المعضلة الحقيقية ( الزمن )
يتضح مما سبق ان المشكلة الاساسية في استساغة مسألة البداء وفقا للمنهج الذي يقول به المولى جل شأنه من خلال الآيات القرآنية المتعددة هو ارتباطها الوثيق بالعلم الالهي وما تطرحه من سوء فهم دلالتها على تجدد هذا العلم وعدم أزليته ، وهو ما تتفق عليه جميع الاراء على أنه غير لائق في وصف علمه سبحانه ، إلا ان المعضلة الحقيقية تتجلى في منحى آخر يتوجب علينا لتصحيح مسار البحث أن ننظر اليه بتمعن شديد ألا وهو عامل الزمن .
ان مفهوم الزمن وتأثيره الكبير في وصف ما كان فيما مضى ماضيا وما هو كائن الآن حاضرا وإن ما سيكون في قابل الزمان مستقبلا ، وإن قبول فكرة البداء من رفضها انما ترتكز اساسا على تحديدنا لموعد الحدث وموعد تبديله لما هو أبدى منه ، فإذا اردنا تحجيم فكرة تجدد العلم الالهي ( التي هي اصل الخلاف ) وجب علينا أولا وقبل كل شيء نفي حكم الزمن عليه بما يجعله ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا ، بمعنى أن هذا التصنيف للحوادث لا ينطبق على الخالق كانطباقها على المخلوق فإذا بلغنا ذلك تذللت أمامنا سائر العقبات ، ومع بعض التأمل والتفكر لنبحث في الاحاديث التي تتكلم عن ذات الله جل جلاله حتى نعلم اين الزمن منه تعالى ومن أفعاله اذ أن غاية الابهام هي في ظننا بعقولنا القاصرة ان الزمن يجري عليه جل جلاله جريه على سائر المخلوقات مع استثناء مبني على الإخبار انه باق لا تغيره الحوادث ، وهذا ما يجب استقصاؤه قبل القول في كيفية علمه سبحانه وماهيته .
ومن حيث أن للموضوع ارتباط واضح بالعلوم الدنيوية من خلال مفهوم الزمن فلا بأس هنا من مناورة طريفة هي في الحقيقة على قدر كبير من الاهمية بمكان على ان تكون لنا عودة اليها بعد مزيد من البحث في الفقرات التالية ، إلا اننا سوف نقتصر هنا على المبادئ الاولية التي ابتدعها احد ابرز علماء الفيزياء الحديثة وهو البرت اينشتاين ، الذي اعتمد في نظريته ومعظم انجازاته العلمية على فهمه لحقيقة الزمن من حيث اعتباره البعد الرابع ليكون عنوان اي شيء يتوجب وصفه بأربعة احداثيات بدلا من الثلاث التي كان الامر عليها من قبل ( س ، ص ، ع ) أو بدلالة الحروف الانكليزية ( x ، y ، z ) حيث بين ان وصف موقع شخص ما بتحديد موضعه على المحاور الثلاثية ليس دقيقا بل يجب اضافة بيان وضعه على محور الزمن فلو وصفنا موقعه بإحداثيات خطوط الطول والعرض والارتفاع كقولنا انه يقع عند خط طول ( 45 ) وخط العرض ( 36 ) وارتفاع ( 50 ) مترا عن مستوى سطح البحر سنعرف ان هذا الشخص موجود في العراق حيث تنطبق هذه الاحداثيات على موقع ما فيه ، لكن العلماء أوضحوا أن هذا الوصف يعوزه تحديد الزمن لأننا لا ندري منذ متى والى متى يصح ان تكون تلك الابعاد مرتبطة بوجود هذا الشخص في هذا المكان ، وبالتالي وجب ذكر ( بعد ) اخر لتكون المعلومة مستوفية شروطها وهو البعد الزمني ، وقد اثار هذا الطرح الكثير من الجدل والافتراضات حتى ذهب بعضهم الى امكانية السفر عبر الزمن كونه بعدا مثل سائر الابعاد ما دام السفر خلال الابعاد الاخرى ممكنا ، مع ان احدا لم يشر الى ذلك من قريب أو بعيد ولكن شأن البشرية دائما السعي وراء الاحلام علها تصبح يوما ما حقا .
ولا يهمنا من ذلك كله سوى الفكرة الاساسية وهي ان الابعاد الكونية او الفضائية او المكانية او ايا ما كان اسمها هي مخلوقة من ضمن خلق الكون الذي هو مخلوق اصلا ، وحيث انه كذلك فإنها سوف لا تخرج عن اطار الوجود في ذات الله جل جلاله فهي لا تحتويه ولا تؤثر فيه ولا يتحرك سبحانه في ارجائها كما يعتقد المجسمون بل انه تعالى من يحتويها في ذاته العظمى حتى ذهب عمر الخيام في رباعياته للرد على من يزعم انه من اهل النار لمجونه وعبثه من خلال مناجاته لخالقه ومولاه متسائلا ( ان جعلتني في النار فهل هو مكان خال منك سبحانك ؟ وإذ انت معي فهي محل رضا مني ان ابقى بجوار خالقي ومولاي ) ( الرباعيات ) وهي من لطائف اعتذارات المذنبين تتخلل بين طياتها معرفة روحية بالصفات الالهية رغم ارتكاب المعاصي . وهاهو الامام زين العابدين يقف في مسجد الشام اذ يكبر المؤذن ( الله اكبر ) فيعقب سلام الله عليه ( كبرت كبيرا لا يقاس ولا شيء اكبر منه ) .
وحيث أننا سلمنا بان سائر الاحداثيات والأبعاد انما هي مخلوقات اقل من ان تحتوي خالقها فان الزمن شانه في ذلك شان اقرانه مخلوق تنطبق آثاره على المخلوقات وتجري عليهم اسبابه ولكنه عديم التأثير في خالقه واهون من ان يحتويه او يؤثر فيه او في افعاله او ارادته ... ولا حتى في علمه اذ أن الله جل جلاله موجود منذ الازل حيث لا زمان ولا مكان وهو باق الى الابد حيث لا زمان ولا مكان وهو بين هذا وذاك كما هو سبحانه فلا هو طفل فيكبر ويهرم ولا هو صغير حجم فيعظم حجمه بتقادم الزمان فهو خالق الزمان وجاعله آية تعاقب الامم والدول والآباء ثم الابناء ثم الاحفاد جيلا بعد جيل يخضعون لمشيئته وإرادته ويحيط بهم علمه منذ بدء الكينونة وحتى ابد الدهر .
وقد يعترض البعض على ان المولى قد ذكر في اكثر من موضع من آي الذكر الحكيم خلقه السموات والأرض في ستة ايام كما جاء في سورة يونس ( ع ) وهود ( ع ) والفرقان والتنزيل والسجدة ، فلا اجد افضل من رد ال بيت العصمة على ذلك كما جاء في توحيد الصدوق عن الامام الرضا في معرض جوابه على المأمون عندما سأله عن قول الله عز وجل (( وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة ايام وكان عرشه على الماء ليبلوكم ايكم احسن عملا)) هود – 7 – قال ( ع ) في ضمن جوابه (( ...وخلق السموات والأرض في ستة ايام وهو مستو على عرشه وكان قادرا على ان يخلقها في طرفة عين ولكنه عز وجل خلقها في ستة ايام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء وتستدل ما يحدث على الله تعالى ذكره مرة بعد مرة )) الحديث.
والنكتة المستقاة هنا ان خلق الزمان كما يظهر قد سبق خلق المكان لان هذا الخلق جرى بشهادة الملائكة وان المولى جلت قدرته اراد للملائكة ان تشهد خلق المكان وهو يجري مجراه بمقتضى الاسباب ولو شاء لجعل ذلك بطرفة عين أو اقل من ذلك ( خارج حدود الزمن ) (( انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )) يس – 82 – أي أن الايام الستة التي ذكرت بالخصوص عاصرتها الملائكة لتشهد مراحل التكوين الاولى للأرض وسائر الكواكب والأجرام السماوية وكيف انها تحولت من صورة لأخرى حتى انتهت الى صورتها النهائية وفقا للأسباب العقلية لا الاعجاز ، حيث ارادة الخالق جلت قدرته لا تتجاوز قول (( كن )) .
اما بخصوص ما ورد عن آل بيت العصمة في بيان عدم تأثير الزمن على الذات الالهية بما يوحي كونه مخلوق شأنها في ذلك شأن المكان فهي اكثر من ان تحصى بمكان كهذا البحث ، ولكن لا بأس من الاشارة لطائفة منها لزيادة اليقين :
سأل نافع بن الازرق ابا جعفر ( ع ) فقال : اخبرني عن الله متى كان ؟ فقال ( ع ) : متى لم يكن حتى اخبرك متى كان ، سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا – الكافي ج / 1 ص 88 ح / 1
جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام من وراء نهر بلخ فقال : إني أسألك عن مسألة فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك ، فقال أبو الحسن عليه السلام: سل عما شئت فقال : أخبرني عن ربك متى كان ؟ وكيف كان ؟ وعلى أي شيء كان اعتماده ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى أين الأين بلا أين وكيف الكيف بلا كيف وكان اعتماده على قدرته – الكافي ج/1 ص 88 ح/2
اجتمعت اليهود إلى رأس الجالوت فقالوا له : إن هذا الرجل عالم - يعنون أمير المؤمنين عليه السلام- فانطلق بنا إليه نسأله ، فأتوه فقيل لهم : هو في القصر فانتظروه حتى خرج ، فقال له رأس الجالوت : جئناك نسألك فقال : سل يا يهودي عما بدا لك ، فقال : أسألك عن ربك متى كان ؟ فقال : كان بلا كينونية ، كان بلا كيف ، كان لم يزل بلا كم وبلا كيف كان ليس له قبل ، هو قبل القبل بلا قبل ولا غاية ولا منتهى ، انقطعت عنه الغاية وهو غاية كل غاية ، فقال رأس الجالوت : امضوا بنا فهو أعلم مما يقال فيه الكافي – ج/1 ص 89 ح/4
وعن امير المؤمنين ( ع ) قال : من و صفه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ، ومن قال كيف ؟ فقد استوصفه ، ومن قال أين ؟ فقد حيزه ، وعالم اذ لا معلوم ، ورب اذ لا مربوب ، وقادر اذ لا مقدور ...- الخطبة 152 نهج البلاغة ج2 ص 40
وعن زرارة قال : قلت لأبي جعفر ( ع ) : أكان الله ولا شيء ؟ قال : نعم كان ولا شيء ، قلت : فأين يكون ؟ قال ( وكان الامام متكئا فاستوى جالسا ) وقال : أحلت يا زرارة وسألت عن المكان إذ لا مكان . الكافي – ج/1 ص 90 ح/7
وعن أمير المؤمنين ( ع ) : الحمد لله الأول قبل كل أول ، والآخر بعد كل آخر ، وبأوليته وجب أن لا أول له ، وبآخريته وجب أن لا آخر له – خطبة الملاحم 101 نهج البلاغة ج1 ص194
وعنه ( ع ) : الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا ، فيكون أولا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا ، كل مسمى بالوحدة غيره قليل .. نهج البلاغة ج1ص 112
وعنه ( ع ) قال : لا تصحبه الاوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ،والعدم وجوده ، والابتداء ازله ...- نهج البلاغة ج2 ص 119 - 120
وعنه ( ع ) قال : تعالى الذي ليس له وقت معدود ، ولا أجل ممدود ، ولا نعت محدود ، سبحان الذي ليس له اول مبتدأ ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى – الكافي ج1 ص135
وعنه ( ع ) قال : ليس لأوليته ابتداء ، ولا لأزليته انقضاء ، هو الأول لم يزل ، والباقي بلا أجل . . . لا يقال له متى ، ولا يضرب له أمد بحتى . الخطبة 163 نهج البلاغة ج2 ص 65
والمستسقى من هذه الروايات ان الزمان مثل المكان مخلوقان ليس لهما أي تأثير على الخالق لا بنحو عجز أي منهما على الاحاطة به سبحانه بل بنحو كونهما مخلوقين فينبغي النهي عن قول متى أو أن يضرب له الأمد بحتى ، وما ذلك إلا لكونه تقدست اسماؤه هو الموجد للزمان والمكان وبمعنى أدق كما في قول سيد البلغاء ( لا تصحبه الاوقات ) اي ان افعاله لا ترتبط بعامل الزمن او الوقت فما عنده من عمل قبل عمل او بعده وإنما تقتصر هذه الحالة على مخلوقاته ، نعم : فهي تستشعر حالة بعد حالة وفعلا بعد فعل ... وليس له وقت معدود ...ولهذه العبارة ذات المدلول السابق ، اذ لا يعد له وقت بين فعل وفعل .
فجميع هذه المقتطفات تفيد ان الزمان مخلوق مثلما المكان وإلا فان الكلمات السابقة ستفقد دلالاتها بكل بساطة ، اذ كيف سبق الاوقات كونه أي وجوده ؟ إلا اذا كان هو خالق الوقت ، وكيف لا تصحبه الاوقات ؟ وليس له وقت معدود ؟ إلا اذا كان وجوده خارج حدود الزمن ، وكيف يكون وجوده خارج حدود الزمن ان لم يكن الزمن مخلوقا ؟ فإذا كان في هذا شفاء وطريق سالك الى الفهم ؟ كان بها وإلا فعلى من يحتاج للمزيد أن يبحث بنفسه حتى ترسخ لديه حقيقة خلق الزمن لأن جوهر الطرح يعتمد على الأخذ بهذا المعنى ولا جدوى من الاسترسال دون التسليم لهذه العقيدة اذ يبرر لنا هذا الوجه امكانية العدول من الامر الى سواه دون ان يكون فيهما سابق ولاحق حيث ما من مسافة زمنية تجعل احدهما سابقا والآخر لاحقا ، فلا يكون بين العلم بالقضاء وبديله زمن يقاس فيترتب عليه تجدد العلم وتغيره ، فان اصر القارئ على أن الزمن ليس بمخلوق وأنه يجري على المولى شأنه شأن مخلوقاته فان البداء سيبقى عنده قولا عقيما لا يتجاوز الزندقة والبهتان .]
يتضح مما سبق ان المشكلة الاساسية في استساغة مسألة البداء وفقا للمنهج الذي يقول به المولى جل شأنه من خلال الآيات القرآنية المتعددة هو ارتباطها الوثيق بالعلم الالهي وما تطرحه من سوء فهم دلالتها على تجدد هذا العلم وعدم أزليته ، وهو ما تتفق عليه جميع الاراء على أنه غير لائق في وصف علمه سبحانه ، إلا ان المعضلة الحقيقية تتجلى في منحى آخر يتوجب علينا لتصحيح مسار البحث أن ننظر اليه بتمعن شديد ألا وهو عامل الزمن .
ان مفهوم الزمن وتأثيره الكبير في وصف ما كان فيما مضى ماضيا وما هو كائن الآن حاضرا وإن ما سيكون في قابل الزمان مستقبلا ، وإن قبول فكرة البداء من رفضها انما ترتكز اساسا على تحديدنا لموعد الحدث وموعد تبديله لما هو أبدى منه ، فإذا اردنا تحجيم فكرة تجدد العلم الالهي ( التي هي اصل الخلاف ) وجب علينا أولا وقبل كل شيء نفي حكم الزمن عليه بما يجعله ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا ، بمعنى أن هذا التصنيف للحوادث لا ينطبق على الخالق كانطباقها على المخلوق فإذا بلغنا ذلك تذللت أمامنا سائر العقبات ، ومع بعض التأمل والتفكر لنبحث في الاحاديث التي تتكلم عن ذات الله جل جلاله حتى نعلم اين الزمن منه تعالى ومن أفعاله اذ أن غاية الابهام هي في ظننا بعقولنا القاصرة ان الزمن يجري عليه جل جلاله جريه على سائر المخلوقات مع استثناء مبني على الإخبار انه باق لا تغيره الحوادث ، وهذا ما يجب استقصاؤه قبل القول في كيفية علمه سبحانه وماهيته .
ومن حيث أن للموضوع ارتباط واضح بالعلوم الدنيوية من خلال مفهوم الزمن فلا بأس هنا من مناورة طريفة هي في الحقيقة على قدر كبير من الاهمية بمكان على ان تكون لنا عودة اليها بعد مزيد من البحث في الفقرات التالية ، إلا اننا سوف نقتصر هنا على المبادئ الاولية التي ابتدعها احد ابرز علماء الفيزياء الحديثة وهو البرت اينشتاين ، الذي اعتمد في نظريته ومعظم انجازاته العلمية على فهمه لحقيقة الزمن من حيث اعتباره البعد الرابع ليكون عنوان اي شيء يتوجب وصفه بأربعة احداثيات بدلا من الثلاث التي كان الامر عليها من قبل ( س ، ص ، ع ) أو بدلالة الحروف الانكليزية ( x ، y ، z ) حيث بين ان وصف موقع شخص ما بتحديد موضعه على المحاور الثلاثية ليس دقيقا بل يجب اضافة بيان وضعه على محور الزمن فلو وصفنا موقعه بإحداثيات خطوط الطول والعرض والارتفاع كقولنا انه يقع عند خط طول ( 45 ) وخط العرض ( 36 ) وارتفاع ( 50 ) مترا عن مستوى سطح البحر سنعرف ان هذا الشخص موجود في العراق حيث تنطبق هذه الاحداثيات على موقع ما فيه ، لكن العلماء أوضحوا أن هذا الوصف يعوزه تحديد الزمن لأننا لا ندري منذ متى والى متى يصح ان تكون تلك الابعاد مرتبطة بوجود هذا الشخص في هذا المكان ، وبالتالي وجب ذكر ( بعد ) اخر لتكون المعلومة مستوفية شروطها وهو البعد الزمني ، وقد اثار هذا الطرح الكثير من الجدل والافتراضات حتى ذهب بعضهم الى امكانية السفر عبر الزمن كونه بعدا مثل سائر الابعاد ما دام السفر خلال الابعاد الاخرى ممكنا ، مع ان احدا لم يشر الى ذلك من قريب أو بعيد ولكن شأن البشرية دائما السعي وراء الاحلام علها تصبح يوما ما حقا .
ولا يهمنا من ذلك كله سوى الفكرة الاساسية وهي ان الابعاد الكونية او الفضائية او المكانية او ايا ما كان اسمها هي مخلوقة من ضمن خلق الكون الذي هو مخلوق اصلا ، وحيث انه كذلك فإنها سوف لا تخرج عن اطار الوجود في ذات الله جل جلاله فهي لا تحتويه ولا تؤثر فيه ولا يتحرك سبحانه في ارجائها كما يعتقد المجسمون بل انه تعالى من يحتويها في ذاته العظمى حتى ذهب عمر الخيام في رباعياته للرد على من يزعم انه من اهل النار لمجونه وعبثه من خلال مناجاته لخالقه ومولاه متسائلا ( ان جعلتني في النار فهل هو مكان خال منك سبحانك ؟ وإذ انت معي فهي محل رضا مني ان ابقى بجوار خالقي ومولاي ) ( الرباعيات ) وهي من لطائف اعتذارات المذنبين تتخلل بين طياتها معرفة روحية بالصفات الالهية رغم ارتكاب المعاصي . وهاهو الامام زين العابدين يقف في مسجد الشام اذ يكبر المؤذن ( الله اكبر ) فيعقب سلام الله عليه ( كبرت كبيرا لا يقاس ولا شيء اكبر منه ) .
وحيث أننا سلمنا بان سائر الاحداثيات والأبعاد انما هي مخلوقات اقل من ان تحتوي خالقها فان الزمن شانه في ذلك شان اقرانه مخلوق تنطبق آثاره على المخلوقات وتجري عليهم اسبابه ولكنه عديم التأثير في خالقه واهون من ان يحتويه او يؤثر فيه او في افعاله او ارادته ... ولا حتى في علمه اذ أن الله جل جلاله موجود منذ الازل حيث لا زمان ولا مكان وهو باق الى الابد حيث لا زمان ولا مكان وهو بين هذا وذاك كما هو سبحانه فلا هو طفل فيكبر ويهرم ولا هو صغير حجم فيعظم حجمه بتقادم الزمان فهو خالق الزمان وجاعله آية تعاقب الامم والدول والآباء ثم الابناء ثم الاحفاد جيلا بعد جيل يخضعون لمشيئته وإرادته ويحيط بهم علمه منذ بدء الكينونة وحتى ابد الدهر .
وقد يعترض البعض على ان المولى قد ذكر في اكثر من موضع من آي الذكر الحكيم خلقه السموات والأرض في ستة ايام كما جاء في سورة يونس ( ع ) وهود ( ع ) والفرقان والتنزيل والسجدة ، فلا اجد افضل من رد ال بيت العصمة على ذلك كما جاء في توحيد الصدوق عن الامام الرضا في معرض جوابه على المأمون عندما سأله عن قول الله عز وجل (( وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة ايام وكان عرشه على الماء ليبلوكم ايكم احسن عملا)) هود – 7 – قال ( ع ) في ضمن جوابه (( ...وخلق السموات والأرض في ستة ايام وهو مستو على عرشه وكان قادرا على ان يخلقها في طرفة عين ولكنه عز وجل خلقها في ستة ايام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء وتستدل ما يحدث على الله تعالى ذكره مرة بعد مرة )) الحديث.
والنكتة المستقاة هنا ان خلق الزمان كما يظهر قد سبق خلق المكان لان هذا الخلق جرى بشهادة الملائكة وان المولى جلت قدرته اراد للملائكة ان تشهد خلق المكان وهو يجري مجراه بمقتضى الاسباب ولو شاء لجعل ذلك بطرفة عين أو اقل من ذلك ( خارج حدود الزمن ) (( انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )) يس – 82 – أي أن الايام الستة التي ذكرت بالخصوص عاصرتها الملائكة لتشهد مراحل التكوين الاولى للأرض وسائر الكواكب والأجرام السماوية وكيف انها تحولت من صورة لأخرى حتى انتهت الى صورتها النهائية وفقا للأسباب العقلية لا الاعجاز ، حيث ارادة الخالق جلت قدرته لا تتجاوز قول (( كن )) .
اما بخصوص ما ورد عن آل بيت العصمة في بيان عدم تأثير الزمن على الذات الالهية بما يوحي كونه مخلوق شأنها في ذلك شأن المكان فهي اكثر من ان تحصى بمكان كهذا البحث ، ولكن لا بأس من الاشارة لطائفة منها لزيادة اليقين :
سأل نافع بن الازرق ابا جعفر ( ع ) فقال : اخبرني عن الله متى كان ؟ فقال ( ع ) : متى لم يكن حتى اخبرك متى كان ، سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا – الكافي ج / 1 ص 88 ح / 1
جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام من وراء نهر بلخ فقال : إني أسألك عن مسألة فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك ، فقال أبو الحسن عليه السلام: سل عما شئت فقال : أخبرني عن ربك متى كان ؟ وكيف كان ؟ وعلى أي شيء كان اعتماده ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى أين الأين بلا أين وكيف الكيف بلا كيف وكان اعتماده على قدرته – الكافي ج/1 ص 88 ح/2
اجتمعت اليهود إلى رأس الجالوت فقالوا له : إن هذا الرجل عالم - يعنون أمير المؤمنين عليه السلام- فانطلق بنا إليه نسأله ، فأتوه فقيل لهم : هو في القصر فانتظروه حتى خرج ، فقال له رأس الجالوت : جئناك نسألك فقال : سل يا يهودي عما بدا لك ، فقال : أسألك عن ربك متى كان ؟ فقال : كان بلا كينونية ، كان بلا كيف ، كان لم يزل بلا كم وبلا كيف كان ليس له قبل ، هو قبل القبل بلا قبل ولا غاية ولا منتهى ، انقطعت عنه الغاية وهو غاية كل غاية ، فقال رأس الجالوت : امضوا بنا فهو أعلم مما يقال فيه الكافي – ج/1 ص 89 ح/4
وعن امير المؤمنين ( ع ) قال : من و صفه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ، ومن قال كيف ؟ فقد استوصفه ، ومن قال أين ؟ فقد حيزه ، وعالم اذ لا معلوم ، ورب اذ لا مربوب ، وقادر اذ لا مقدور ...- الخطبة 152 نهج البلاغة ج2 ص 40
وعن زرارة قال : قلت لأبي جعفر ( ع ) : أكان الله ولا شيء ؟ قال : نعم كان ولا شيء ، قلت : فأين يكون ؟ قال ( وكان الامام متكئا فاستوى جالسا ) وقال : أحلت يا زرارة وسألت عن المكان إذ لا مكان . الكافي – ج/1 ص 90 ح/7
وعن أمير المؤمنين ( ع ) : الحمد لله الأول قبل كل أول ، والآخر بعد كل آخر ، وبأوليته وجب أن لا أول له ، وبآخريته وجب أن لا آخر له – خطبة الملاحم 101 نهج البلاغة ج1 ص194
وعنه ( ع ) : الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا ، فيكون أولا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا ، كل مسمى بالوحدة غيره قليل .. نهج البلاغة ج1ص 112
وعنه ( ع ) قال : لا تصحبه الاوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ،والعدم وجوده ، والابتداء ازله ...- نهج البلاغة ج2 ص 119 - 120
وعنه ( ع ) قال : تعالى الذي ليس له وقت معدود ، ولا أجل ممدود ، ولا نعت محدود ، سبحان الذي ليس له اول مبتدأ ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى – الكافي ج1 ص135
وعنه ( ع ) قال : ليس لأوليته ابتداء ، ولا لأزليته انقضاء ، هو الأول لم يزل ، والباقي بلا أجل . . . لا يقال له متى ، ولا يضرب له أمد بحتى . الخطبة 163 نهج البلاغة ج2 ص 65
والمستسقى من هذه الروايات ان الزمان مثل المكان مخلوقان ليس لهما أي تأثير على الخالق لا بنحو عجز أي منهما على الاحاطة به سبحانه بل بنحو كونهما مخلوقين فينبغي النهي عن قول متى أو أن يضرب له الأمد بحتى ، وما ذلك إلا لكونه تقدست اسماؤه هو الموجد للزمان والمكان وبمعنى أدق كما في قول سيد البلغاء ( لا تصحبه الاوقات ) اي ان افعاله لا ترتبط بعامل الزمن او الوقت فما عنده من عمل قبل عمل او بعده وإنما تقتصر هذه الحالة على مخلوقاته ، نعم : فهي تستشعر حالة بعد حالة وفعلا بعد فعل ... وليس له وقت معدود ...ولهذه العبارة ذات المدلول السابق ، اذ لا يعد له وقت بين فعل وفعل .
فجميع هذه المقتطفات تفيد ان الزمان مخلوق مثلما المكان وإلا فان الكلمات السابقة ستفقد دلالاتها بكل بساطة ، اذ كيف سبق الاوقات كونه أي وجوده ؟ إلا اذا كان هو خالق الوقت ، وكيف لا تصحبه الاوقات ؟ وليس له وقت معدود ؟ إلا اذا كان وجوده خارج حدود الزمن ، وكيف يكون وجوده خارج حدود الزمن ان لم يكن الزمن مخلوقا ؟ فإذا كان في هذا شفاء وطريق سالك الى الفهم ؟ كان بها وإلا فعلى من يحتاج للمزيد أن يبحث بنفسه حتى ترسخ لديه حقيقة خلق الزمن لأن جوهر الطرح يعتمد على الأخذ بهذا المعنى ولا جدوى من الاسترسال دون التسليم لهذه العقيدة اذ يبرر لنا هذا الوجه امكانية العدول من الامر الى سواه دون ان يكون فيهما سابق ولاحق حيث ما من مسافة زمنية تجعل احدهما سابقا والآخر لاحقا ، فلا يكون بين العلم بالقضاء وبديله زمن يقاس فيترتب عليه تجدد العلم وتغيره ، فان اصر القارئ على أن الزمن ليس بمخلوق وأنه يجري على المولى شأنه شأن مخلوقاته فان البداء سيبقى عنده قولا عقيما لا يتجاوز الزندقة والبهتان .]