كان الحجاج بن يوسف الثقفي، يدعي، أنه ضليع في علوم القرآن، وكان في مجالسه كثير التبجح بذلك، ولكنه كان يقول، لا زلت لم أفهم معنى قوله تعالى:
(وانْ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً) النساء، 159.
فرد عليه أحد الجالسين قائلاً، أتعطيني الأمان وأهديك معناها؟ قال له الحجاج لك الأمان فهات ما عندك.
قال: إن أهل الكتاب (النصارى) سيؤمنون بالمسيح(ع) عند عودته للخروج مع المهدي(عج)، فإن الله سبحانه وتعالى يقول فيما تقدم هذه الآية:
(وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً) النساء، 158.
وإنه(ع) بعد ظهوره يلتحق بالإمام المهدي(عج) ويدعو النصارى للإيمان به فيؤمنون به على دين الله والإسلام.
وقد قال الحجاج - وكأنه الفت إلى علم جم - أصبت حقاً ولكن من أين لك هذا.. قال اني علمته من محمد بن علي بن الحسين(ع)، قال لقد أخذته من عينه.
وقد اعترض الغافلون على القول بتبعية عيسى النبي(ع) وهو من اولي العزم للإمام المهدي(عج) وهو ليس بنبي، ذلك لانهم لم يلتفتوا إلى آيات من سورة الكهف تقص اتّباع موسى النبي(ع) وهو من اولي العزم كذلك إلى الخضر(ع) لأمر الله تعالى ومشيئته، فليلتفت الغافلون.
فكرة المهدي وحقيقة المهدي(عج)
ابتدءاً فكرة المهدي المنتظر ليست ابتداع المسلمين فقط أو طائفة منهم بل إنها:
عقيدة كل الاديان السماوية.. وحتى إن وجدت في غيرها فإنها اصلاً جاءت من الدين.. والدين عند الله تعالى واحد والخبر الذي يصل من الله تعالى إلى الأنبياء واحد.. ثم إننا على مر تاريخ الإنسان على هذه الأرض لم نجد فكراً على الإطلاق رافق الإنسان كالفكر الديني... وإن كان للإنسان أن ينكر سلطان أية فكرة، فإنه لا يستطيع على الواقع أن ينكر سلطان فكر الدين على الناس.. ذلك لأن العقيدة فطرة الإنسان، تبرز من تكوينه واصل خلقته. ولا تتلبس تماماً إلا مع الدين باعتباره من خالق الإنسان والعالم بخلقته المستجيب لحاجته الحق والمجيب لتساؤلاته الصدق.
عقيدة الإيمان بالمهدي(عج) تمثل تجسيداً لسنة كونية هي الإمامة - نشرت في العدد السابق تفاصيل علمية عن معاني السنة الكونية للامامة - حيث الإمام في خلق الناس هو معنى الحسن في خلق الإنسان، ولا يمكن بحال من الأحوال فصل هذا المعنى الحسن عن احسان الله تعالى المحفوظ في كتابه. وذلك ما يشير إليه قول النبي(ص) في حديث الثقلين:
عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله(ص): (إني تارك فيكم الخليفتين من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)(1).
وقد ورد الحديث مروياً من قبل خمسة وثلاثين صحابياً وتسعة عشر تابعياً(2).
وقد صححه كثير من العلماء منهم الطبري، الحاكم في المستدرك، الذهبي في تلخيص المستدرك، الهيثمي في مجمع الزوائد، ابن كثير في تفسيره، السيوطي في الجامع الصغير، المناوي، محمد بن اسحاق(3) ففكرة المهدي(عج) وعقيدته هي مصداق لمعاني السنة ومعاني قول النبي الأكرم(ص) في الثقلين وعدم افتراقهما حتى يردا عليه الحوض. وإلا فبدون المهدي(عج) كيف نتصور عدم الافتراق!!
لا يمكن بيان معاني السنن الكونية والسنن التكوينية بشكل واضح إلا من خلال حقيقة وجود المهدي(عج)، بل لا يمكن فهمها:
سنة الطاعة
مثلما تكون الطاعة صحيحة قائمة على الصدق في زمن الرسول(ص)، باعتباره مصدرها ومشرعها المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأن كل ما دونها بدعة وضلالة.. كذلك لا تأتي الطاعة بتمام وكمال معناها إلا مع وجود المعصوم الذي لا يصدر عنه الخطل والخطأ.. فأين هو؟!
سنة الرحمة
قال تعالى: (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء، 107.
إذا كانت رحمة الله تعالى متصلة وغير منقطعة، فقد أرسل سبحانه الرسل تترا رحمة للعالمين منذ آدم(ع) حتى الختم بمحمد(ص). فهل انقطعت الرحمة المتجسدة بارسال الرسل بموت الحبيب(ص) في خيار الله تعالى لعباده!!
إن المهدي(عج) هو الرحمة المتجسدة لامتداد الرسل. وهو(عج) كالشمس ينتفع بها وإن حجبتها السحب، فإن عملية التركيب الضوئي التي هي أساس الحياة على الأرض والتي بدونها لا حياة، إنما مصدرها الشمس، وهي تجري لمجرد وجود الشمس وإن حجبها السحاب، وكذا الإمام المهدي(عج) فإن مجرد وجوده وإن احتجب رحمة للعالمين وهداية للخلق.
الحق والعدل
الحق، هو الصدق الثابت المنقول عن الواقع، والعدل هو تجسيد الحق في الواقع أيضا.. وإن الحق معرفة تحتاج إلى رفع القصور عن العقل البشري لتدرك، والعدل فعل يحتاج إلى معرفة الحق ومعرفة في تجسيده في الواقع.
قال تعالى في ذلك:
(وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف، 181.
(ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف، 159.
فالحق علم والعدل عمل بالحق. وهذا لا يتوفر لكل من كان مع القصورات الذاتية والحيوية والعقلية التي تشمل تكوين الخلقة الإنسانية.. إلا أن الإمام له مهمة ربانية ومنصب عقائدي مؤثر، مصمم بمشيئة الله تعالى لكل زمان ومكان مهمته الهداية بالحق والعدل به وتجسيده.
فالمهدي(عج) هو من سلالة اختارها الله تعالى واصطفاها لمشيئته: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) آل عمران، 33.
وروي عن النبي المصطفى(ص) في ذلك بأكثر من (300) حديث أشارت إليها كتب الصحاح في مواضعها.
القيامة والآخرة
ينتقل الإنسان من عالم إلى عالم آخر في خلق من بعد خلق باتجاه الكمال والاستقرار والخلود في معاني وجوده، ابتداءً من عالم الذر إلى عالم الاصلاب حيمناً ثم إلى عالم الارحام جنيناً ثم إلى عالم الأرض إنساناً، ثم إلى عالم الموت جنازة ثم إلى عالم البرزخ في القبر ثم إلى عالم النشور والحشر والقيامة والحساب ثم إلى عالم الجزاء إما ثواباً في الجنة أو عقاباً في النار.
ذلك هو الانتقال حتم مقضي على كل آدمي لابد منه وان مسيرة الآدمي في تلك النقلات إلى حيث الثواب كما يرغب فيه كل ذي لب، لا يتم إلا من خلال نموذج احسن للكمال، لأن السير في لجج الظلمات ولمام النفاق ومجامع الشرك لا يوصل إلا للعقاب.. فأين هو النموذج الأحسن للكمال الإنساني الأجدر بالاتباع للفوز بثواب الله الحتمي؟! وهل هو إلا الإمام المهدي المعصوم!!
إن عدم الإيمان بالإمام المعصوم قيّماً وهادياً يعني الضياع لأنه يعني عدم الاكتراث بمعاني القيامة وما يسبقها وما يعقبها.. وإن صدق الإيمان بالمهدي(عج) ومعاني وجوده وقيامه على الأمر في هذا الزمان يحيي سنة القيامة ومعانيها في النفوس.
سنة البلاء
كل شيء مبتلى ومبتلى به، وكل لحظة من الزمن في عمر الإنسان هي حيز بلاء لابد منه، والصبر هو التزام الدين في حسن البلاء وسوءه، أما صبراً على الطاعة في جنب الله تعالى، أو صبراً عن المعصية لأمر الله تعالى.
والناس يختلفون في رؤية البلاء بما عندهم من دين، ثم أن نسبية المصائب عندهم هي التي ترفع الإنسان وتخفضه عند الله تعالى.
وقد ذكر ذلك في مقالة سابقة من هذه المجلة ضمن معاني البلاء كسنة لتجلي الحسن الرباني(4)، والآن جاء بيان معاني بلاء المهدي(عج) في غيبته للأمة وبلاء الأمة به.
والله سبحانه وتعالى يمنح عبده ثواباً عظيماً لا حدود له بما يصبر على بلائه، ومن هنا لننظر مقدار الحسن والرحمة في بلاء المهدي(عج) والامة.
فلابد للإنسان ذي الدين أن يكون في موقع هم وغم من أمر الأمة وما صارت إليه من تفتت وضياع، وتسلط الصهاينة على مقدساتهم، وكل مظاهر الظلم والجور والفساد التي لا تليق بمعاني الإسلام العظيم، منتظراً لفرج الإمام(عج)، حتى تكون العقيدة الإسلامية، هي مفتاح كل فكرة يحملها في حياته ولا بلاء له سوى دينه، فقد روى الصيرفي قال:
دخلت أنا والمفضل بن عمر وابو بصير وابان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله الصادق(ع)، فرأيناه جالساً على التراب وعليه مسح، - والمسح، الكساء من الشعر - خيبري مطوق بلا جيب مقصّر الكمين وهو يبكي بكاء الواله الثكلى ذات الكبد الحرى، قد نال الحزن من وجنتيه وشاع التغيير في عارضيه وابلى الدمع محجريه وهو يقول:
سيدي غيبتك اوصلت مصابي بفجايع الأبد وفقد الواحد بعد الواحد، يفني الجمع والعدد، فما أحس بدمعة ترقى من عيني وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا إلا مثل بعيني عن غوابر اعظمها وافظعها بواقي اشدها وانكرها ونوائب مخلوطة بغضبك ونوازل معجونة بسخطك.
قال الصيرفي: فاستطارت عقولنا ولهاً وتصدعت قلوبنا جزعاً من ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل، وظننا انه سمت لمكروهة قارعة أو حلت به من الدهر بائقة فقلنا: لا أبكى الله يا ابن خير الورى عينيك، من أية حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عبرتك؟ وأية حالة حتمت عليك هذا المأتم؟
قال: فزفر الصادق(ع) زفرة انفتح منها جوفه واشتد عنها خوفه وقال ويلكم نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الذي خص الله به محمداً(ص) والأئمة من بعده، وتأملت منه مولد قائمنا وغيبته وابطاءه وطول عمره وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته وارتداد اكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الإسلام من اعناقهم التي قال الله تقدس ذكره (وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه) يعني الولاية. فأخذتني الرقة واستولت علي الأحزان) (كمال الدين: ص354).
من خلال هذه القصة نجد أن بلوى الغيبة بلوى عظيمة، وبذلك يصبح لانتظار الفرج معاني الثبات والصبر على الإيمان ومعاني العمل والاستعداد لاستقبال الثائر المصلح العظيم المنتظر في إعداد النفس والمجتمع والامة، وبذلك يكون احب الأعمال إلى الله تعالى انتظار الفرج.
قال الإمام(ع): (أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج) (كمال الدين: باب ما اخبر به النبي(ص) ص287).
وعن رسول الله(ص): (أفضل أعمال امتي انتظار الفرج من الله عز وجل) (كمال الدين، باب ما روي في ثواب المنتظر للفرج، ص644).
وعن أمير المؤمنين(ع) أيضا: (المنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله) (كمال الدين، باب المنتظر للفرج، ص645).
إن انتظار الفرج في حقيقته هو عبادة الصبر، الذي هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وهو صك اجتياز البلاء بنجاح إلى حيث رضا الله تعالى.
تعليق