بحث عن علاقة الانسان بالحيوان
الإسلام وحقوق الحيوان بقلم د. راغب السرجاني
ينظر الإسلام إلى عالم الحيوان إجمالاً باهتمام لأهميته في الحياة ونفعه للإنسان، ولكونه قبل ذلك آية من آيات عظمة الخالق وبديع صنعه.. ولذلك كثر الحديث عن الحيوان وحقوقه في كثير من مجالات التشريع الإسلامي، حتى إن عددًا من السور في القرآن الكريم جاءت بأسماء الحيوانات مثل: سورة البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل، والعنكبوت، والفيل.
وينص القرآن كثيرًا على تكريم الحيوان، وبيان مكانته، وتحديد موقعه لخدمة الإنسان؛ فبعد أن بين الله في سورة النحل قدرته في خلق السموات والأرض، وقدرته في خلق الإنسان، أردف ذلك بقوله: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ{.. سورة النحل.
وقد استنبط الفقهاء والمفسرون من هذه الآيات الكثير من الأحكام والفوائد؛ فأشاروا إلى أن الله عز وجل يلفت انتباه الإنسان إلى ضرورة الاهتمام بالحيوان، والعناية به، والترفق في معاملته؛ لأنه يؤدي دورًا هامًا في خدمته، كما أن الله - سبحانه - قصد بهذه الآيات أن يبتعد بالإنسان عن أن ينظر إلى الحيوان نظرة ضيقة لا تتعلق إلا بالجانب المادي المتعلق بالأكل والنقل واللباس والدفء، فوسع نظرته إليه مشيراً إلى أن للحيوان جانباً معنوياً، وصفات جمالية تقتضي الحب الذي يقود إلى الرفق في معاملته، والإحسان إليه في المصاحبة، بالإضافة إلى أن ذِكْرَ بعض الحيوانات بأسمائها في هذه الآيات لا يعني أن غيرها ليس كذلك، بل إنه ذكرها على سبيل المثال لا الحصر بدليل قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ{...
وقد علَّق الإسلام وجوب الإحسان إلى بعض الحيوانات بمنافعها المعنوية وصفاتها الحميدة، فأوجب الرفق بها لذلك، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"، ووقع في رواية ابن إدريس عن حصين في هذا الحديث من الزيادة قوله صلى الله عليه وسلم: "والإبل عِزٌّ لأهلها، والغَنَم بركة".
وروى أبو داود وابن حبان عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة". وعند ابن حبان في صحيحه: "..فإنه يدعو للصلاة".
وهكذا ندرك أن الإسلام لا ينظر إلى الحيوان نظرة دونية، بل إن الله عز وجل يلفت انتباه الناس بقوله: "وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" [الأنعام : 38]
إنه يلفت انتباههم إلى حقيقة هامة.. هي أن الحيوان والطير والحشرات.. تنتظم كلاً منها أممٌ كأمم الإنسان.. أمم لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها.. وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر، ولكن علمهم لا يزيد شيئاً على أصلها!
وإذا كانت بعض الآيات في القرآن الكريم تحمل تحقيرًا (ظاهريًا) لبعض الحيوانات، من مثل قوله تعالى عن ذلك الصنف من البشر الذي يتخلى عن نعمة الهداية بعد أن يسبغها الله عليه: "...فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ: إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث.. ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا.. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الأعراف: 176)
أو في معرض ذمه سبحانه وتعالى لليهود الذين لم يعملوا بما في كتبهم: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (الجمعة: 5)
وإنما جاء تشبيه اليهود والمشركين بالحيوانات (كالكلب والحمار) لأنهم لم يقوموا بالدور المنوط بهم؛ فأصبحوا كالأنعام.. "بل هم أضل!!".. وليس في هذا ذمٌّ للحيوانات, ولكنه ذم لمن عاش أدوار الحيوانات.. ولم يعِشْ دوره هو!!
ومن الأمور التي تستحق الالتفات - ونحن نتعرف على عناية الإسلام بالحيوان - تلك الكيفية التي نظم الله بها علاقة الإنسان بذلك الحيوان.. فإذا كان الله تعالى قد سخَّره لمنفعة الإنسان وخدمته على نحو فطري غريزي.. فإنه - سبحانه - أيضًا قد رسم للإنسان حدود العلاقة به والتعامل معه..
فبين المغالاة التي ترفع الحيوانَ فوق قدْره الطبيعي.. وتصل به إلى مخدوم من قِبَل الإنسان (بل معبود في أحيان كثيرة!!!)... وبين إيذاء الحيوان وتحميله فوق طاقته.. فضلاً عن تشويهه والعبث به!!..
بين هذين المنهجين المتباعدين يخطُّ الإسلام طريقًا وسطًا – كشأنه في كل الأمور -؛ فهو يُعلِّم المسلم أن الحيوان مسخَّر له فضلاً من ربه.. يستعين به على مقتضيات المعاش وعمارة الأرض..
ثم هو – إلى جانب ذلك – يلفت نظره إلى أن رحمته بالحيوان والرفق به عبادة وقربى, يتوسل بها العبد إلى رضا ربه الرحيم.. كما أن تعذيب الحيوان وحرمانه حقه وترويعه وإجهاده في العمل... كل هذه وغيرها من نواقض الرحمة.. بل هي تستوجب عقاب صاحبها في الآخرة!! وهكذا.. يتفرد التشريع الإسلامي في رعاية حقوق الحيوان.. بربط هذه الرعاية بالله عزَّ وجلَّ وبحساب الآخرة.. ثوابًا كان أو عقابًا..
من الأدلة الشرعية التي تؤكد ذلك ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ, فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا, ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ, فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي.. فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ".. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: "فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ".
هذا هو القانون: "في كل كبد رطبة أجر"
أي أن لنا في رحمة أي حيوان أجرًا..
ومن اللافت للنظر أن الحيوان الذي ضُرب به المثل في هذا الحديث *** ضالّ!! مع أن النظر الفقهي معروف بتحفظه على مخالطة الكلاب لنجاستها... إلا أن رحمة ذلك الرجل المؤمن لفتته إلى معاناة الكلب من الظمأ الذي نجا هو منه لتوِّه.. ومن ثَمَّ يجهد ليرفع المعاناة عن الحيوان الأعجم.. ولم يكن رفع تلك المعاناة بالأمر اليسير.. بل إنه نزل إلى البئر مرة أخرى, وملأ خفه بالماء, وأمسكه بفيه!! ثمَّ صعد ليسقي "الكلب!!" ومن ثَمَّ استحقَّ أن يشكرَ ربُّ العالمين صنيعه, وأن يغفر له..
وليست مغفرة الذنوب بسبب رحمة الحيوان أمرًا هامشيًّا, ربما اقتصر على صغائر الذنوب في اعتقاد البعض.. أو اختُصَّ به الأبرار دون غيرهم... بل إننا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوق لنا مثلاً آخر شديد التشابه بالحديث السابق.. إلا أن المغفرة هنا – وياللعجب – تنزَّلت على زانية!! لأنها رقَّت لكلب كاد يقتله العطش.. فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ (بئر) كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ (زانية) مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ, فَنَزَعَتْ مُوقَهَا (خُفَّها), فَسَقَتْهُ, فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".
وإذا كانت مغفرة الله وثناؤه على عبده جوائز إلهية تنتظر من يرقُّ قلبه للحيوان الأعجم فيرحمه ويغيثه ويخفف عنه... مهما كانت حال هذا العبد سيئة فيما يبدو - كما رأينا - ... فإن العقاب الأليم - على الجانب الآخر - سينتظر من جفت ينابيع الرحمة في فؤاده؛ فنسي أن لهذه المخلوقات أكباداً رطبة, وأنها – وإن أعياها النطق والبيان – تشعر وتألم.. بل تشكو إلى الله ظلم الإنسان لها.. فقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا, وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"..
وليست القسوة متمثلة فقط في قتل الحيوان أو التسبب في موته، بل إن أي إيذاء له لا يُقبل في الإسلام؛ ولذلك نجد الشرع الإسلامي يهتم بحماية حقوق الحيوان من أكثر من جانب:
من ذلك مثلاً الحماية من ألم الجوع.. فقد روى أبو داود وابن خزيمة عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ (أي ظهر عليه الهزال من قلة الأكل), فَقَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ.. فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً, وَكُلُوهَا صَالِحَةً".
ومن ذلك أيضًا تشديده صلى الله عليه وسلم على ألا يُكوَى الحيوان بالنار؛ فقد روى ابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على **** قد وُسِمَ على وجهه (أي: كُوِيَ لكي يُعَلَّم)، فقال: «لعن الله من وَسَمَهُ».
ومنه الحماية من ألم الحمل الثقيل: فيجب ألا يتم إرهاق الحيوان في العمل، فهذا حق للحيوان سوف يحاسَب الإنسان عنه يوم القيامة إذا حمَّله مالا يطيق، تأمَّلْ قصة الجمل الذي اشتكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من تعب وجوع، فقد روى أحمد وأبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ... إلى أن قال:..فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ, فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ, فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ (أصل أذنه) فَسَكَتَ, فَقَالَ: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟! لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟!" فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ.. فَقَالَ: "أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟؟! فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ (أي: تُتعبه)".
وكذلك نهى ألا تُتَّخَذَ الدوابُّ كراسيَّ لفترة طويلة.. فقد روى أحمد عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ, فَقَالَ لَهُمْ: "ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ".
الإسلام وحقوق الحيوان بقلم د. راغب السرجاني
ينظر الإسلام إلى عالم الحيوان إجمالاً باهتمام لأهميته في الحياة ونفعه للإنسان، ولكونه قبل ذلك آية من آيات عظمة الخالق وبديع صنعه.. ولذلك كثر الحديث عن الحيوان وحقوقه في كثير من مجالات التشريع الإسلامي، حتى إن عددًا من السور في القرآن الكريم جاءت بأسماء الحيوانات مثل: سورة البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل، والعنكبوت، والفيل.
وينص القرآن كثيرًا على تكريم الحيوان، وبيان مكانته، وتحديد موقعه لخدمة الإنسان؛ فبعد أن بين الله في سورة النحل قدرته في خلق السموات والأرض، وقدرته في خلق الإنسان، أردف ذلك بقوله: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ{.. سورة النحل.
وقد استنبط الفقهاء والمفسرون من هذه الآيات الكثير من الأحكام والفوائد؛ فأشاروا إلى أن الله عز وجل يلفت انتباه الإنسان إلى ضرورة الاهتمام بالحيوان، والعناية به، والترفق في معاملته؛ لأنه يؤدي دورًا هامًا في خدمته، كما أن الله - سبحانه - قصد بهذه الآيات أن يبتعد بالإنسان عن أن ينظر إلى الحيوان نظرة ضيقة لا تتعلق إلا بالجانب المادي المتعلق بالأكل والنقل واللباس والدفء، فوسع نظرته إليه مشيراً إلى أن للحيوان جانباً معنوياً، وصفات جمالية تقتضي الحب الذي يقود إلى الرفق في معاملته، والإحسان إليه في المصاحبة، بالإضافة إلى أن ذِكْرَ بعض الحيوانات بأسمائها في هذه الآيات لا يعني أن غيرها ليس كذلك، بل إنه ذكرها على سبيل المثال لا الحصر بدليل قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ{...
وقد علَّق الإسلام وجوب الإحسان إلى بعض الحيوانات بمنافعها المعنوية وصفاتها الحميدة، فأوجب الرفق بها لذلك، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"، ووقع في رواية ابن إدريس عن حصين في هذا الحديث من الزيادة قوله صلى الله عليه وسلم: "والإبل عِزٌّ لأهلها، والغَنَم بركة".
وروى أبو داود وابن حبان عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة". وعند ابن حبان في صحيحه: "..فإنه يدعو للصلاة".
وهكذا ندرك أن الإسلام لا ينظر إلى الحيوان نظرة دونية، بل إن الله عز وجل يلفت انتباه الناس بقوله: "وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" [الأنعام : 38]
إنه يلفت انتباههم إلى حقيقة هامة.. هي أن الحيوان والطير والحشرات.. تنتظم كلاً منها أممٌ كأمم الإنسان.. أمم لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها.. وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر، ولكن علمهم لا يزيد شيئاً على أصلها!
وإذا كانت بعض الآيات في القرآن الكريم تحمل تحقيرًا (ظاهريًا) لبعض الحيوانات، من مثل قوله تعالى عن ذلك الصنف من البشر الذي يتخلى عن نعمة الهداية بعد أن يسبغها الله عليه: "...فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ: إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث.. ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا.. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الأعراف: 176)
أو في معرض ذمه سبحانه وتعالى لليهود الذين لم يعملوا بما في كتبهم: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (الجمعة: 5)
وإنما جاء تشبيه اليهود والمشركين بالحيوانات (كالكلب والحمار) لأنهم لم يقوموا بالدور المنوط بهم؛ فأصبحوا كالأنعام.. "بل هم أضل!!".. وليس في هذا ذمٌّ للحيوانات, ولكنه ذم لمن عاش أدوار الحيوانات.. ولم يعِشْ دوره هو!!
ومن الأمور التي تستحق الالتفات - ونحن نتعرف على عناية الإسلام بالحيوان - تلك الكيفية التي نظم الله بها علاقة الإنسان بذلك الحيوان.. فإذا كان الله تعالى قد سخَّره لمنفعة الإنسان وخدمته على نحو فطري غريزي.. فإنه - سبحانه - أيضًا قد رسم للإنسان حدود العلاقة به والتعامل معه..
فبين المغالاة التي ترفع الحيوانَ فوق قدْره الطبيعي.. وتصل به إلى مخدوم من قِبَل الإنسان (بل معبود في أحيان كثيرة!!!)... وبين إيذاء الحيوان وتحميله فوق طاقته.. فضلاً عن تشويهه والعبث به!!..
بين هذين المنهجين المتباعدين يخطُّ الإسلام طريقًا وسطًا – كشأنه في كل الأمور -؛ فهو يُعلِّم المسلم أن الحيوان مسخَّر له فضلاً من ربه.. يستعين به على مقتضيات المعاش وعمارة الأرض..
ثم هو – إلى جانب ذلك – يلفت نظره إلى أن رحمته بالحيوان والرفق به عبادة وقربى, يتوسل بها العبد إلى رضا ربه الرحيم.. كما أن تعذيب الحيوان وحرمانه حقه وترويعه وإجهاده في العمل... كل هذه وغيرها من نواقض الرحمة.. بل هي تستوجب عقاب صاحبها في الآخرة!! وهكذا.. يتفرد التشريع الإسلامي في رعاية حقوق الحيوان.. بربط هذه الرعاية بالله عزَّ وجلَّ وبحساب الآخرة.. ثوابًا كان أو عقابًا..
من الأدلة الشرعية التي تؤكد ذلك ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ, فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا, ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ, فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي.. فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ".. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: "فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ".
هذا هو القانون: "في كل كبد رطبة أجر"
أي أن لنا في رحمة أي حيوان أجرًا..
ومن اللافت للنظر أن الحيوان الذي ضُرب به المثل في هذا الحديث *** ضالّ!! مع أن النظر الفقهي معروف بتحفظه على مخالطة الكلاب لنجاستها... إلا أن رحمة ذلك الرجل المؤمن لفتته إلى معاناة الكلب من الظمأ الذي نجا هو منه لتوِّه.. ومن ثَمَّ يجهد ليرفع المعاناة عن الحيوان الأعجم.. ولم يكن رفع تلك المعاناة بالأمر اليسير.. بل إنه نزل إلى البئر مرة أخرى, وملأ خفه بالماء, وأمسكه بفيه!! ثمَّ صعد ليسقي "الكلب!!" ومن ثَمَّ استحقَّ أن يشكرَ ربُّ العالمين صنيعه, وأن يغفر له..
وليست مغفرة الذنوب بسبب رحمة الحيوان أمرًا هامشيًّا, ربما اقتصر على صغائر الذنوب في اعتقاد البعض.. أو اختُصَّ به الأبرار دون غيرهم... بل إننا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوق لنا مثلاً آخر شديد التشابه بالحديث السابق.. إلا أن المغفرة هنا – وياللعجب – تنزَّلت على زانية!! لأنها رقَّت لكلب كاد يقتله العطش.. فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ (بئر) كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ (زانية) مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ, فَنَزَعَتْ مُوقَهَا (خُفَّها), فَسَقَتْهُ, فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".
وإذا كانت مغفرة الله وثناؤه على عبده جوائز إلهية تنتظر من يرقُّ قلبه للحيوان الأعجم فيرحمه ويغيثه ويخفف عنه... مهما كانت حال هذا العبد سيئة فيما يبدو - كما رأينا - ... فإن العقاب الأليم - على الجانب الآخر - سينتظر من جفت ينابيع الرحمة في فؤاده؛ فنسي أن لهذه المخلوقات أكباداً رطبة, وأنها – وإن أعياها النطق والبيان – تشعر وتألم.. بل تشكو إلى الله ظلم الإنسان لها.. فقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا, وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"..
وليست القسوة متمثلة فقط في قتل الحيوان أو التسبب في موته، بل إن أي إيذاء له لا يُقبل في الإسلام؛ ولذلك نجد الشرع الإسلامي يهتم بحماية حقوق الحيوان من أكثر من جانب:
من ذلك مثلاً الحماية من ألم الجوع.. فقد روى أبو داود وابن خزيمة عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ (أي ظهر عليه الهزال من قلة الأكل), فَقَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ.. فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً, وَكُلُوهَا صَالِحَةً".
ومن ذلك أيضًا تشديده صلى الله عليه وسلم على ألا يُكوَى الحيوان بالنار؛ فقد روى ابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على **** قد وُسِمَ على وجهه (أي: كُوِيَ لكي يُعَلَّم)، فقال: «لعن الله من وَسَمَهُ».
ومنه الحماية من ألم الحمل الثقيل: فيجب ألا يتم إرهاق الحيوان في العمل، فهذا حق للحيوان سوف يحاسَب الإنسان عنه يوم القيامة إذا حمَّله مالا يطيق، تأمَّلْ قصة الجمل الذي اشتكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من تعب وجوع، فقد روى أحمد وأبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ... إلى أن قال:..فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ, فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ, فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ (أصل أذنه) فَسَكَتَ, فَقَالَ: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟! لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟!" فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ.. فَقَالَ: "أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟؟! فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ (أي: تُتعبه)".
وكذلك نهى ألا تُتَّخَذَ الدوابُّ كراسيَّ لفترة طويلة.. فقد روى أحمد عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ, فَقَالَ لَهُمْ: "ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ".