإماتة الإنسان وقبض روحه هو ملَكٌ من الملائكة سمَّاه القرآن ملَكُ الموت، فمنشأُ إسناد التوفِّي والإماتة إليه في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ هو انَّه المُوكَّل و المكلَّف من قِبَلِ الله عزوجل بهذه المهمَّة.
وأما منشأ إسناد التوفِّي والإماتة في آياتٍ عديدة إلى الملائكة (4) فهو لانَّهم المباشرون لعمليَّة الإماتة والتوفِّي، وذلك بتكليفٍ وإيعازٍ من ملَك الموت الموكَّل بهذه المهمة من قِبَلِ الله تعالى، ثم إنَّ الأرواح تصير إليه بعد قبض ملائكة الموت لها.
فالمُصحِّح لنسبة الإماتة وقبض الأرواح لملائكة الموت هو أنَّهم المباشرون لهذا الفعل، وأما المُصحِّح لإسناد ونسبة التوفِّي والإماتة لملَك الموت فهو انَّه الآمر بذلك بإعتباره المخوَّل والمسئول عن هذه الوظيفة أمام ربِّ الكائنات ومدبِّرها جلَّ وعلا.
فالإسناد في كلا الموردين حقيقيٌّ ومستعملٌ كثيراً في العرف، فحين يُكلِّف السلطان صاحب الشرطة بمهمَّة القبض على المجرمين فُيكلِّف صاحب الشرطة أتباعه والموظَّفين عنده بذلك فيقومون بالقبض على بعض المجرمين فإنَّه يصحُّ دون ريب إسناد القبض عليهم إلى صاحب الشرطة نفسه كما يصحُّ إسناده ونسبته إلى أتباعه وموظَّفيه (5).
ومن ذلك يتَّضح أيضاً منشأ إسناد التوفِّي لله سبحانه في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ فهو جلَّ وعلا مَن وكَّل وكلَّف ملَك الموت بهذه المهمَّة وهو مَن أقدره على إمتثالها، فملَكُ الموت حين يمتثلُ الأمرَ الإلهيَّ بنفسه أو بواسطة الموكَّلين من قِبله فإنَّ ما يصدر عنهم يكون لذلك مستندٌ حقيقةً للآمر، فمَلَكُ الموت وكذلك أتباعه من الملائكة لم يكونوا سوى أدواتٍ مسخَّرة لله تعالى تُنفِّذ أوامره في هذا الشأن.
قال تعالى في وصف ملائكته: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(6) وقال جل وعلا: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(7).
هذا وقد أسندَ اللهُ تعالى بعضَ ما يفعله ملائكتُه بأمره إلى نفسه تارةً وإلى ملائكته تارةً أخرى في مواطنَ عديدة من القرآن الكريم:
منها: ما أوقعه على قوم لوطٍ من عذاب، حيثُ أمطرهم بحجارةٍ من السماء مسوَّمة، وقد أسند هذا الفعل لنفسه في بعض الآيات وأسنده لملائكته الموكَّلين بذلك في آيةٍ أخرى، فقال تعالى في سورة هود: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ / مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾(8) وقال جلَّ وعلا في سورة الحجر: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ / إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾(9) ففي هذين الموردين أسند اللهُ تعالى لنفسه ما وقع لقوم لوط فقال: ﴿وَأَمْطَرْنَا﴾، وأما في سورة الذاريات فأسند ذلك للمرسَلين من ملائكته حيثُ قال على لسانهم: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ / مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾(10).
ومنها: ما حكاه القرآن عن البشارة الإلهيَّة لإبراهيم (ع) بإسحاق، فبعد أنْ كبرتْ سنُّه وشاخت زوجتُه جاءته البشارة بأنَّه سيُرزق بولدٍ إسمه إسحاق، وقد أسند القرآن الكريم هذه البشارة تارةً لله تعالى، وأخرى للملائكة الموكَّلين بذلك، قال تعالى: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(11) فهنا أسند القرآن البشارة لله جل وعلا، وقال تعالى في سورة هود: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ / فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ / وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ / قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾(12) وقال تعالى في سورة الحجر: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ / قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ / قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ / قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ﴾(13) ففي هذين الموردين أسند البشرى بإسحاق للملائكة الموكَّلين بذلك.
ومنها: انَّ الله تعالى أسند كتابةَ أعمال العباد وأقوالهم إلى الملائكة الموكَّلين بذلك في آياتٍ عديدة، وأسندها إلى نفسه في آياتٍ أخرى، قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾(14) وقال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾(15) ففي هذين الموردين أسند القرآنُ كتابةً الأقوال والأعمال إلى ملائكة الله المرسَلين لهذه المهمَّة فقال: ﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ﴾، وأسندها في سورة مريم إلى الله تعالى: ﴿كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾(16) وكذلك أُسندتْ الكتابة لله تعالى في سورة آل عمران: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾(17) ففي كلا الموردين قال الله تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ﴾.
والمتحصَّل مما ذكرناه أنَّ المُصحِّح لإسناد الأفعال المذكورة لله جل وعلا هو انَّه الآمر بها وهو مَن أقدَرَهم على إمتثالها، وأما المُصحِّح لإسناد هذه الأفعال إلى الملائكة فهو أنَّهم المباشرون لفعلها, ولعمري إنَّ ذلك أوضح من انْ يفتقرَ إلى بيان إلا أنَّ الغلَّ إذا إنطوى عليه قلبٌ أعشاه عن رؤية الواضحات وبالله المستعان على مايصفون.
والحمد لله رب العالمين..(منقول)