0
تغيّرات غير متوقّعة في علم المناخ
إن دراسة العصور الجليدية السابقة تحدد الفترات الزمنية التي تستغرقها التغيرات المناخية.
إن سرعة ارتفاع درجة الحرارة التي تنتج من الاحتباس الحراري هي أعلى ممّا كان متوقّعا.
يوجد مع الأسف جزء من الحقيقة في أسوأ الخرافات. فهل هناك شيء أتفه من تنبؤات التنجيم المعتمدة على مواقع النجوم. وهل تؤثّر حركات الكرة الأرضية والقمر في مصير البشرية؟ وهل تغيّر حركات النجوم الظروف المناخية. أليس هذا غير متوقّع؟
أدرك اليونانيون من قبل أن ميل أشعة الشمس الذي ينظّم تواتر الفصول هو الذي يتحكم في مناخ الكرة الأرضية.
المراحل الجليدية المدهشة
تقدمت الدراسات والنظريات المتعلقة بالمناخ تقدما بطيئا من دون اكتشافات خارقة حتى القرن التاسع عشر. وكانت المفاجأة الكبرى في هذا القرن اكتشاف المراحل الجليدية، وهو اكتشاف ذو تاريخ حافل. كان دو شارپنتيه، وهو هاو متحمس ومدير معروف لملاحات بكس بسويسرا الروماندية، مقتنعا بأنه كان على جبال الجورا كميات ضخمة من الجليد كانت السبب في تخديد سطح الأرض.
كان دو شارپنتيه رجلا ثريا يتمتع بثقافة عالية نسبيا، وكانت تربطه علاقة صداقة بعالم شهير، ولكنه مفلس، يدعى لويس أكاسّيز. وفي عام 1836 تمكّن دو شارپنتيه من إقناع أكاسيز بوجود مراحل جليدية كانت جبال الجورا خلالها مكسوة بالجليد. فقد أطلعه دو شارپنتيه على صخور محززة، وفسر له سبب ذلك بأن الحصى الكبيرة المجروفة بحركة الجليد هي التي حفرت ـ أثناء احتكاكها بالقعر ـ هذه الحزوز على الصخر. لاحظ أكاسيز أن اتجاهات الحزوز كانت متوازية فيما بينها حتى على مسافات كبيرة، كما فسّر الوجود غير المتوقع لكتل صخرية بأنّ الجليديات نقلت هذه الكتل وخلَّفتها بعد انحسارها.
< لويس أگازي>
لقد استبعد أكاسيز الفرضية التوراتية التي تردّ سبب هذا النقل إلى الطوفان. وهكذا ففي غضون أشهر قليلة، انتقل أكاسيز ـ بتحريض من دو شارپنتيه ـ من متشكك إلى نصير مقتنع. وفي نوشاتل نظّم جلسة للجمعية الجيولوجية التي أسسها، وقدّم خلالها نظريته، وما إن انتهى من محاضرته حتى ارتفع ضجيج لا يوصف. كان المستمعون يتوقعون حديثا أكثر رصانة، إذ لم يكونوا مستعدين لثورة فكرية ورأوا في الفرضيات التي أيّدها أكاسيز ضربا من الخيال.
كرّس أكاسيز سنوات عديدة من حياته من أجل إثبات حقيقة المراحل الجليدية السابقة. ولحسن الحظ تلقّى أكاسيز دعما لحدسه من الجيولوجيين: إذ اكتشفوا آثارا ضخمة للجليديات حول جبال الألب وجبال الجورا وأوروبا الشمالية، ولا سيما في بولونيا وألمانيا وإنكلترا وإيرلندا وبلجيكا وهولندا وأيضا في روسيا. أما في القارة الأمريكية فإن الحدود الفاصلة بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية مغطاة ببقايا المراحل الجليدية وأكثرها وضوحا البحيرات الكبرى.
استسلم أكاسيز لاندفاعه وعمَّم فكرته بشكل مفرط، وتصور كرة أرضية مغطاة بين فترة وأخرى بالجليد. ولكن من المعروف حاليا أن ذلك مستحيل. فإذا كان البحر بأكمله مغطى بالجليد فلن تتراجع المراحل الجليدية على الإطلاق، لأن الجليد يعكس ضوء الشمس ويقلل كمية الحرارة التي يمتصها الغلاف الجوي وسطح الأرض إلى نسبة لا تستطيع معها الكرة الأرضية أن تزيد من درجة حرارتها إطلاقا.
ميلانكوڤيتش وسبب المراحل الجليدية
لم يكن لدى أكاسيز أية فكرة عن سبب المراحل الجليدية. وكان لا بد من الانتظار ثلاثين عاما من أجل التفكير بأن موقع الكرة الأرضية بالنسبة إلى الشمس قد يُحدث هذه الانخفاضات في درجات الحرارة. وفي غضون ذلك كان علماء المناخ يفكرون في أن البراكين قد تكون السببَ في انخفاض درجة الحرارة: فالبراكين في إصدارها سُحُب الغبار الكثيفة ربما تكون قد اعترضت الطاقة الشمسية وخفّضت درجة حرارة المناخ. فقد وصف سُحُبَ الغبار التي غطت أوروبا في وقت من الأوقات، والتي ربما تكون قد اعترضت الإشعاع الشمسي. ومن هنا كان أول مثال عن الخلاف الذي لايزال يثير حاليا علماء الجيولوجيا والمستحاثات: فما هو إذًا سبب اضطرابات المناخ؟ إننا نعرف الخلاف الحالي حول سبب انخفاض درجة الحرارة الذي أدى إلى اختفاء الدينوصورات منذ 65 مليون سنة، وهو خلاف بين أنصار الفرضية البركانية وأنصار اصطدام أحد النيازك بالأرض. ويبدو أن الدعم الذي كانت تتلقاه الفرضية البركانية آخذ الآن بالتراجع.
منذ 000 18 سنة كان نصف الكرة الأرضية الشمالي مغطى بطبقات جليدية بلغت سمكها عدة كيلومترات. إن كمية المياه المأخوذة من المحيطات لتكوين طبقة الجليد فوق البحار القطبية كانت كبيرة جدا لدرجة كانت سيبيريا وأمريكا الشمالية متصلتين إحداهما بالأخرى عبر جسر بري. وحاليا لم يبق من الأراضي المغطاة بالجليد سوى گرينلندا وقارة القطب الجنوبي.
يرجع عمر ركام آخر الجليديات الكبيرة الذي أحاط بكندا إلى نحو 000 20 سنة. وقد تم الحصول على هذا العمر بمعايرة الكربون 14 المشعّ في البقايا العضوية المحصورة بالجليد. وفيما بعد، عثر علماء الجيولوجيا على آثار أخرى من المراحل الجليدية الكبرى: وقد أدى هذا إلى زيادة عدد المراحل الجليدية الكبرى الأربع المعروفة والبعيدة عن المنطق. إذ إن تحديد هذا العدد، الذي بقي لوقت طويل حقيقة لا ريب فيها، لم يكن منطقيا: فهناك بالفعل مراحل جليدية أخرى، غير أن بقاياها قد طُمست بفعل عوامل الانجراف والمراحل الجليدية اللاحقة.
القياسات السابقة
في عام 1955، فكّر ، وهو باحث إيطالي كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة، في دراسة قُوارات carottes الرواسب البحرية وقياس نسبة نظائر الأكسجين في هياكل المنخربات foraminifère، وهي حيوانات مجهرية أحادية الخلية يبلغ قدّها بضعة أعشار الملّيمتر. وبذلك أعاد تشكيل تعاقب المراحل المناخية الكبرى الباردة والحارة خلال 000 400 سنة. وفيما بعد تمّ تحسين التقنيات وأعيد تشكيل التغيّرات المناخية من دون انقطاع لنحو ما بين خمسة وستة ملايين سنة، كما تمّ فهرسة الأحداث المناخية الكبيرة لنحو ستين مليون سنة.
إن هذه القياسات، إضافة إلى القياسات المأخوذة من قوارات الجليديات، تكشف عن التعاقب الدوري للتقلبات المناخية والاختلافات في الكتلة الجليدية على القارات.
إن نظير الأكسجين الأكثر غزارة هو ذو الكتلة الذرية 16 (تتكوّن نواته من ثمانية بروتونات وثمانية نيوترونات). إن معظم أكسجين الماء هو من الأكسجين 16، ومع ذلك فإن بضعة جزيئات من الماء من أصل ألف جزيء تكون مكوّنة من النظير الأثقل؛ الأكسجين 18. وتتجه هذه الجزيئات الأثقل إلى البقاء في مياه المحيطات عندما تتبخَّر المياه من سطح هذه المحيطات، التي تغتني نتيجة لذلك بالنظير 18. وعلى هذا الأساس تكون نسبة الأكسجين 18 في الأمطار والثلوج والجليد، المتكون من هذه الهطولات التي تسقط على القارات، أقل من نسبتها في مياه المحيطات. فعندما تبدأ مرحلة جليدية تتكون طبقات من الجليد القاري من الهطولات الناجمة عن مياه المحيطات التي تكون قد اغتنت بالأكسجين 18. ولكن لا يمكننا أن نجد مياه تلك المحيطات ثانية ولا أن نحدد تركيب مياه فترات زمنية لم تعد موجودة، وإنما نجد هذا التركيب مسجلا في كربونات الكالسيوم بهياكل المنخربات التي تدخل في تركيبها ذرات الأكسجين الموجودة في مياه البحر. فكلما كانت نسبة الأكسجين 18 إلى الأكسجين 16 أكثر ارتفاعا كانت الجليديات القارية أكثر انتشارا في الزمن الذي ترسبت فيه الرواسب ومعها هياكل المنخربات: وهكذا فإن قياس نسبة الأكسجين 18 إلى الأكسجين 16 في هذه الهياكل يحدد الحجم الكلي للجليد على الكرة الأرضية.
كان هناك 104 مراحل جليدية خلال 1.8 مليون سنة، وأكثر هذه المراحل شدة حصلت منذ مليون سنة على الأقل. وكانت تحصل كل 000 100 سنة، وتتم في فترتين متعاقبتين مدتاهما 000 21 سنة و000 41 سنة. أثارت هذه الملاحظات نظرية كان قد فكّر بها الفلكي الصربي في الثلاثينات. فقد حسب ميلانكوڤيتش يدويا كمية الإشعاعات الشمسية التي تسقط على خط العرض الشمالي 65، حيث تنتشر القلنسوات الجليدية. فكّر ميلانكوڤيتش بذكاء في أن كل شيء يعتمد على شدة الإشعاع الشمسي الذي يسقط على خط العرض المذكور حيث يُحتمل انتشار الجليد القطبي.
يعود سبب التغيّر الأول إلى ظاهرة تغيّر ميل محور دوران الكرة الأرضية. وهذا الميل يختلف درجة واحدة وثلاثين ثانية على الأكثر حول قيمته الحالية البالغة 23 درجة و30 ثانية. فإذا كانت الكرة الأرضية مائلة أكثر مما هي عليه الآن فإن الأشعة الشمسية تسقط أكثر قليلا في الصيف على خطوط العرض ذات القيم المرتفعة وأقل قليلا في الشتاء. وبخلاف ذلك عندما يكون الميل ضعيفا فإن التباين بين الصيف والشتاء يصبح أقل وضوحا.
وهناك عامل آخر يغيّر المناخ يتمثل في موضع الكرة الأرضية على مدارها حيث تحتل الشمس أحد محرقيه. فعلى سبيل المثال نحن محظوظون في الوقت الحاضر بسبب قربنا من الشمس شتاء وبعدنا عنها صيفا. وهذا يتغير مع الزمن بظاهرة المبادرة précession. ولهذا السبب كانت الكرة الأرضية منذ 000 11 سنة بعيدة عن الشمس شتاء وقريبة منها صيفا.
وممّا يزيد أيضا في هذا التباين اجتماع هاتين الظاهرتين. إضافة إلى ذلك فإن المدار الإهليليجي الذي ترسمه الكرة الأرضية حول الشمس قابل للتغير أيضا من مدار شبه دائري إلى مدار قليل التطاول بنسبة انحراف عن المركز قدرها 0.06 تقريبا. إن هذا الاختلاف ليس كبيرا ولكنه يكفي لتغيير أسلوب سقوط الإشعاع الشمسي على كوكبنا مع الزمن.
وتنجم هذه الاختلافات الثلاثة عن عمليات جذب كواكب المجموعة الشمسية الأخرى. بقيت نظرية ميلانكوڤيتش موضع نقد لفترة طويلة؛ بسبب عدم تطابقها مع نتائج القياسات. والشيء المدهش أن الاعتراضات على أفكار ميلانكوڤيتش كانت تستند إلى أدلة علمية خاطئة. فقد ترسّخت الحقيقة عندما أعدنا تكوين المناخ ثانية من قوارات الرواسب البحرية. فقد كانت وجهة نظر ميلانكوڤيتش صحيحة. وهكذا فقد استُبْعدت النظرية البركانية وأُدْخلت تحسينات على حسابات ميلانكوڤيتش من قبل الأستاذ في جامعة لوڤان الكاثوليكية.
كانت هناك مرحلة جليدية منذ 000 18 سنة
في الوقت الذي كانت تُجرى فيه هذه الدراسات قام علماء الجيولوجيا بتقصّي حالة المناخ خلال مرحلة الجليد الأخيرة ولا سيّما خلال ذروتها منذ000 18 -000 20 سنة. وبذلك تمكّن خمسون باحثا من إعادة تكوين حالة الكرة الأرضية خلال الشهرين النقيضين من السنة، وهما 2 و 8. ونعلم منذ زمن بعيد أن الحيوانات، ولا سيّما المنخربات التي تعيش في المياه الباردة، ليست هي نفسها التي تعيش في المياه الحارة (الدافئة). وبالتالي تسمح دراسة الراسب (وما يحويه من هياكل المنخربات) بتحديد فيما إذا ترسّب هذا الراسب في منطقة باردة أو حارة.
إن العلاقة بين وجود أنواع محدّدة من المنخربات وبين درجة حرارة البحر هي علاقة وثيقة. لذا درس العلماء تغيّرات المجموعات الحيوانية (الوحيش) المستحاثة واستنتجوا درجة حرارة مياه البحر بتقريب قدره درجة واحدة. وحاليا، نعرف كيف نحدّد درجة حرارة مياه البحر في عرض البحار أمام شواطئ فرنسا قبل 000 20 سنة. فقد كانت تتراوح ما بين 6 و 7 درجات في عرض البحر أمام بروتانيا صيفا، وكانت تقترب من الصفر شتاء. ومن دون أدنى شك كان الطوف الجليدي banquise أكثر امتدادا نحو الجنوب: حيث كان الجليد يُغطي بحرَيْ النروج وگرينلندا على مدار السنة، وامتدت حدوده حتى إيرلندا. ولقد دلّت إعادة تكوين الحرارة في مدينة ليون، استنادا إلى دراسة حبوب الإلقاح (المستحاثة)، على أن الحرارة كانت منذ 000 18 سنة أقل وسطيا ممّا هي عليه حاليا بنحو 12 درجة. فقد كانت ليون تقع على حدود منطقة الجليد الدائم التي تشبه حاليا منطقة الجليد الدائم في سيبيريا.
تعليق