دفعتني الأحداث الأخيرة التي تجري في سوريا إلى التوجه بالحديث مباشرة إلى الشعب الأميركي وقادته السياسيين، وهو أمر من الضروري القيام به في وقت يغيب فيه التواصل بين مجتمعينا. لقد مرت العلاقات بين أميركا وروسيا بمراحل مختلفة، من الصدام خلال الحرب الباردة، إلى التحالف في أوقات أخرى عندما هزمنا النازية معاً، ليتم لاحقاً إنشاء منظمة دولية هي الأمم المتحدة لتفادي دمار الحروب ومنع تكرار أهوالها.
وقد أدرك مؤسسو الأمم المتحدة أن القرارات المهمة المرتبطة بالحرب والسلام ينبغي أن تؤخذ بالتوافق، وتم التأكيد على هذا الأمر وبموافقة أميركية عبر النص على حق «الفيتو» الذي أشار إليه ميثاق الأمم المتحدة.
وإذا كنا ننعم اليوم بالاستقرار في العلاقات الدولية فذلك راجع بالأساس إلى حكمة النص على مبدأ حق «الفيتو». وبالطبع لا أحد يريد للأمم المتحدة أن تعاني من مصير عصبة الأمم التي انهارت لافتقادها القدرة على تنفيذ قراراتها، ولكنه أمر محتمل أيضاً إذا أصرّت الدول على تجاوز المنظمة والإقدام على تحركات عسكرية دون تصريح من مجلس الأمن الدولي. ويرجح أن الضربة المحتملة التي تستعد الولايات المتحدة لتوجيهها إلى سوريا، على رغم المعارضة القوية لعدد من البلدان لها، وكذلك معارضة قادة دينيين كبار مثل البابا، ستؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، وسيتصاعد الموقف ليمتد الصراع إلى خارج الحدود السورية.
كما أن الضربة ستزيد من وتيرة العنف وستطلق موجة جديدة من الإرهاب، ولا ننسى أيضاً أنها قد تضعف الجهود الدولية الرامية إلى إيجاد تسوية للملف النووي الإيراني، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وستقود إلى مزيد من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وباختصار ستعصف الضربة بروح القانون الدولي.
putin
وفي هذا السياق علينا أن ندرك أن ما تشهده سوريا حالياً ليس معركة من أجل الديمقراطية، بل هو صراع مسلح بين الحكومة والمعارضة في بلد متعدد الطوائف والأديان، ولا يوجد عدد كبير من المدافعين عن الديمقراطية في سوريا، ولكن في المقابل هناك ما يكفي من مقاتلي «القاعدة» والمتطرفين من جميع الأنواع منخرطين في محاربة حكومة دمشق. وقد سبق لوزارة الخارجية الأميركية أن أدرجت تنظيمي «جبهة النصرة» و«دولة العراق والشام الإسلامية»، اللذين يقاتلان إلى جانب المعارضة، ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، ليتحول هذا الصراع الداخلي الذي تؤججه إمدادات الأسلحة الموجهة للمعارضة إلى أحد أسوأ الصراعات وأكثرها دموية في العالم. وأضحت أعداد المسلحين الذين يقاتلون إلى جانب المعارضة، بالإضافة إلى المئات من المسلحين القادمين من البلدان الغربية وحتى من روسيا مصدر قلق بالغ بالنسبة لنا: ألا يمكن لهؤلاء المقاتلين أن يرجعوا إلى بلدانهم مزودين بخبرات قتالية من سوريا؟
لاسيما ونحن نشاهد كيف تسلل المقاتلون من ليبيا إلى مالي، وهو الأمر الذي يهددنا جميعاً.
ولذا كانت روسيا منذ البداية سباقة للمطالبة بحوار سلمي يمكن السوريين من صياغة خطة متوافق عليها لإدارة بلدهم والتحكم في مصيرهم. ونحن هنا لا نحمي الحكومة السورية بقدر ما نتشبث بالقانون، فنحن في حاجة إلى استخدام مجلس الأمن، ونعتقد أن التقيد بالقانون في عالمنا المعقد والمضطرب هو السبيل الأمثل لمنع انزلاق العلاقات الدولية إلى الفوضى، فالقانون هو القانون وعلينا اتباعه شئنا ذلك أم أبينا، هذا القانون الذي يقول إن القوة العسكرية لا تستخدم إلا في حالة الدفاع عن النفس، أو بقرار من مجلس الأمن الدولي، وأي شيء آخر لا يمكن القبول به بموجب ميثاق الأمم المتحدة، ويمثل عملاً عدائياً لاشك فيه.
ومع أنه لا أحد يشكك في استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، إلا أن هناك أسباباً تدفعنا للاعتقاد بأن من استخدمه ليس الحكومة السورية، بل قوات المعارضة لدفع حلفائها في الخارج للتدخل والاصطفاف إلى جانب الأصوليين. ولا يمكن التغاضي عن التقارير التي تشير إلى تحضير المقاتلين لشن هجمات جديدة على إسرائيل. ولعل من المثير للقلق أن يتحول التدخل العسكري في الشؤون الداخلية للدول إلى أمر اعتيادي لدى الولايات المتحدة، ولكن، هل يخدم ذلك مصالح أميركا نفسها على المدى البعيد؟ أشك في ذلك، إذ ما زال الملايين من الناس حول العالم ينظرون إلى أميركا ليس على أنها نموذج للديمقراطية، بل كدولة تعتمد على القوة الغاشمة التي غالباً ما تصاغ تحت عنوان «إما أنك معنا… أو ضدنا»!
والحال أن القوة أثبتت في مناسبات عديدة عدم جدواها، مثلما هو عليه الأمر اليوم في أفغانستان التي لا أحد يستطيع أن يجزم بما ستؤول الأمور فيها بعد انسحاب القوات الدولية، فيما تعيش ليبيا على وقع الانقسامات القبلية والعشائرية، وتستمر الحرب الأهلية في العراق مع سقوط عشرات القتلى يومياً. ومهما كانت الضربات العسكرية دقيقة وكانت الأسلحة متطورة فلا مفر من سقوط الضحايا المدنيين في صفوف الأطفال والنساء والمسنين، ولذا وأمام التهديد بضرب سوريا يتساءل العديد من دول العالم عن الطريق الأمثل لحماية نفسها ما دام القانون الدولي عاجزاً عن ذلك لتجد الجواب في امتلاك المزيد من أسلحة الدمار الشامل! وهو في الحقيقة أمر منطقي إذ بوجود القنبلة النووية لا أحد يجرؤ على مهاجمتك، الأمر الذي يحتم علينا التخلي عن لغة القوة والحرب والعودة إلى الطريق الدبلوماسي والحلول السياسية.
وفي هذا الصدد يبدو أن فرصة جديدة قد ظهرت قبل أيام قليلة لتفادي التدخل العسكري في سوريا تتمثل في تجاوب المجتمع الدولي مع ما أبدته الحكومة السورية من استعداد لوضع سلاحها الكيماوي تحت الإشراف الدولي تمهيداً لتدميره لاحقاً. ووفقاً لما قاله أوباما تنظر الولايات المتحدة إلى هذا التطور باعتباره بديلاً عن استخدام القوة.
وأخيراً أود أن أبدي ملاحظة على خطاب أوباما الأخير الموجه إلى الشعب، حيث أجد نفسي مختلفاً مع فكرة الاستثناء الأميركي التي أشار إليها في الخطاب، لأنني أعتقد شخصياً أنه من الخطورة بمكان تشجيع الناس على الاعتقاد بأنهم استثنائيون مهما كانت الدوافع. فكل ما هنالك أننا في هذا العالم أمام دول كبرى وأخرى صغيرة، وبلدان غنية أو فقيرة، وأخرى بتقاليد ديمقراطية عريقة فيما يكافح بعضنا الآخر لتملس طريقه نحو الديمقراطية، ومهما كان اختلافنا، وهو موجود وحقيقي، إلا أننا ونحن نتوجه إلى السماء بالدعاء علينا ألا ننسى أن الله خلقنا جميعاً سواسية.
——
فلادمير بوتين
رئيس جمهورية روسيا الاتحادية