لقد كنت منذ صغري أحب الزهّاد، وأتمنّى أن أنخرط في سلكهم، حيث نشأت على ازدراء الدنيا بما أتيح لي من والد (رحمه الله) كان ميّالاً إلى الإعراض عن الدنيا والاشتغال بالآخرة، وكان يرغّبني في عدم الاكتراث بزخارف الدنيا.
التربية الصالحة
عشق الزهد وأسبابه
كان الوالد(رحمه الله) ينقل لي قصة والدته وقد رأيتها أنا بالذات في صغري، فكان يقول:
إنها كانت عابدة، وكانت تواظب على صلاة الليل، وكانت إذا قامت في جوف الليل المظلم نبّهتني وأنا طفل صغير فتقول: قم يا مهدي، وأنا لا أكاد أشعر من غلبة النوم، خصوصاً في أيام الصيف..
فكانت تنزل من السطح إلى سرداب البيت حيث إن حوض الماء كان هناك، وذلك لأجل أن تتوضأ ثم تتهجد، وكانت المسافة بين الطابق الأعلى والحوض أكثر من خمسين درجة وارتفاع كل درجة أكثر من شبر.
قال الوالد: فكنت أكاد أسقط من الدرج لشدّة النعاس، لكن الوالدة كانت تتلافى الأمر بإعطائي بعض الحمصات المقلاة وما أشبه وتقول: لتبق مستيقظاً حتى طلوع الشمس.
قيام الليل
وقد كان الوالد(رحمه الله) مواظباً على قيام الليل إلى آخر أيام حياته، كما أنه كان كثير الدعاء والابتهال والضراعة وقراءة القرآن وما أشبه...
نموذج في القمة
وما أتيح لي من عم حيث كان هو الآخر مثالاً للزّهد، وكان يرى الآخرة وكأنها في غد، وكان معرضاً عن الدنيا وزخارفها.
أستاذ زاهد
وما أتيح لي من(أستاذ) كان يحبّب إليَّ الزهد والإعراض عن الدنيا، وكان هو زاهدا ً أيضاً، إقتنع بالأقل من الأمور الضرورية للمعاش، ولم يتزوّج إلاّ في أخريات أيّام حياته حيث لم يُكتب له البقاء الطويل، فالتحق بالرفيق الأعلى
مجتمع العلم والزهد
بالإضافة إلى أن مجتمع أهل العلم كان يوحي بالزهد والإعراض عن بهارج الحياة العاجلة الفانية، وحيث كان أقرباؤنا كلهم تقريباً من رجال العلم، فالجو العام بالنسبة لنا كان جوّاً زهديّاً بمختلف ألوانه
مطالعة سيرة النبي (ص)
وأهل بيته(ع)
هذا بالإضافة إلى ما كان يحفّزني نحو الزهد، من مطالعة أحوال النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الطاهرين(عليهم السلام) ، ، والاشتياق الأكيد إلى قراءة قصص العبّاد والزهّاد
الكتب المرغبة للزهد
وزاد في حبّي للزّهادة مطالعتي لكتاب (النجم الثاقب) للحاج النوري (قدس سره) ، حيث كان من أسباب تطلّعي إلى رجاء الوصول والتشرّف بخدمة ولي الله الأعظم الإمام المهدي المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، حيث كنت أعلم أنّ ذلك لا يتسنّى إلاّ لمن أخلص لله إخلاصاً كاملاً وزهد في الحياة الدنيا زهداً يعلمه الله تعالى من قلبه، وكنت أعلم كم هو صعب أن يتقبّل الله سبحانه إنساناً تقبّلاً كاملاً (فإن الناقد بصير بصير)).
وكذلك أخذت في مطالعة كتاب (مجموعة ورّام) و (جامع السعادات) وما أشبه..، لعلّي أتمكن من الوصول إلى تلك المقامات العالية.
اثر الصديق
وكان لي صديق يحبّب إليّ الزهد، ويحبّب لي الدراسة، وكنت أتلمّذ عنده ويتلمَّذ عندي ـ متبادلاً ـ، كنت أجتمع به كل يوم ثلاث ساعات تقريباً، وأتذكر منه إلى الآن توجيهات وقضايا وقصص، أذكر منها هذا البيت:
صمت وجوع وسهر وعزلت وذكر به دوام ناتمامان جهــان را كند اين ينج تمام
ومعناه: الصمت والجوع والسهر والعزلة والذكر الدائم، توجب تكامل من كان غير متكامل في هذه الدنيا.
ملازمة بعض الأعمال
كما أني كنت ألازم(التمشّي) والخلوة بنفسي في الخلوات: كفترة ما بين الطلوعين، أو أواخر العصر، أو أوائل الليل، أو قبل الصبح، وكنت أُفكّر في المبدأ والمعاد والإنسان والكون وما أشبه، فأرى جمال الزهد، وقبح التكالب على الحياة الدنيا.
وكنت ألازم الذهاب إلى المقابر في كل أسبوع مرّة أو أكثر، لأعتبر بحال الأموات، خصوصاً في أوقات كانت المقابر خالية، فأتمثّل مصيري والنهاية التي يؤول إليها أمري، فيتأجّج حبّ الزهد ــ من جرّاء ذلك ــ في قلبي أكثر فأكثر
الاعتزال المطلق
وذات مرّة قرّرت الفرار عن البلاد والالتحاق بمنقطع جبل،أو مغارة كهف، أو ما أشبه، لكن حال بيني وبين ذلك الخوف من أن يكون هذا العمل مبغوضاً لله سبحانه، لما فيه من ترك العمل بواجب الدرس والإرشاد، بالإضافة إلى أن فيه قطع الرحم بالنسبة إلى الوالدين الذين كانا يتألّمان لذلك قطعاً..
كما أنني قرّرت ـ في مرّة أخرى ـ الزهادة بتطبيق البنود الخمسة الآنفة الذكر في البيت الفارسي أعني:
1: الصمت.
2: الجوع.
3: السهر.
4: العزلة.
5: ذكر الله سبحانه باستمرار.
لما ورد في ذلك من روايات كثيرة
فأقللت من الأكل والنوم واللباس وما أشبه..، ولكن أثار عملي هذا ضجّة الوالدة بكل شدّة، وتأثر الوالد بذلك تأثراً كبيراً، وأظهرا أنّهما يتأذّيان بعملي، مما الجئت إلى ترك ذلك بعدما استمرّ ما يقارب أربعين يوماً ـ على ما أذكر ـ .
وأنا متأسف إلى الآن لعدم توفيقي للاستمرار مما حال دون وصولي إلى الهدف المنشود ولكن رعاية الوالدين كانت أهم.
تعليق