[size="5"][b]
ابن كثير زاد واجتهد من فهمه ما لا تحتمله الآية حين قال "لولا وقاية الله لك وحمايته" لأن الآية تقول: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون} ولم يُذكر هذا الاستثناء بالوقاية, فهل يُحسَد على الجنون كما ذكر ابن سعدي وابن كثير بأن المقصود بإزلاق البصر هو الحسد؟ وهم لا يرون في هذه الحالة أن عنده نعمة وإلا لتبعوه, وكل ذي نعمة محسود, لكنهم لم يبدوا إعجابهم به بل العكس تماما وصفوه بالجنون, وهل يحسد أحد يوصف بالجنون أو بالسحر أو بالكذب أو أساطير الأولين؟ بدأوا يحسدون الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نجحت دعوته في المدينة وكثر أصحابه, وإلا فقد كانوا يحتقرونه في مكة ويضعون القاذورات عند بابه, بل وضعوا سلا الجزور على رأسه وهو ساجد, ليس هذا سلوك من يحسد, بل من يحتقر, على الأقل في الظاهر.
[size="5"][b] من المهم جداً الفقه قبل استعمال الحديث, أي فقه القرآن و فقه مقاصد الدين وعقيدته والأخلاق والعقل والمنطق والعلم ثم تستعمل الأحاديث المناسبة ، ولهذا يوجد فقهاء ومحدثون كل في تخصصه. لأن الأحاديث كثيرة وبعضها يتعارض مع القرآن, وبعضها يتعارض مع الحديث, وبعضها يتعارض مع العلم والمنطق، وبعضها يتعارض مع الطب, وبعضها ظلت تُستَعمل وتعتبر صحيحة إلى أن جاء من نبه على ضعفها, ولعلنا هنا نذكر الأحاديث التي ضعفها أو صححها الألباني وقبله البيهقي وغيرهما بعد مئات السنين من الاستعمال وقد كانت تُرى صحيحة.
الأحاديث ليست مثل القرآن، فالقرآن لا يُضعَّف فيه شيء و لا يُصحَّح فيه شيء، وتحتاج الأحاديث إلى فقهاء قبل المحدثين ينظرون إليها نظرة شاملة ويضعونها في إطارها الصحيح, المحدث محدث والفقيه فقيه. وليس من استعمل حديثا صار فقيها. والفقهاء يوقفون أحكاماً كثير من الأحاديث ويجرون بعضها ويرجحون منها, والمحدثون أيضا يمحصون في روايات الأحاديث ولازالوا يكتشفون ضعيفا يصحَّح أو صحيحا يضعَّف, والاجتهاد مفتوح للأمة وعلمائها. لهذا المسلم يكرر عشر مرات في اليوم {اهدنا الصراط المستقيم} والعلم الصحيح من الهداية، ولم يقل (ثبتنا على الصراط المستقيم) إذن المسلم في حالة بحث دائمة عن الحقيقة والأفضل والأقرب رشداً ، وإيقاف الاجتهاد ضد الفطرة وضد طلب الصراط المستقيم وضد حيوية الإسلام وتناسبه لكل عصر وزمن .
أنا ذكرت أن فكرة الإصابة بالعين لا تحمل خيرا للأمة وتورث البغضاء والأوهام والعداوات ولا يستفيد منها أحد, واذكري خيرا واحدا فيها, والله يقول : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فأين الرحمة فيها؟ ويقول : {وكونوا عباد الله إخوانا}, ويقول { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}. وهي لا تتناسب مع آية: {كل نفس بما كسبت رهينة}, فالعائن يصيب رغما عنه, فهل سيحاسَب؟ والمعروف أن الشر يأتي بنية وإرادة حرة وعليه سوف يحاسب ، والمعيون يصاب رغماً عنه فهل هي عقوبة؟
الله يستطيع أن يعاقب أو يكافئ بدون وسطاء من أصحاب العيون. وهل كل حاسد يصيب من يحسده بطريقةِ آلية؟ هذا غير واقعي, كلنا في يوم من الأيام حسدنا أحد على نعمة أو حسدناه ولم يصبهم شيء بطريقة قاطعة ومباشرة وأحرقنا حسدنا فقط كما قيل :
"اصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله *** فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله",
إلا من تمادى بحسده وأخرجه إلى حيز التنفيذ وهو الذي أمرنا الله بالاستعاذة منه بقوله : {ومن شر حاسد إذا حسد}, لأنه أضمر الشر وقد يفعل السوء أو يقوله رغبة في زوال النعمة أو الإضرار بالمحسود بنميمة أو غيبة أو افتراء ...إلخ, كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم } هكذا تجسد حسدهم على شكل رد وصد عن ذكر الله وليس على شكل إصابة بالعيون. لنقس حسد هؤلاء على حسد كفار قريش الذين يُزلقون بالأبصار, هذه الآية ذُكر فيها الحسد ولم تذكر الإصابة بالعين, لو أن الإزلاق بالبصر ذُكر بعد الحسد لفهمنا أن المقصود هو العين, لكن هذا لم يحدث. وذيلت الآية بقوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} ولم يقل فاستعيذوا من عيون الحساد الذين أوتوا الكتاب.
وهل غير المسلمين يحسد بعضهم بعضا وهاهم يغزون الفضاء؟ وكيف أنبذ شخصا أو أسيئ إلى سمعته وأنسب إليه مصيبتي وهو لم يفعل شيئا عملياً يضرني؟ سوى أنني أتهمه أو يتهمه غيري بالعين تبعا للظن ، وفي نفس الوقت أترك من يضرني بنية وعمل؟ والله يقول : {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} ولا أحد يتكلم بالعين إلا من خلال الظن, وإلا فهو مدع لعلم الغيب وعلم الغيب لله, و اتباع الظن السيء إثم لهذا ينتج العداوة والرسول أمرنا بإحسان الظن بإخواننا, إلا بعد تثبت, فأي تهمة تحتاج إلى تثبت ولا توزع بسهولة, وكما قال صلى الله عليه وسلمادرؤوا الحدود بالشبهات) و قال تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}, والعين لا تبين فيها ولا تثبت, مثلها مثل المس أو تأثير السحر على المسحور أو الرؤيا المنامية ومثل التبصير والتنجيم والأبراج, كلها بلا تثبت ورجمٌ بالغيب, ولا يمكن القطع بثبات الإصابة بهذه الأمور إلا من خلال الظن والقرائن, والقرائن لا تكفي لإثبات أي تهمة. إذن لا يناسب المؤمن أن يقفو ما ليس له به علم كما نهانا القرآن, والغيب لا علم لنا به, والإصابة بالعين لا نعرف كيف تتم ولا نعرف حديث النفوس، فالله هو الذي يعلم ما في النفوس, وهو الذي نلجأ إليه إذن في المعرفة والعلاج إذا استنفدنا العلم الذي أعطانا الله إياه علم الشهادة وأثنائه, لأن هذه الموضوعات خارج عالم الشهادة فلا يمكن التثبت منها, لا أحد يستطيع أن يثبت شيئا عن الملائكة ويقطع بوجودهم في مكان محدد ولا كم عددهم ولا هيأتهم لكن نؤمن بوجودهم ونترك الأمر لله، فكيف يثبت إذن شيء عن الجن؟ والجميع من عالم الغيب؟
هل من أتهمه بالعين مثل من غشني أو كذب علي أو ظلمني أو أهانني؟ هذا ليس من العدل ولا من التثبت. ومن يكره الظلم يبتعد عن مثل هذه الاتهامات ولا يوزعها على الناس بالشبهة, حيث يسيء إلى سمعة أخيه المسلم ويحزنه وهو بريء, وهذا ما يريده الشيطان: العداوة والبغضاء أن تنتشر بين المؤمنين مثل ما أرادها في الخمر والميسر, والجميع متضرر ولا أحد مستفيد, حتى الإيمان ونقاء العقيدة يتضرر بالخوف من غير الله. ولو كان كل حاسد يصيب من يحسده لما بقيت نعمة عند أحد أصلاً لكثرة الحاسدين, لكن الله يمد من يشاء رغم الحاسدين, وها نحن نرى أكثر من يصابون بالعين من التعساء, وأصحاب المليارات يتخطرون آمنين منها! وكانوا هم الأجدى بالحسد تبعاً للنعمة المنظورة!
وليس كل إعجاب هو حسد, قد يكون غبطة, والحسد لا يكون بلا أمل أو منافسة, لكن ليس من أعجب بأحد ارتكب ذنباً ولا من مدح شيئا داخل في النهي, لأن هذا يسبب الإحباط ومشاعر النقص بين المؤمنين وضعف المساندة بين الإخوة في الله خوفا من العين, ولجاز أن أبعد الناس عن التهمة بالعين هم السبابون والهجاءون والمنتقدون؛ لأنهم لا يبدون إعجابهم بأحد, فيكون الحطيئــة من أبعد الناس أن يتهم بالعين لأنه سب أمه وزوجته ونفسه وكل من قابله! مع أنه من أحسد الناس بشهادته على نفسه! والإسلام نهانا عن التعيب: {ويل لكل همزة لمزة} واللمزة هو الذي يتعيب الناس على سبيل التحطيم وليس الإصلاح, فهل اللمزة أفضل ممن يشجع الناس ويثني عليهم بما فيهم من ميزات ولا يكفرها؟ ويرفع معنوياتهم لأنه أبعد عن إصابتهم بالعين والحسد؟ حتى كلمة "ما شاء الله" لم تعد كافية عند كثير من الناس, المهم أنك أبديت إعجابا قبل الإصابة!
ونحن نحب أشخاصا قالوا لنا كلمات إعجاب قبل سنين ونحبهم لأجلها, فهل ينهانا الرسول عن إبداء إعجابنا بعضلات صديقنا أو جمال شعر أخواتنا أو بناتنا؟ مع أن هذه الكلمات تسبب الانتعاش وتخفف هموم الآخرين, وإذا أُعجِبت المرأة بشعر صديقتها كان عاقبة ذلك السرور وليس تساقط الشعر أو الجرب! والرسول نفسه كان يبدي إعجابه ويشجع مثلما أعجِب بحداء أنجشة وقال له (رفقا بالقوارير), وأعجِب بشعر حسان والخنساء, وأعجب بشجاعة وقوة أم عمارة وقال لها: (من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ ) ولم يقل: ما شاء الله كما على النص, فترى لو مرضت أو ضعفت قوتها ستكون هذه الكلمة هي السبب؟ الرسول هو الذي قال لنا تداووا فإن لكل داء دواء, ومازال العلم يكتشف الأدوية.
إن الهروب إلى العين شماعة الفاشلين ليبرزوا أنهم مهمين وتحت الأنظار وليسحبوا أنفسهم من مسؤولية التقصير أو الضعف أو الإهمال، وهذا لا يجعلهم يحسنون أوضاعهم بل يضيعون وقتهم في اتهام الآخرين وطلب العلاج بمغاسلهم، فالطالب الذي يتكرر رسوبه يعلق فشله على هذه الشماعة، بل يجعل نفسه مرموقاً ومهماً يلاحقه الحاسدون ويرمقونه دائماً بنظراتهم الحاسدة وكلماتهم التي تنبغ بالحسد!! مع أن كل إنسان بالأساس مشغول بنفسه ومشاكله التي تعدل الدنيا وما فيها! فهذا من التكبر وتعظيم الذات, فحتى الفشل يُجعل بسبب العين مصدر فخر وتعظيم للذات المعيونة أو المسحورة لتخوفها.
ثم إن الله قال: {أما بنعمة بك فحدث} كيف يتناسب هذا مع الخوف من أعين الناس وإعجابهم؟ والله أبدى إعجابه برسوله فقال : {وإنك لعلى خلق عظيم} ونحن نرى كثيراً من الأمهات يخفين أطفالهن خوفا من الحسد, وبعضهن تنتقص من زوجها وبيتها حتى لا تُحسَد, وبعضهم يضعون التمائم والأحراز وربما الأشكال المخيفة على الأبواب ويبخرون المكان خوفا من الحسد، أي خوف غيبي من غير الله, وبعضهم يلاحق أحدهم خفية من أجل أن يأخذ شيئا ويغسله مع ما في ذلك من المخاطر الصحية, أو إناء ماء ينفث به كل أهل الحارة والمدرسة ليشربه المريض وقد يحمل جراثيم جديدة تزيد من مرضه, مع أن الله هو الشافي, قال تعالى: {وإذا مرضت فهو يشفين}. ولا أخذٌ بالأسباب في الغيبيات إلا تقوى الله وحده, هذا هو الأصل وهي كل الأسباب والاحتياط على اسمها "تقوى" , والأخذ بالأسباب يعني استخدام العقل والعقل لا يعمل في مجال الغيبيات, وإلا يكون الناس عرضة للدجالين والمستغلين ويتمادون بالخرافة والابتعاد عن العقيدة الصافية التي تُرجع كل الغيبيات إلى الله خوفا وطمعا وتوسلا, عقيدة الإسلام الرائعة العقلانية التي لا تأبه بأي ضرر غير مادي من الناس أو الجان, وتكل القدر كله إلى الله, وهي التي نفتخر بها ونعرضها على غير المسلمين الممتلئين بالخرافات وتعظيم البشر.
وحتى لو صحت هذه الأحاديث, فلم يقل الرسول أنكم تستطيعون أن تكتشفوا المعين والعائن بالظن أو آخر من زاره أو أبدى إعجاباً به, لا يوجد نص في هذا, ومع ذلك يفعلونه ويكملون من عندهم. وإن كان هو كرسول اكتشف ذلك فلا يعني أن من هب ودب يستطيع أن يعرف, لأن العين أمر غيبي وسبب غير مادي.
وإن كانت هذه الأحاديث صحيحة مئة بالمئة وغير مخالفة لأساسات الدين لكان دورنا أن نؤمن بوجودها لكن لا نقطع بحدوثها ولا ننسبها لأحد حتى لا ندعي علم الغيب, مثلما نؤمن بوجود الجن والملائكة ولا نراهم ولا ننسب قدراً لهم ولا نحدد أين هم ولا ماذا فعلوا لفلان أو فلانة, و ادعاء علم الغيب ذنب أكبر, فعلم الغيب لله أو ما أطلعه على رسله فقط {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا, إلا من ارتضى من رسول}. ويدخل في هذا تعبير الأحلام وتوجيهها خصوصاً وجهة سيئة, لأن كثيرا من البسطاء يتخذون إجراءات معادية، والرؤيا من عالم الغيب, وإذا فسر الأنبياء شيئاً من الغيب فلا يعني أنهم قدوتنا أن نفسر مثلهم, فإذا استمعوا الوحي فلا يعني أن نقتدي بهم ونستمع للوحي! وهذه من خصوصيات الأنبياء {ويعلمك من تأويل الأحاديث} فهذا كلام خاص بالنبي يوسف، وهذا يدل على أنه علم خاص ليس متاحاً لكل من شاء وأحب مثلما علم سليمان لغة الطير فهل نذهب نتعلم لغة الطيور ونعرف بماذا تعبر؟! وأحدهم طلق زوجته لأن حلما فُسِّر له بأنها سيئة وظلمها دون أن تأتي بفاحشة مبينة مخالفا بذلك أمر الله ودون أن يخبرها بالسبب إلا بعد الطلاق, وهذا تدخُّل في الغيب ينتج العداوات ويكون مصدر كسب واستغلال, لهذا قال تعالى : {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}.
في التفسير يقول الإمام السعديّ - وهو علّامة من علماء التفسير : { ( فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) أي: الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، [ وأحوالهم ] فامتثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أمر ربه، فصبر لحكم ربه صبرًا لا يدركه فيه أحد من العالمين.
فجعل الله له العاقبة وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ولم يدرك أعداؤه فيه إلا ما يسوءهم، حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه
بأبصارهم أي: يصيبوه بأعينهم، من حسدهم وغيظهم وحنقهم، هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعلي، والله حافظه وناصره،
......... }
وقال الإمام ابن كثير : { أَيْ يُعِينُونَك بِأَبْصَارِهِمْ بِمَعْنَى يَحْسُدُونَك لِبُغْضِهِمْ إِيَّاكَ لَوْلَا وِقَايَة اللَّه لَك وَحِمَايَته إِيَّاكَ مِنْهُمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعَيْن إِصَابَتهَا وَتَأْثِيرهَا حَقّ بِأَمْرِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيث الْمَرْوِيَّة مِنْ طُرُق مُتَعَدِّدَة كَثِيرَة
.
فجعل الله له العاقبة وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ولم يدرك أعداؤه فيه إلا ما يسوءهم، حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه
بأبصارهم أي: يصيبوه بأعينهم، من حسدهم وغيظهم وحنقهم، هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعلي، والله حافظه وناصره،
......... }
وقال الإمام ابن كثير : { أَيْ يُعِينُونَك بِأَبْصَارِهِمْ بِمَعْنَى يَحْسُدُونَك لِبُغْضِهِمْ إِيَّاكَ لَوْلَا وِقَايَة اللَّه لَك وَحِمَايَته إِيَّاكَ مِنْهُمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعَيْن إِصَابَتهَا وَتَأْثِيرهَا حَقّ بِأَمْرِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيث الْمَرْوِيَّة مِنْ طُرُق مُتَعَدِّدَة كَثِيرَة
.
ابن كثير زاد واجتهد من فهمه ما لا تحتمله الآية حين قال "لولا وقاية الله لك وحمايته" لأن الآية تقول: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون} ولم يُذكر هذا الاستثناء بالوقاية, فهل يُحسَد على الجنون كما ذكر ابن سعدي وابن كثير بأن المقصود بإزلاق البصر هو الحسد؟ وهم لا يرون في هذه الحالة أن عنده نعمة وإلا لتبعوه, وكل ذي نعمة محسود, لكنهم لم يبدوا إعجابهم به بل العكس تماما وصفوه بالجنون, وهل يحسد أحد يوصف بالجنون أو بالسحر أو بالكذب أو أساطير الأولين؟ بدأوا يحسدون الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نجحت دعوته في المدينة وكثر أصحابه, وإلا فقد كانوا يحتقرونه في مكة ويضعون القاذورات عند بابه, بل وضعوا سلا الجزور على رأسه وهو ساجد, ليس هذا سلوك من يحسد, بل من يحتقر, على الأقل في الظاهر.
حَدِيث أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ " قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا رُقْيَة إِلَّا مِنْ عَيْن أَوْ
حُمَة أَوْ دَم لَا يَرْقَأ "
وحديث اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الْعَيْن حَقّ وَلَوْ كَانَ شَيْء سَابَقَ الْقَدَر سَبَقَتْ الْعَيْن وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا " رواه مسلم
وحديث سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذ الْحَسَن وَالْحُسَيْن يَقُول " أُعِيذكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّة مِنْ كُلّ شَيْطَان وَهَامَة وَمِنْ كُلّ عَيْن لَامَّة" وَيَقُول هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيم يُعَوِّذ إِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام. أخرجه الْبُخَارِيّ
" حَدِيث أَبِي أُمَامَة أَسْعَد بْن سَهْل بْن حُنَيْف قَالَ : مَرَّ عَامِر بْن رَبِيعَة بِسَهْلِ بْن حُنَيْف وَهُوَ يَغْتَسِل فَقَالَ : لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْد مُخَبَّأَة فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ فَأُتِيَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ أَدْرِكْ سَهْلًا صَرِيعًا قَالَ " مَنْ تَتَّهِمُونَ بِهِ " قَالُوا عَامِر
بْن رَبِيعَة قَالَ " عَلَامَ يَقْتُل أَحَدكُمْ أَخَاهُ ؟ إِذَا رَأَى أَحَدكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبهُ فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ " ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَتَوَضَّأ فَيَغْسِل وَجْهه وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَرُكْبَتَيْهِ وَدَاخِلَة إِزَاره وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبّ عَلَيْهِ قَالَ سُفْيَان قَالَ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ وَأَمَرَ أَنْ يُكْفَأ الْإِنَاء مِنْ خَلْفه .
وَ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذ مِنْ أَعْيُن الْجَانّ وَأَعْيُن الْإِنْس فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَك مَا سِوَى ذَلِكَ .
عَنْ أَبِي سَعِيد الخدري أَنَّ جِبْرِيل أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اِشْتَكَيْت يَا مُحَمَّد قَالَ " نَعَمْ " قَالَ بِسْمِ اللَّه أَرْقِيك مِنْ كُلّ شَيْء يُؤْذِيك مِنْ شَرّ كُلّ نَفْس أَوْ عَيْن حَاسِد اللَّه يَشْفِيك بِسْمِ اللَّه أَرْقِيك . وَرَوَاهُ مُسْلِم
حُمَة أَوْ دَم لَا يَرْقَأ "
وحديث اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الْعَيْن حَقّ وَلَوْ كَانَ شَيْء سَابَقَ الْقَدَر سَبَقَتْ الْعَيْن وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا " رواه مسلم
وحديث سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذ الْحَسَن وَالْحُسَيْن يَقُول " أُعِيذكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّة مِنْ كُلّ شَيْطَان وَهَامَة وَمِنْ كُلّ عَيْن لَامَّة" وَيَقُول هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيم يُعَوِّذ إِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام. أخرجه الْبُخَارِيّ
" حَدِيث أَبِي أُمَامَة أَسْعَد بْن سَهْل بْن حُنَيْف قَالَ : مَرَّ عَامِر بْن رَبِيعَة بِسَهْلِ بْن حُنَيْف وَهُوَ يَغْتَسِل فَقَالَ : لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْد مُخَبَّأَة فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ فَأُتِيَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ أَدْرِكْ سَهْلًا صَرِيعًا قَالَ " مَنْ تَتَّهِمُونَ بِهِ " قَالُوا عَامِر
بْن رَبِيعَة قَالَ " عَلَامَ يَقْتُل أَحَدكُمْ أَخَاهُ ؟ إِذَا رَأَى أَحَدكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبهُ فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ " ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَتَوَضَّأ فَيَغْسِل وَجْهه وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَرُكْبَتَيْهِ وَدَاخِلَة إِزَاره وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبّ عَلَيْهِ قَالَ سُفْيَان قَالَ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ وَأَمَرَ أَنْ يُكْفَأ الْإِنَاء مِنْ خَلْفه .
وَ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذ مِنْ أَعْيُن الْجَانّ وَأَعْيُن الْإِنْس فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَك مَا سِوَى ذَلِكَ .
عَنْ أَبِي سَعِيد الخدري أَنَّ جِبْرِيل أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اِشْتَكَيْت يَا مُحَمَّد قَالَ " نَعَمْ " قَالَ بِسْمِ اللَّه أَرْقِيك مِنْ كُلّ شَيْء يُؤْذِيك مِنْ شَرّ كُلّ نَفْس أَوْ عَيْن حَاسِد اللَّه يَشْفِيك بِسْمِ اللَّه أَرْقِيك . وَرَوَاهُ مُسْلِم
[size="5"][b] من المهم جداً الفقه قبل استعمال الحديث, أي فقه القرآن و فقه مقاصد الدين وعقيدته والأخلاق والعقل والمنطق والعلم ثم تستعمل الأحاديث المناسبة ، ولهذا يوجد فقهاء ومحدثون كل في تخصصه. لأن الأحاديث كثيرة وبعضها يتعارض مع القرآن, وبعضها يتعارض مع الحديث, وبعضها يتعارض مع العلم والمنطق، وبعضها يتعارض مع الطب, وبعضها ظلت تُستَعمل وتعتبر صحيحة إلى أن جاء من نبه على ضعفها, ولعلنا هنا نذكر الأحاديث التي ضعفها أو صححها الألباني وقبله البيهقي وغيرهما بعد مئات السنين من الاستعمال وقد كانت تُرى صحيحة.
الأحاديث ليست مثل القرآن، فالقرآن لا يُضعَّف فيه شيء و لا يُصحَّح فيه شيء، وتحتاج الأحاديث إلى فقهاء قبل المحدثين ينظرون إليها نظرة شاملة ويضعونها في إطارها الصحيح, المحدث محدث والفقيه فقيه. وليس من استعمل حديثا صار فقيها. والفقهاء يوقفون أحكاماً كثير من الأحاديث ويجرون بعضها ويرجحون منها, والمحدثون أيضا يمحصون في روايات الأحاديث ولازالوا يكتشفون ضعيفا يصحَّح أو صحيحا يضعَّف, والاجتهاد مفتوح للأمة وعلمائها. لهذا المسلم يكرر عشر مرات في اليوم {اهدنا الصراط المستقيم} والعلم الصحيح من الهداية، ولم يقل (ثبتنا على الصراط المستقيم) إذن المسلم في حالة بحث دائمة عن الحقيقة والأفضل والأقرب رشداً ، وإيقاف الاجتهاد ضد الفطرة وضد طلب الصراط المستقيم وضد حيوية الإسلام وتناسبه لكل عصر وزمن .
أنا ذكرت أن فكرة الإصابة بالعين لا تحمل خيرا للأمة وتورث البغضاء والأوهام والعداوات ولا يستفيد منها أحد, واذكري خيرا واحدا فيها, والله يقول : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فأين الرحمة فيها؟ ويقول : {وكونوا عباد الله إخوانا}, ويقول { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}. وهي لا تتناسب مع آية: {كل نفس بما كسبت رهينة}, فالعائن يصيب رغما عنه, فهل سيحاسَب؟ والمعروف أن الشر يأتي بنية وإرادة حرة وعليه سوف يحاسب ، والمعيون يصاب رغماً عنه فهل هي عقوبة؟
الله يستطيع أن يعاقب أو يكافئ بدون وسطاء من أصحاب العيون. وهل كل حاسد يصيب من يحسده بطريقةِ آلية؟ هذا غير واقعي, كلنا في يوم من الأيام حسدنا أحد على نعمة أو حسدناه ولم يصبهم شيء بطريقة قاطعة ومباشرة وأحرقنا حسدنا فقط كما قيل :
"اصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله *** فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله",
إلا من تمادى بحسده وأخرجه إلى حيز التنفيذ وهو الذي أمرنا الله بالاستعاذة منه بقوله : {ومن شر حاسد إذا حسد}, لأنه أضمر الشر وقد يفعل السوء أو يقوله رغبة في زوال النعمة أو الإضرار بالمحسود بنميمة أو غيبة أو افتراء ...إلخ, كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم } هكذا تجسد حسدهم على شكل رد وصد عن ذكر الله وليس على شكل إصابة بالعيون. لنقس حسد هؤلاء على حسد كفار قريش الذين يُزلقون بالأبصار, هذه الآية ذُكر فيها الحسد ولم تذكر الإصابة بالعين, لو أن الإزلاق بالبصر ذُكر بعد الحسد لفهمنا أن المقصود هو العين, لكن هذا لم يحدث. وذيلت الآية بقوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} ولم يقل فاستعيذوا من عيون الحساد الذين أوتوا الكتاب.
وهل غير المسلمين يحسد بعضهم بعضا وهاهم يغزون الفضاء؟ وكيف أنبذ شخصا أو أسيئ إلى سمعته وأنسب إليه مصيبتي وهو لم يفعل شيئا عملياً يضرني؟ سوى أنني أتهمه أو يتهمه غيري بالعين تبعا للظن ، وفي نفس الوقت أترك من يضرني بنية وعمل؟ والله يقول : {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} ولا أحد يتكلم بالعين إلا من خلال الظن, وإلا فهو مدع لعلم الغيب وعلم الغيب لله, و اتباع الظن السيء إثم لهذا ينتج العداوة والرسول أمرنا بإحسان الظن بإخواننا, إلا بعد تثبت, فأي تهمة تحتاج إلى تثبت ولا توزع بسهولة, وكما قال صلى الله عليه وسلمادرؤوا الحدود بالشبهات) و قال تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}, والعين لا تبين فيها ولا تثبت, مثلها مثل المس أو تأثير السحر على المسحور أو الرؤيا المنامية ومثل التبصير والتنجيم والأبراج, كلها بلا تثبت ورجمٌ بالغيب, ولا يمكن القطع بثبات الإصابة بهذه الأمور إلا من خلال الظن والقرائن, والقرائن لا تكفي لإثبات أي تهمة. إذن لا يناسب المؤمن أن يقفو ما ليس له به علم كما نهانا القرآن, والغيب لا علم لنا به, والإصابة بالعين لا نعرف كيف تتم ولا نعرف حديث النفوس، فالله هو الذي يعلم ما في النفوس, وهو الذي نلجأ إليه إذن في المعرفة والعلاج إذا استنفدنا العلم الذي أعطانا الله إياه علم الشهادة وأثنائه, لأن هذه الموضوعات خارج عالم الشهادة فلا يمكن التثبت منها, لا أحد يستطيع أن يثبت شيئا عن الملائكة ويقطع بوجودهم في مكان محدد ولا كم عددهم ولا هيأتهم لكن نؤمن بوجودهم ونترك الأمر لله، فكيف يثبت إذن شيء عن الجن؟ والجميع من عالم الغيب؟
هل من أتهمه بالعين مثل من غشني أو كذب علي أو ظلمني أو أهانني؟ هذا ليس من العدل ولا من التثبت. ومن يكره الظلم يبتعد عن مثل هذه الاتهامات ولا يوزعها على الناس بالشبهة, حيث يسيء إلى سمعة أخيه المسلم ويحزنه وهو بريء, وهذا ما يريده الشيطان: العداوة والبغضاء أن تنتشر بين المؤمنين مثل ما أرادها في الخمر والميسر, والجميع متضرر ولا أحد مستفيد, حتى الإيمان ونقاء العقيدة يتضرر بالخوف من غير الله. ولو كان كل حاسد يصيب من يحسده لما بقيت نعمة عند أحد أصلاً لكثرة الحاسدين, لكن الله يمد من يشاء رغم الحاسدين, وها نحن نرى أكثر من يصابون بالعين من التعساء, وأصحاب المليارات يتخطرون آمنين منها! وكانوا هم الأجدى بالحسد تبعاً للنعمة المنظورة!
وليس كل إعجاب هو حسد, قد يكون غبطة, والحسد لا يكون بلا أمل أو منافسة, لكن ليس من أعجب بأحد ارتكب ذنباً ولا من مدح شيئا داخل في النهي, لأن هذا يسبب الإحباط ومشاعر النقص بين المؤمنين وضعف المساندة بين الإخوة في الله خوفا من العين, ولجاز أن أبعد الناس عن التهمة بالعين هم السبابون والهجاءون والمنتقدون؛ لأنهم لا يبدون إعجابهم بأحد, فيكون الحطيئــة من أبعد الناس أن يتهم بالعين لأنه سب أمه وزوجته ونفسه وكل من قابله! مع أنه من أحسد الناس بشهادته على نفسه! والإسلام نهانا عن التعيب: {ويل لكل همزة لمزة} واللمزة هو الذي يتعيب الناس على سبيل التحطيم وليس الإصلاح, فهل اللمزة أفضل ممن يشجع الناس ويثني عليهم بما فيهم من ميزات ولا يكفرها؟ ويرفع معنوياتهم لأنه أبعد عن إصابتهم بالعين والحسد؟ حتى كلمة "ما شاء الله" لم تعد كافية عند كثير من الناس, المهم أنك أبديت إعجابا قبل الإصابة!
ونحن نحب أشخاصا قالوا لنا كلمات إعجاب قبل سنين ونحبهم لأجلها, فهل ينهانا الرسول عن إبداء إعجابنا بعضلات صديقنا أو جمال شعر أخواتنا أو بناتنا؟ مع أن هذه الكلمات تسبب الانتعاش وتخفف هموم الآخرين, وإذا أُعجِبت المرأة بشعر صديقتها كان عاقبة ذلك السرور وليس تساقط الشعر أو الجرب! والرسول نفسه كان يبدي إعجابه ويشجع مثلما أعجِب بحداء أنجشة وقال له (رفقا بالقوارير), وأعجِب بشعر حسان والخنساء, وأعجب بشجاعة وقوة أم عمارة وقال لها: (من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ ) ولم يقل: ما شاء الله كما على النص, فترى لو مرضت أو ضعفت قوتها ستكون هذه الكلمة هي السبب؟ الرسول هو الذي قال لنا تداووا فإن لكل داء دواء, ومازال العلم يكتشف الأدوية.
إن الهروب إلى العين شماعة الفاشلين ليبرزوا أنهم مهمين وتحت الأنظار وليسحبوا أنفسهم من مسؤولية التقصير أو الضعف أو الإهمال، وهذا لا يجعلهم يحسنون أوضاعهم بل يضيعون وقتهم في اتهام الآخرين وطلب العلاج بمغاسلهم، فالطالب الذي يتكرر رسوبه يعلق فشله على هذه الشماعة، بل يجعل نفسه مرموقاً ومهماً يلاحقه الحاسدون ويرمقونه دائماً بنظراتهم الحاسدة وكلماتهم التي تنبغ بالحسد!! مع أن كل إنسان بالأساس مشغول بنفسه ومشاكله التي تعدل الدنيا وما فيها! فهذا من التكبر وتعظيم الذات, فحتى الفشل يُجعل بسبب العين مصدر فخر وتعظيم للذات المعيونة أو المسحورة لتخوفها.
ثم إن الله قال: {أما بنعمة بك فحدث} كيف يتناسب هذا مع الخوف من أعين الناس وإعجابهم؟ والله أبدى إعجابه برسوله فقال : {وإنك لعلى خلق عظيم} ونحن نرى كثيراً من الأمهات يخفين أطفالهن خوفا من الحسد, وبعضهن تنتقص من زوجها وبيتها حتى لا تُحسَد, وبعضهم يضعون التمائم والأحراز وربما الأشكال المخيفة على الأبواب ويبخرون المكان خوفا من الحسد، أي خوف غيبي من غير الله, وبعضهم يلاحق أحدهم خفية من أجل أن يأخذ شيئا ويغسله مع ما في ذلك من المخاطر الصحية, أو إناء ماء ينفث به كل أهل الحارة والمدرسة ليشربه المريض وقد يحمل جراثيم جديدة تزيد من مرضه, مع أن الله هو الشافي, قال تعالى: {وإذا مرضت فهو يشفين}. ولا أخذٌ بالأسباب في الغيبيات إلا تقوى الله وحده, هذا هو الأصل وهي كل الأسباب والاحتياط على اسمها "تقوى" , والأخذ بالأسباب يعني استخدام العقل والعقل لا يعمل في مجال الغيبيات, وإلا يكون الناس عرضة للدجالين والمستغلين ويتمادون بالخرافة والابتعاد عن العقيدة الصافية التي تُرجع كل الغيبيات إلى الله خوفا وطمعا وتوسلا, عقيدة الإسلام الرائعة العقلانية التي لا تأبه بأي ضرر غير مادي من الناس أو الجان, وتكل القدر كله إلى الله, وهي التي نفتخر بها ونعرضها على غير المسلمين الممتلئين بالخرافات وتعظيم البشر.
وحتى لو صحت هذه الأحاديث, فلم يقل الرسول أنكم تستطيعون أن تكتشفوا المعين والعائن بالظن أو آخر من زاره أو أبدى إعجاباً به, لا يوجد نص في هذا, ومع ذلك يفعلونه ويكملون من عندهم. وإن كان هو كرسول اكتشف ذلك فلا يعني أن من هب ودب يستطيع أن يعرف, لأن العين أمر غيبي وسبب غير مادي.
وإن كانت هذه الأحاديث صحيحة مئة بالمئة وغير مخالفة لأساسات الدين لكان دورنا أن نؤمن بوجودها لكن لا نقطع بحدوثها ولا ننسبها لأحد حتى لا ندعي علم الغيب, مثلما نؤمن بوجود الجن والملائكة ولا نراهم ولا ننسب قدراً لهم ولا نحدد أين هم ولا ماذا فعلوا لفلان أو فلانة, و ادعاء علم الغيب ذنب أكبر, فعلم الغيب لله أو ما أطلعه على رسله فقط {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا, إلا من ارتضى من رسول}. ويدخل في هذا تعبير الأحلام وتوجيهها خصوصاً وجهة سيئة, لأن كثيرا من البسطاء يتخذون إجراءات معادية، والرؤيا من عالم الغيب, وإذا فسر الأنبياء شيئاً من الغيب فلا يعني أنهم قدوتنا أن نفسر مثلهم, فإذا استمعوا الوحي فلا يعني أن نقتدي بهم ونستمع للوحي! وهذه من خصوصيات الأنبياء {ويعلمك من تأويل الأحاديث} فهذا كلام خاص بالنبي يوسف، وهذا يدل على أنه علم خاص ليس متاحاً لكل من شاء وأحب مثلما علم سليمان لغة الطير فهل نذهب نتعلم لغة الطيور ونعرف بماذا تعبر؟! وأحدهم طلق زوجته لأن حلما فُسِّر له بأنها سيئة وظلمها دون أن تأتي بفاحشة مبينة مخالفا بذلك أمر الله ودون أن يخبرها بالسبب إلا بعد الطلاق, وهذا تدخُّل في الغيب ينتج العداوات ويكون مصدر كسب واستغلال, لهذا قال تعالى : {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}.
تعليق