وحشة المؤمن في الدنيا
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرج مهدي آل محمد يا كريم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
قال الله سبحانه وتعالى: {يـا أيها الناس أتقوا ربكم واخشوا يوماً لايجزى والدٌ عن ولده ولامولود هو جــازٍ عن والـده شيئأ إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيــــاة الدنيــا ولا يغرنكم بالله الغرور}..
إن هذه الآيات في سورة لقمان، ولقمان قد لا يكون نبياً، فلم تثبت نبوته، ومع ذلك فإن القرآن الكريم يتناول هذا الرجل الحكيم بسورة من سوره.. فهنالك سور باسم الأنبياء مثل: يونس، وباسم النبي الخاتم، ويوسف، وإبراهيم.. ويلاحظ بالإضافة إلى ذلك سورة باسم هذا العبد الصالح الذي أوتي الحكمة.
إن هذا الرجل لم يدخل دورة تربوية، ولم يتتلمذ على يد أستاذ.. إنما كان إنساناً، ولعله كان عبداً من العبيد في زمانه.. ولكن الله عز وجل أراد أن يكرمه بالحكمة.. ومعنى ذلك أن الحكمة ضـالة المؤمن، فالبعض منا يتقاعس عن البحث عن الحكمة، ويتقاعس عن التقرب إلى الله عز وجل بالعلم والعمل، بدعـوى أن البيئة لا تساعده، وأنه ليس هناك من يرشـده إلى الطريق.. فهو يحتاج إلى مربي وإلى مرشد وأستاذ ودليل كالسلف الصالح، فيركن إلى الحياة الدنيا.. فـلقـمان إنسان يثير تعجب نبي من الأنبياء، وذلك عندما دخل على سيدنا داوود "عليه السلام"، وكان يصنع الدرع.. فلم يسأله لماذا يعمل هذا اللبوس؟.. فهو يرى أن سؤاله في غير محله، فانتظر إلى أن رأى الحكمة من صنع هذا الدرع.. وقد أكبر سيدنا داوود "عليه السلام" هذا الصمت والتأمل، وعدم المبادرة في السؤال من هذا العبد الصالح.
فالآية المختارة في هذه السورة: {اتقوا ربكم}.. فالمقصود من التقوى هو أن نجعل بيننا وبين الله عنصر وقاية.. فتارة يعبر القرآن عن التقوى بالنسبة إلى غضب الله، وإلى نار جهنم.. وتارة يكون التقوى من الله عز وجل.. فهناك فرق بين أن يخاف الإنسان عذاب ربه، وبين أن يخشى ربه.. {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى}.. فخشية المقام هي درجة عالية من درجات العرفان والصلاح في الإنسان المؤمن، فالمؤمن لا ينظر إلى عذابه، بل ينظر إلى موقعه في هذا الوجود.. فهو كان نطفة قذرة، ويعود جيفة نتنة.. والله هو مالك الملك، فطاعة هذا الرب هو المطابق للعقل وللوجدان.. وإذا كانت خشية المؤمن من الله عز وجل، وخوفه من ربه {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}.. فإن طريق مخالفة الهوى هو عـظمة الرب في قـلب الإنسان.. صلوات الله عـلى مولانا أمير المؤمنين حيث أشار الى هذه النقطة: (عظم الخالق في أنفسهم فـصغر ما دونه في أعينهم).. وممن صغر الشهوات فهو يراها صغيرة جداً، ولهذا فالمؤمن لا يعاني من ترك الشهوات أبداً، لأنها حقـيرة فـي باطـنه.
{اتقوا ربـكم واخشوا يوماً}.. أي اتقوا الله واتقوا ذلك اليوم!.. فـعامة الناس، يخافون عذاب الله عز وجل.. وأما الخواص، فهم يخافون الله عز وجل بذاته، من دون احـتساب جـنة أوعـذاب..{اخـشوا يوماً لا يجـزي والـد عن ولـده ولامولود عن والـده}.. هذه هي الحياة الدنيا، فملخـص حـياة الإنسان هو أن يتزوج، ومن ثم يـتناسل، ويربي ولـده، ويسلمه للمجتمع.. وقـسم كبير من حـيـاة الإنسان، ومن زهـرة شباب الإنسان، يصرفه في تربية الولد كوجود مـادي، لا كأمـانة إلــهية.. يقول تعالى: أيها الإنسان!.. أنت تعبت في إيجاد هذا الولد في خلقه بإذن الله عز وجل، وربيته كبيراًُ على آمال بعيدة.. ولكن يأتي ذلك اليوم الذي لا رابطة بينك وبين ولدك.. {وإذا نفخ في الصور فلا أنساب}.. أي ليس هناك نسب، فأين الذي كان له سعيك وكدك؟.. لا يجزى والد عن ولده، الأب يؤخذ به إلى النار، ويرى ولده في عرصات يوم القيامة فيقول له: ولدي!.. أنا الذي أتعبت شبابي، وأتلفت عمري في تربيتك، وأنا الآن أحتاج إلى حسنة تنقذني من النار.. فـيجيبه الولد: أبتاه!.. هذا اليوم لا أستطيع أن أعطيك شيئاً
وعليه فأن مقتضى ماتقدم لا يعني:- لا يعني أن نهمل أمر الأولاد، بل هذه أمانـتنا.. ولكن يجـب أن يكون الإهتمام بهم وفق معايير:
أولاً: أن نعطيهم مقدار ما أمر الله تعالى به، في الحديث الشريف: (لا تجعل أكبر شغلك بأهلك وولدك).. أي لا تهتم زيادة عن المقدار الذي أمرك به الشارع.. فإن يكونوا أولياء فإن الله لا يضيع أولياءه، وإن لم يكونوا أولياء الله، فما شغلك بغير أولياء الله وبأعدائه؟!..
ثانياً: أن تكون تربيتنا لهم بدواعي إلــهية، وإلا فإن الإنسان يخسر.. إن الذي يربي أولاده لا بداعي القربة إلى الله، وبداعي تربيته أمانات الله، فهو إنسان مفـلس يوم القيامة.. وهذا ليس كلامــاً عرفانياً في بطون كـتب العرفاء، بل هذا كلام الـقـرآن الكريم: {يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعـد الــله حق فلا تغـرنكم الحياة الدنيا}.. إن الدنيا غرارة، فهي دار غرور، لأنها مزينة ومعجلة.. وسر الغرور في الحياة الدنيا أنها جميلة، وتغري الإنسان {لأزينن لهم في الأرض}.. ولأنها معجلة.. فالإنسان المادي الترابي المتثاقل، والذي لا يرى ما وراء المادة، لا يشتري المؤجل بالمعجل.. فما شأنه بجـنة يعتقـد بها من خلال القـرآن الكريم، ومن خلال كلام الأولياء؟.. فهو لايرى شيئاً من هذا النعيم.. والحال أن الإمام علي عليه السلام يقول: (هم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون.. وهم والنـار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون).. ويقول في موضع آخر بهذا المضمون: (كأن زفير جهنم في أصول آذانهم).. هذه هي تربية الإمام علي عليه السلام. فليعاهد الإنسان ربه أن يعـيد تـقـييم الحياة من جديد، وينظر إلى الدنيا بزخـرفها وبأزواجها وأولادها ومساكنها، على أنه متاع مؤقت.. فإذا ربطه بالله عز وجل اكتسب الخلود {كـل شيء هالك إلا وجهه}
نفحـات قرآنية , لسماحة الشيخ حبيب الكاظمي