14 - علل الشرائع: باسناده العلوي، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) سئل مما خلق الله عز وجل العقل، قال: خلقه ملك له رؤوس بعدد الخلائق من خلق و من يخلق إلى يوم القيامة، ولكل رأس وجه، ولكل آدمي رأس من رؤوس العقل، و اسم ذلك الانسان على وجه ذلك الرأس مكتوب، وعلى كل وجه ستر ملقى لا يكشف ذلك الستر من ذلك الوجه حتى يولد هذا المولود، ويبلغ حد الرجال، أو حد النساء فإذا بلغ كشف ذلك الستر، فيقع في قلب هذا الانسان نور، فيفهم الفريضة والسنة، والجيد والردي، ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت.
* (بسط كلام لتوضيح مرام) * اعلم أن فهم أخبار أبواب العقل يتوقف على بيان ماهية العقل، واختلاف الآراء والمصطلحات فيه. فنقول: إن العقل هو تعقل الأشياء وفهمها في أصل اللغة، واصطلح إطلاقه على أمور:
الأول: هو قوة إدراك الخير والشر والتمييز بينهما، والتمكن من معرفة أسباب الأمور وذوات الأسباب، وما يؤدي إليها وما يمنع منها، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.
الثاني: ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخير والنفع، واجتناب الشرور والمضار، وبها تقوي النفس على زجر الدواعي الشهوانية والغضبية، والوساوس الشيطانية وهل هذا هو الكامل من الأول أم هو صفة أخرى وحالة مغايرة للأولى؟ يحتملهما، وما يشاهد في أكثر الناس من حكمهم بخيرية بعض الأمور مع عدم إتيانهم بها، و بشرية بعض الأمور مع كونهم مولعين بها يدل على أن هذه الحالة غير العلم بالخير والشر.والذي (1) ظهر لنا من تتبع الاخبار المنتمية إلى الأئمة الأبرار سلام الله عليهم هو أن الله خلق في كل شخص من أشخاص المكلفين قوة واستعداد إدراك الأمور من المضار والمنافع وغيرها، على اختلاف كثير بينهم فيها، وأقل درجاتها مناط التكليف، وبها يتميز عن المجانين، وباختلاف درجاتها تتفاوت التكاليف، فكلما كانت هذه القوة أكمل كانت التكاليف أشق وأكثر، وتكمل هذه القوة في كل شخص بحسب استعداده بالعلم والعمل، فكلما سعى في تحصيل ما ينفعه من العلوم الحقة وعمل بها تقوي تلك القوة. ثم العلوم تتفاوت في مراتب النقص والكمال، وكلما ازدادت قوة تكثر آثارها وتحث صاحبها بحسب قوتها على العمل بها فأكثر الناس علمهم بالمبدأ والمعاد وسائر أركان الايمان علم تصوري يسمونه تصديقا، وفي بعضهم تصديق ظني، وفي بعضهم تصديق اضطراري، فلذا لا يعملون بما يدعون، فإذا كمل العلم وبلغ درجة اليقين يظهر آثاره على صاحبه كل حين. وسيأتي تمام تحقيق ذلك في كتاب الايمان والكفر إن شاء الله تعالى.
الثالث: القوة التي يستعملها الناس في نظام أمور معاشهم، فإن وافقت قانون الشرع واستعملت فيما استحسنه الشارع تسمى بعقل المعاش، وهو ممدوح في الاخبار ومغايرته لما قد مر بنوع من الاعتبار، وإذا استعملت في الأمور الباطلة والحيل الفاسدة تسمى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع، ومنهم من أثبت لذلك قوة أخرى وهو غير معلوم.الرابع: مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريات وقربها وبعدها عن ذلك، و أثبتوا لها مراتب أربعة: سموها بالعقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، و العقل المستفاد، وقد تطلق هذه الأسامي على النفس في تلك المراتب، وتفصيلها مذكور في محالها، ويرجع إلى ما ذكرنا أولا فإن الظاهر أنها قوة واحدة تختلف أسماؤها بحسب متعلقاتها وما تستعمل فيه.
الخامس: النفس الناطقة الانسانية التي بها يتميز عن سائر البهائم.
السادس: ما ذهب إليه الفلاسفة، وأثبتوه بزعمهم: من جوهر مجرد قديم لا تعلق له بالمادة ذاتا ولا فعلا، والقول به كما ذكروه مستلزم لانكار كثير من ضروريات الدين من حدوث العالم وغيره مما لا يسع المقام ذكره، وبعض المنتحلين منهم للاسلام أثبتوا عقولا حادثة، وهي أيضا على ما أثبتوها مستلزمة لانكار كثير من الأصول المقررة الاسلامية، مع أنه لا يظهر من الاخبار وجود مجرد سوى الله تعالى.
وقال بعض محققيهم: إن نسبة العقل العاشر الذي يسمونه بالعقل الفعال إلي النفس كنسبة النفس إلى البدن فكما أن النفس صورة للبدن، والبدن مادتها، فكذلك العقل صورة للنفس، والنفس مادته، وهو مشرق عليها، وعلومها مقتبسة منه، ويكمل هذا الارتباط إلى حد تطالع العلوم فيه، وتتصل به، وليس لهم على هذه الأمور دليل إلا مموهات شبهات، أو خيالات غريبة زينوها بلطائف عبارات.
فإذا عرفت ما مهدنا فاعلم أن الأخبار الواردة في هذه الأبواب أكثرها ظاهرة في المعنيين الأولين، الذين مالهما إلى واحد، وفي الثاني منهما أكثر وأظهر. وبعض الأخبار يحتمل بعض المعاني الأخرى، وفي بعض الأخبار يطلق العقل على نفس العلم النافع المورث للنجاة المستلزم لحصول السعادات.
فأما أخبار استنطاق العقل وإقباله وإدباره فيمكن حملها على أحد المعاني الأربعة المذكورة أولا، أو ما يشملها جميعا، وحينئذ يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير، كما ورد في اللغة، أو يكون المراد بالخلق الخلق في النفس واتصاف النفس بها، و يكون سائر ما ذكر فيها من الاستنطاق والاقبال والادبار وغيرها استعارة تمثيلية، لبيانأن مدار التكاليف والكمالات والترقيات على العقل، ويحتمل أن يكون المراد بالاستنطاق جعله قابلا لان يدرك به العلوم، ويكون الامر بالاقبال والادبار أمرا تكوينيا، يجعله قابلا لكونه وسيلة لتحصيل الدنيا والآخرة، والسعادة والشقاوة معا وآلة للاستعمال في تعرف حقائق الأمور، والتفكر في دقائق الحيل أيضا.
وفي بعض الأخبار بك آمر، وبك أنهى، وبك أعاقب، وبك أثيب. وهو منطبق على هذا المعنى لان أقل درجاته مناط صحة أصل التكليف، وكل درجة من درجاته مناط صحة بعض التكاليف، وفي بعض الأخبار " إياك " مكان بك في كل المواضع، وفي بعضها في بعضها، فالمراد المبالغة في اشتراط التكليف به فكأنه هو المكلف حقيقة. وما في بعض الأخبار من أنه أول خلق من الروحانيين، فيحتمل أن يكون المراد أول مقدر من الصفات المتعلقة بالروح، أو أول غريزة يطبع عليها النفس وتودع فيها، أو يكون أوليته باعتبار أولية ما يتعلق به من النفوس، وأما إذا احتملت على المعنى الخامس فيحتمل أن يكون أيضا على التمثيل كما مر. وكونها مخلوقة ظاهر، وكونها أول مخلوق إما باعتبار أن النفوس خلقت قبل الأجساد كما ورد في الأخبار المستفيضة، فيحتمل أن يكون خلق الأرواح مقدما على خلق جميع المخلوقات غيرها لكن " خبر أول ما خلق الله العقل " ما وجدته في الأخبار المعتبرة، وإنما هو مأخوذ من أخبار العامة، و ظاهر أكثر أخبارنا أن أول المخلوقات الماء أو الهواء كما سيأتي في كتاب السماء والعالم نعم ورد في أخبارنا: أن العقل أول خلق من الروحانيين، وهو لا ينافي تقدم خلق بعض الأجسام على خلقه، وحينئذ فالمراد بإقبالها بناءا على ما ذهب إليه جماعة من تجرد النفس إقبالها إلى عالم المجردات، وبإدبارها تعلقها بالبدن والماديات، أو المراد بإقبالها إقبالها إلى المقامات العالية، والدرجات الرفيعة، وبإدبارها هبوطها عن تلك المقامات، وتوجهها إلى تحصيل الأمور الدنية الدنيوية، وتشبهها بالبهائم والحيوانات، فعلى ما ذكرنا من التمثيل يكون الغرض بيان أن لها هذه الاستعدادات المختلفة، وهذه الشؤون المتباعدة وان لم نحمل على التمثيل يمكن أن يكون الاستنطاق حقيقيا، وأن يكون كناية عن جعلها مدركة للكليات، وكذا الامر بالاقبال والادباريمكن أن يكون حقيقيا لظهور انقيادها لما يريده تعالى منها، وأن يكون أمرا تكوينيا لتكون قابلة للامرين أي الصعود إلى الكمال والقرب والوصال، والهبوط إلى النقص وما يوجب الوبال، أو لتكون في درجة متوسطة من التجرد لتعلقها بالماديات، لكن تجرد النفس لم يثبت لنا من الاخبار، بل الظاهر منها ما ديتها كما سنبين فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما المعنى السادس، فلو قال أحد بجوهر مجرد لا يقول بقدمه ولا يتوقف تأثير الواجب في الممكنات عليه، ولا بتأثيره في خلق الأشياء، ويسميه العقل ويجعل بعض تلك الأخبار منطبقا على ما سماه عقلا، فيمكنه أن يقول: إن إقباله عبارة عن توجهه إلى المبدأ، وإدباره عبارة عن توجهه إلى النفوس لاشراقه عليها واستكمالها به.
فإذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك من الحق الحقيق بالبيان، وبأن لا يبالي بما يشمئز عنه من نواقص الأذهان.
فاعلم أن أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبي والأئمة (عليهم السلام) في أخبارنا المتواترة على وجه آخر فإنهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدم في الخلق لأرواحهم، إما على جميع المخلوقات، أو على سائر الروحانيين في أخبار متواترة، و أيضا أثبتوا لها التوسط في الايجاد أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في الاخبار كونهم (عليهم السلام) علة غائية لجميع المخلوقات، وأنه لولاهم لما خلق الله الأفلاك وغيرها، وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح، وقد ثبت في الاخبار أن جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسطهم تفيض على سائر الخلق حتى الملائكة والأنبياء.
والحاصل أنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم (عليهم السلام) الوسائل بين الخلق وبين الحق في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق، فكلما يكون التوسل بهم والاذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من الله أكثر، ولما سلكوا سبيل الرياضات والتفكرات مستبدين بآراءهم على غير قانون الشريعة المقدسة ظهرت عليهم حقيقة هذا الامر ملبسا مشتبها، فاخطأوا في ذلك، وأثبتوا عقولا وتكلموا في
ذلك فضولا (1)، فعلى قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبي (صلى الله عليه وآله) الذي انشعبت منه أنوار الأئمة (عليهم السلام) واستنطاقه على الحقيقة أو بجعله محلا للمعارف الغير المتناهية، والمراد بالامر بالاقبال ترقيه على مراتب الكمال، وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوصال، وبإدباره إما إنزاله إلى البدن، أو الامر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال فإنه يلزمه التنزل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق، ويومى إليه قوله تعالى قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا (2) وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة. ويحتمل أن يكون المراد بالاقبال الاقبال إلى الخلق، وبالادبار الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ، ويؤيده ما في بعض الأخبار من تقديم الادبار على الاقبال. وعلى التقادير فالمراد بقوله تعالى: ولا أكملك، يمكن أن يكون المراد ولا أكمل محبتك والارتباط بك، وكونك واسطة بينه وبيني إلا فيمن أحبه، أو يكون الخطاب مع روحهم و نورهم (عليهم السلام) والمراد بالاكمال إكماله في أبدانهم الشريفة أي هذا النور بعد تشعبه بأي بدن تعلق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحب الخلق إلى الله تعالى وقوله: إياكآمر. التخصيص إما لكونهم صلوات الله عليهم مكلفين بما لم يكلف به غيرهم، ويتأتي منهم من حق عبادته تعالى ما لا يتأتي من غيرهم، أو لاشتراط صحة أعمال العباد بولايتهم والاقرار بفضلهم بنحو ما مر من التجوز، وبهذا التحقيق يمكن الجمع بين ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): أول ما خلق الله نوري، وبين ما روى: أول ما خلق الله العقل، وما روي:
أول ما خلق الله النور، إن صحت أسانيدها. وتحقيق هذا الكلام على ما ينبغي يحتاج إلى نوع من البسط والاطناب، ولو وفينا حقه لكنا أخلفنا ما وعدناه في صدر الكتاب.
وأما الخبر الأخير فهو من غوامض الاخبار، والظاهر أن الكلام فيه مسوق على نحو الرموز والاسرار، ويحتمل أن يكون كناية عن تعلقه بكل مكلف، وأن لذلك التعلق وقتا خاصا، وقبل ذلك الوقت موانع عن تعلق العقل من الأغشية الظلمانية، والكدورات الهيولانية، كستر مسدول على وجه العقل، ويمكن حمله على ظاهر حقيقته على بعض الاحتمالات السالفة. وقوله: خلقة ملك. لعله بالإضافة أي خلقته كخلقة الملائكة في لطافته وروحانيته، ويحتمل أن يكون " خلقه " مضافا إلى الضمير مبتداءا و " ملك " خبره، أي خلقته خلقة ملك أو هو ملك حقيقة والله يعلم.
* (بسط كلام لتوضيح مرام) * اعلم أن فهم أخبار أبواب العقل يتوقف على بيان ماهية العقل، واختلاف الآراء والمصطلحات فيه. فنقول: إن العقل هو تعقل الأشياء وفهمها في أصل اللغة، واصطلح إطلاقه على أمور:
الأول: هو قوة إدراك الخير والشر والتمييز بينهما، والتمكن من معرفة أسباب الأمور وذوات الأسباب، وما يؤدي إليها وما يمنع منها، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.
الثاني: ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخير والنفع، واجتناب الشرور والمضار، وبها تقوي النفس على زجر الدواعي الشهوانية والغضبية، والوساوس الشيطانية وهل هذا هو الكامل من الأول أم هو صفة أخرى وحالة مغايرة للأولى؟ يحتملهما، وما يشاهد في أكثر الناس من حكمهم بخيرية بعض الأمور مع عدم إتيانهم بها، و بشرية بعض الأمور مع كونهم مولعين بها يدل على أن هذه الحالة غير العلم بالخير والشر.والذي (1) ظهر لنا من تتبع الاخبار المنتمية إلى الأئمة الأبرار سلام الله عليهم هو أن الله خلق في كل شخص من أشخاص المكلفين قوة واستعداد إدراك الأمور من المضار والمنافع وغيرها، على اختلاف كثير بينهم فيها، وأقل درجاتها مناط التكليف، وبها يتميز عن المجانين، وباختلاف درجاتها تتفاوت التكاليف، فكلما كانت هذه القوة أكمل كانت التكاليف أشق وأكثر، وتكمل هذه القوة في كل شخص بحسب استعداده بالعلم والعمل، فكلما سعى في تحصيل ما ينفعه من العلوم الحقة وعمل بها تقوي تلك القوة. ثم العلوم تتفاوت في مراتب النقص والكمال، وكلما ازدادت قوة تكثر آثارها وتحث صاحبها بحسب قوتها على العمل بها فأكثر الناس علمهم بالمبدأ والمعاد وسائر أركان الايمان علم تصوري يسمونه تصديقا، وفي بعضهم تصديق ظني، وفي بعضهم تصديق اضطراري، فلذا لا يعملون بما يدعون، فإذا كمل العلم وبلغ درجة اليقين يظهر آثاره على صاحبه كل حين. وسيأتي تمام تحقيق ذلك في كتاب الايمان والكفر إن شاء الله تعالى.
الثالث: القوة التي يستعملها الناس في نظام أمور معاشهم، فإن وافقت قانون الشرع واستعملت فيما استحسنه الشارع تسمى بعقل المعاش، وهو ممدوح في الاخبار ومغايرته لما قد مر بنوع من الاعتبار، وإذا استعملت في الأمور الباطلة والحيل الفاسدة تسمى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع، ومنهم من أثبت لذلك قوة أخرى وهو غير معلوم.الرابع: مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريات وقربها وبعدها عن ذلك، و أثبتوا لها مراتب أربعة: سموها بالعقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، و العقل المستفاد، وقد تطلق هذه الأسامي على النفس في تلك المراتب، وتفصيلها مذكور في محالها، ويرجع إلى ما ذكرنا أولا فإن الظاهر أنها قوة واحدة تختلف أسماؤها بحسب متعلقاتها وما تستعمل فيه.
الخامس: النفس الناطقة الانسانية التي بها يتميز عن سائر البهائم.
السادس: ما ذهب إليه الفلاسفة، وأثبتوه بزعمهم: من جوهر مجرد قديم لا تعلق له بالمادة ذاتا ولا فعلا، والقول به كما ذكروه مستلزم لانكار كثير من ضروريات الدين من حدوث العالم وغيره مما لا يسع المقام ذكره، وبعض المنتحلين منهم للاسلام أثبتوا عقولا حادثة، وهي أيضا على ما أثبتوها مستلزمة لانكار كثير من الأصول المقررة الاسلامية، مع أنه لا يظهر من الاخبار وجود مجرد سوى الله تعالى.
وقال بعض محققيهم: إن نسبة العقل العاشر الذي يسمونه بالعقل الفعال إلي النفس كنسبة النفس إلى البدن فكما أن النفس صورة للبدن، والبدن مادتها، فكذلك العقل صورة للنفس، والنفس مادته، وهو مشرق عليها، وعلومها مقتبسة منه، ويكمل هذا الارتباط إلى حد تطالع العلوم فيه، وتتصل به، وليس لهم على هذه الأمور دليل إلا مموهات شبهات، أو خيالات غريبة زينوها بلطائف عبارات.
فإذا عرفت ما مهدنا فاعلم أن الأخبار الواردة في هذه الأبواب أكثرها ظاهرة في المعنيين الأولين، الذين مالهما إلى واحد، وفي الثاني منهما أكثر وأظهر. وبعض الأخبار يحتمل بعض المعاني الأخرى، وفي بعض الأخبار يطلق العقل على نفس العلم النافع المورث للنجاة المستلزم لحصول السعادات.
فأما أخبار استنطاق العقل وإقباله وإدباره فيمكن حملها على أحد المعاني الأربعة المذكورة أولا، أو ما يشملها جميعا، وحينئذ يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير، كما ورد في اللغة، أو يكون المراد بالخلق الخلق في النفس واتصاف النفس بها، و يكون سائر ما ذكر فيها من الاستنطاق والاقبال والادبار وغيرها استعارة تمثيلية، لبيانأن مدار التكاليف والكمالات والترقيات على العقل، ويحتمل أن يكون المراد بالاستنطاق جعله قابلا لان يدرك به العلوم، ويكون الامر بالاقبال والادبار أمرا تكوينيا، يجعله قابلا لكونه وسيلة لتحصيل الدنيا والآخرة، والسعادة والشقاوة معا وآلة للاستعمال في تعرف حقائق الأمور، والتفكر في دقائق الحيل أيضا.
وفي بعض الأخبار بك آمر، وبك أنهى، وبك أعاقب، وبك أثيب. وهو منطبق على هذا المعنى لان أقل درجاته مناط صحة أصل التكليف، وكل درجة من درجاته مناط صحة بعض التكاليف، وفي بعض الأخبار " إياك " مكان بك في كل المواضع، وفي بعضها في بعضها، فالمراد المبالغة في اشتراط التكليف به فكأنه هو المكلف حقيقة. وما في بعض الأخبار من أنه أول خلق من الروحانيين، فيحتمل أن يكون المراد أول مقدر من الصفات المتعلقة بالروح، أو أول غريزة يطبع عليها النفس وتودع فيها، أو يكون أوليته باعتبار أولية ما يتعلق به من النفوس، وأما إذا احتملت على المعنى الخامس فيحتمل أن يكون أيضا على التمثيل كما مر. وكونها مخلوقة ظاهر، وكونها أول مخلوق إما باعتبار أن النفوس خلقت قبل الأجساد كما ورد في الأخبار المستفيضة، فيحتمل أن يكون خلق الأرواح مقدما على خلق جميع المخلوقات غيرها لكن " خبر أول ما خلق الله العقل " ما وجدته في الأخبار المعتبرة، وإنما هو مأخوذ من أخبار العامة، و ظاهر أكثر أخبارنا أن أول المخلوقات الماء أو الهواء كما سيأتي في كتاب السماء والعالم نعم ورد في أخبارنا: أن العقل أول خلق من الروحانيين، وهو لا ينافي تقدم خلق بعض الأجسام على خلقه، وحينئذ فالمراد بإقبالها بناءا على ما ذهب إليه جماعة من تجرد النفس إقبالها إلى عالم المجردات، وبإدبارها تعلقها بالبدن والماديات، أو المراد بإقبالها إقبالها إلى المقامات العالية، والدرجات الرفيعة، وبإدبارها هبوطها عن تلك المقامات، وتوجهها إلى تحصيل الأمور الدنية الدنيوية، وتشبهها بالبهائم والحيوانات، فعلى ما ذكرنا من التمثيل يكون الغرض بيان أن لها هذه الاستعدادات المختلفة، وهذه الشؤون المتباعدة وان لم نحمل على التمثيل يمكن أن يكون الاستنطاق حقيقيا، وأن يكون كناية عن جعلها مدركة للكليات، وكذا الامر بالاقبال والادباريمكن أن يكون حقيقيا لظهور انقيادها لما يريده تعالى منها، وأن يكون أمرا تكوينيا لتكون قابلة للامرين أي الصعود إلى الكمال والقرب والوصال، والهبوط إلى النقص وما يوجب الوبال، أو لتكون في درجة متوسطة من التجرد لتعلقها بالماديات، لكن تجرد النفس لم يثبت لنا من الاخبار، بل الظاهر منها ما ديتها كما سنبين فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما المعنى السادس، فلو قال أحد بجوهر مجرد لا يقول بقدمه ولا يتوقف تأثير الواجب في الممكنات عليه، ولا بتأثيره في خلق الأشياء، ويسميه العقل ويجعل بعض تلك الأخبار منطبقا على ما سماه عقلا، فيمكنه أن يقول: إن إقباله عبارة عن توجهه إلى المبدأ، وإدباره عبارة عن توجهه إلى النفوس لاشراقه عليها واستكمالها به.
فإذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك من الحق الحقيق بالبيان، وبأن لا يبالي بما يشمئز عنه من نواقص الأذهان.
فاعلم أن أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبي والأئمة (عليهم السلام) في أخبارنا المتواترة على وجه آخر فإنهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدم في الخلق لأرواحهم، إما على جميع المخلوقات، أو على سائر الروحانيين في أخبار متواترة، و أيضا أثبتوا لها التوسط في الايجاد أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في الاخبار كونهم (عليهم السلام) علة غائية لجميع المخلوقات، وأنه لولاهم لما خلق الله الأفلاك وغيرها، وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح، وقد ثبت في الاخبار أن جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسطهم تفيض على سائر الخلق حتى الملائكة والأنبياء.
والحاصل أنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم (عليهم السلام) الوسائل بين الخلق وبين الحق في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق، فكلما يكون التوسل بهم والاذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من الله أكثر، ولما سلكوا سبيل الرياضات والتفكرات مستبدين بآراءهم على غير قانون الشريعة المقدسة ظهرت عليهم حقيقة هذا الامر ملبسا مشتبها، فاخطأوا في ذلك، وأثبتوا عقولا وتكلموا في
ذلك فضولا (1)، فعلى قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبي (صلى الله عليه وآله) الذي انشعبت منه أنوار الأئمة (عليهم السلام) واستنطاقه على الحقيقة أو بجعله محلا للمعارف الغير المتناهية، والمراد بالامر بالاقبال ترقيه على مراتب الكمال، وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوصال، وبإدباره إما إنزاله إلى البدن، أو الامر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال فإنه يلزمه التنزل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق، ويومى إليه قوله تعالى قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا (2) وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة. ويحتمل أن يكون المراد بالاقبال الاقبال إلى الخلق، وبالادبار الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ، ويؤيده ما في بعض الأخبار من تقديم الادبار على الاقبال. وعلى التقادير فالمراد بقوله تعالى: ولا أكملك، يمكن أن يكون المراد ولا أكمل محبتك والارتباط بك، وكونك واسطة بينه وبيني إلا فيمن أحبه، أو يكون الخطاب مع روحهم و نورهم (عليهم السلام) والمراد بالاكمال إكماله في أبدانهم الشريفة أي هذا النور بعد تشعبه بأي بدن تعلق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحب الخلق إلى الله تعالى وقوله: إياكآمر. التخصيص إما لكونهم صلوات الله عليهم مكلفين بما لم يكلف به غيرهم، ويتأتي منهم من حق عبادته تعالى ما لا يتأتي من غيرهم، أو لاشتراط صحة أعمال العباد بولايتهم والاقرار بفضلهم بنحو ما مر من التجوز، وبهذا التحقيق يمكن الجمع بين ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): أول ما خلق الله نوري، وبين ما روى: أول ما خلق الله العقل، وما روي:
أول ما خلق الله النور، إن صحت أسانيدها. وتحقيق هذا الكلام على ما ينبغي يحتاج إلى نوع من البسط والاطناب، ولو وفينا حقه لكنا أخلفنا ما وعدناه في صدر الكتاب.
وأما الخبر الأخير فهو من غوامض الاخبار، والظاهر أن الكلام فيه مسوق على نحو الرموز والاسرار، ويحتمل أن يكون كناية عن تعلقه بكل مكلف، وأن لذلك التعلق وقتا خاصا، وقبل ذلك الوقت موانع عن تعلق العقل من الأغشية الظلمانية، والكدورات الهيولانية، كستر مسدول على وجه العقل، ويمكن حمله على ظاهر حقيقته على بعض الاحتمالات السالفة. وقوله: خلقة ملك. لعله بالإضافة أي خلقته كخلقة الملائكة في لطافته وروحانيته، ويحتمل أن يكون " خلقه " مضافا إلى الضمير مبتداءا و " ملك " خبره، أي خلقته خلقة ملك أو هو ملك حقيقة والله يعلم.