الحلقة الرابعة
لا زلنا في مناقشة المقدمة من كتابه الفكر المتين (ج1)
، فالأصول هو علم لم يرد في شيء من اخبار اهل البيت (ع) الا اللهم في خبر واحد ورد عن الامام الصادق (ع) حيث قال : ( علينا القاء الأصول وعليكم التفريع ..) وقد يحتج بهذا الحديث ارباب المدرسة الأصولية الا ان المسلم به أن هذه الأصول التي يشير اليها المعصوم (ع) تعني القواعد التي ذكرناها اعلاه في حديثنا ولا يدخل في ضمنها القواعد الدخيلة على منهج اهل البيت (ع) من فلسفة ومنطق واجتهاد ورأي ومقاييس عقلية لأن كل تلك الامور انما هي محظورة ليس لأحد حق في استعمالها في الشريعة ومعرفة الأحكام باي وجه من الوجوه .
الا ان السيد الحسني الصرخي بما هو اصولي بحت كان ولا يزال يدافع عن المدرسة التي ينتمي اليها منذ سنين دراسته الأولى في الحوزة ، وهي " المدرسة الأصولية" وهي الخط التقليدي للحوزة وان كان يختط لنفسه منهجا" يعتبره هو والعديد من رجالات الحوزة خطا" تجديديا" في المدرسة الأصولية بل هو محييها ان صحت العبارة ( خط مدرسة اصول الشهيد محمد باقر الصدر(ره) ) والتي دافع عنها السيد محمد صادق الصدر اشد الدفاع وتمم من بعده السيد الحسني الدور الذي بدأ به استاذه ، ان السبب الرئيسي لكتابة كتابه (الفكر المتين) هو اصلا" للدفاع عن مباني الشهيد الصدر الأول ضد من اشكل عليها ، ولذلك فهو كالطائر الذي يحوم حول مدرسة وافكار استاذه الشهيد ويدافع عن وكره وعشه اشد الدفاع من لهجمات المضادة من قبل المدارس الأصولية الأخرى ، ان السيد الحسني كما يتضح لمن قرأ فكره الموصوف بالمتين انه تمم عبادة العجل المعاصر (علم الأصول) بل هو من اشد العابدين والعاكفين على عبادته ولم يكتفي بعبادته فحسب بل اوصى تلاميذه ومن يعتقد به ومن يتبعه او يقلده ان يستمر على هذا النهج ، أي عبادة العجل السامري الجديد في امة محمد (ص) والذي عبد بمجرد ان اطلت غيبة الحجة بن الحسن (روحي فداه) علينا ، وعلى اية حال فلن نقف مطولا" على تفصيل مسألة عبادة العجل وربط السنة التأريخية لبني اسرائيل لأنها توكل الى محلها ، لكن جل ما يهمنا هو التركيز على مباني السيد الحسني التي يشرحها هنا في مقدمة بحثه الذي نحن بصدده ، لنرى ماذا يقول عن هذا العجل الذي احبه واحب ان يعبده هو وكل انسان يؤمن بالتقليد والأتباع لغير المعصوم ، يقول : ( ولذلك نقول وهو الحق ان علم الأصول هو ارقى العلوم واوسع العلوم وأن نظرياته انضج واعمق وادق ، فالعالم في الأصول هو عالم بباقي العلوم بالقوة او بالفعل ، فالأصولي فقيه وعالم تفسير وحديث ورجالي وفيلسوف وعالم كلام وعالم رياضيات وفلكي وغيرها من العلوم ..) ص7 ، نقول ردا" على هذا الكلام :
هنا انحاز السيد الحسني للعلم والأتجاه الذي يحبه ويهواه ، ولكونه اصولي ينسب للأصول انه ارقى انواع العلوم وافضلها واوسعها مجالا" كما عبر عنها ، ولا ندري ما مصدر هذه النعوت والاوصاف لعلم الأصول ولا نعلم اين هو من باقي العلوم الشريفة كعلوم القرآن وعلوم آل محمد (ع) العظيمة التي تحمل الأسرار مثل علم الكتاب وعلم ابجد وعلم التوسم والتأويل وغيرها من العلوم التي لا تعد ولا تحصى وهي كلها مشتقة من الكتاب كما قال تعالى ( قل لو كان البحر مدادا" لكلمات ربي لنفذ البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا") واننا نعلم ان القرآن لا يستغرق اكثر من زجاجة صغيرة من الحبر او المداد كي يكتب باجمعه من اول سورة البقرة والى آخر سورة الناس ، فما معنى قوله تعالى ان البحر لا يسع كتابته مدادا" لأحاطة كلمات الله عز وجل ، بل في آية اخرى يقول انها سبعة ابحر (والبحر يمده من وراءه سبعة ابحر ..) اننا لا يمكن ان نفهم التعبير القرىني لهتين الآيتين من ناحية مادية وانما لا شك ان المولى تبارك ةتعالى يقصد شيء آخر غير التعبير الكتابي وغير الكتابة الاعتيادية المادية لكلمات القرآن ، ان التاويل لآيات القرآن وسوره هو من يعنى بحل هذا الأشكال كما وضح السيد القحطاني في الموسوعة القرآنية علم التأويل وقال انه من مختصات الأئمة (ع) وهم يفيضونها على شيعتهم الخلص ومنهم السيد اليماني الذي يكون باقرا" للحديث وعالما" بالتأويل من خلال النور والعلم الذي يفيضه عليه مولانا صاحب الزمان (عج) ، ومن هنا فان قول السيد الصرخي الحسني بأن علم الأصول هو ارقى العلوم هو ظلم وتجني على باقي العلوم الالهية العظيمة التي افاضها المولى عز وجل وحبا بها آل محمد (ع) دون سائر الخلق حتى الانبياء (ع) ، وفيه يتجلى الغرور بهذا العلم الوضعي الذي اخترعه الفقهاء في اوائل عصر الغيبة الكبرى ، ولكن ما هي العلوم التي نتحدث عنها قبال علم الأصول ؟...او دعونا نصوغ السؤال بكيفية اخرى : ما هو العلم الذي يعده اهل البيت (ع) علما" وهل يعتبر علم الأصول اساسا" من العلوم من الناحية الدينية ؟...لننظر الى نظرة الشارع المقدس ومنظوره الى انواع العلوم :
عن سليم بن قيس الهلالي قال سمعت عليا" عليه السلام يقول لأبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني : يا ابا الطفيل العلم علمان : علم لا يسع الناس الا النظر فيه وهو صبغة الأسلام وعلم يسع الناس ترك النظر فيه وهو قدرة الله عز وجل .
غوالي اللئالي عن الكاظم عليه السلام ز.ثم قال عليه السلام : انما العلم ثلاثة آية محكمة او فريضة عادلة او سنة قائمة وما خلاهن فهو فضل .
معاني الأخبار عن سفيان بن عيينة قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول : وجدت علم الناس كلهم في اربع : ان تعرف ربك ، والثانية ان تعرف ما صنع بك ، والثالثة ان تعرف ما أراد منك ، والرابعة ان تعرف ما يخرجك من دينك .
قال رسول الله (ص) في قوله تعالى (يا ايها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) قال رسول الله (ص) : فضل الله عز وجل القرآن واعلم بتأويله ورحمته وتوفيقه لموالاة محمد وآله الطاهرين ومعاداة اعداؤهم ، ثم قال (ص) : وكيف لا يكون ذلك خيرا" مما يجمعون وهو ثمن الجنة ونعيمها فانه يكتسب بها رضوان الله الذي هو افضل من الجنة .. يرفع الله بهذا القرآن والعلم بتأويله وبموالاتنا اهل البيت والتبري من اعدائنا اقواما" فيجعلهم في الخير قادة ائمة في الخير ، تقتص آثارهم وترمق اعمالهم ويقتدى بفعالهم وترغب الملائكة في خلتهم وتمسحهم بأجنحتهم في صلاتهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه ، وسباع البر البر وانعامه ، والسماء ونجومها ..) الجواهر للكراجكي : قال امير المؤمنين (ع) : العلوم اربعة : الفقه للأديان ، والطب للأبدان ، والنحو للسان ، والنجوم لمعرفة الازمان .
قال النبي الأعظم (ص) : العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان
نلاحظ من الأخبار اعلاه ان الأصول ليس من بين العلوم التي عدها اهل البيت (ع) من العلوم المقدمة على سائر المعارف والعلوم ، بل هو علم وضعي مبتدع جاء بعد غيبة ولي الله الاعظم (عج) ، ووضعت قواعده ليس من قبل المعصومين بل من قبل فقهاء الغيبة ، ولذلك فاعتباره علم محترم داخل ضمن العلوم الألهية فهو سفسطة من القول وادعاء يفتقر للدليل ، فكيف يعده السيد الصرخي علما" من ارقى العلوم وارفعها منزلة ؟!...فأن قيل ان الأصول قائم على معرفة الفقه والتفسير واللغة او النحو وهي من الأمور التي ندب الشارع المقدس على طلبها من باب طلب العلم ، وهذا ما اشار اليه السيد الحسني بقوله ان الأصولي فقيه وعالم تفسير وحديث ورجالي وفيلسوف وعالم كلام وعالم رياضيات وفلكي وغيرها من العلوم ، فيرد على هذا الكلام ان معنى الفقه بالمعنى الصحيح الذي يريده اهل البيت (ع) هو غير الفقه الذي يقوم عليه علم الأصول ويتعلق به وبمباحثه بل هو بعيد عنه كل البعد ، فالفقه في فكر المعصومين هو ليس كما يصوره ارباب المدرسة الأصولية الذي يحفظ فروع الفتاوى والتخريجات الشرعية وجملة الاحكام والوقوف على دقائق عللها واسكثار الكلام فيها وما الى ذلك من وصفهم ، لا بل ان معنى الفقه رغير هذا المفهوم تماما" ، ان الفقيه في فكر اهل البيت (ع) هو كل انسان عارف بحقيقة العبودية لله تعالى الذي يخشاه بكل جوارحه وكيانه وعمله ، الذي يسلك ما به مرضاة ربه ويبتعد عن موارد سخطه ، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، ذاك الذي يحبب الناس الى الطاعة ويكرههم المعصية ولا يقنطهم من رحمة الله ولا يرخص لهم في معصية الله عز وجل ، الحليم العالم الصامت القليل الكلام في ما لا يعنيه ، الصابر على البلاء الشاكر في الرخاء الراضي بالقضاء ..العارف بمعاني كلام المعصومين لا من يحفظ افكار وفتواى الفقهاء المختلفين فيما بينهم ، الراوي لحديثهم العالم بمعاريض كلامهم ، كل هذه الصفات نستخلصها من جملة روايات اهل البيت (ع) والقرآن ..هذه هي مواصفات الفقيه الصحيحة الوافية التي جاءت من خلال النصوص المقدسة للمعصومين (ع) ، ان كل شخص يسير ومه سراج من نور مستخلص اساسا" من الكلام النوراني لآل محمد (ع) حتما" لن يتيه ولن يضل قيد انملة ما دامت تلك الأخبار موافقة للقرآن ، لذلك حين نتكلم يجب ان نكون نبني كلامنا على اساس ميتن فعلا" وليس اوهن من بيت العنكبوت ، اعني جملة من الأخبار بهذا الصدد نورد جزءا" منها على سبيل المثال لا الحصر :
عن امير المؤمنين (عليه السلام) - في عهده إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر -: إن أفضل الفقه الورع في دين الله والعمل بطاعته، فعليك بالتقوى في سر أمرك وعلانيته .
- رسول الله (صلى الله عليه وآله): كفى بالمرء فقها إذا عبد الله، وكفى بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه .
الإمام الصادق (عليه السلام): لا يكون الرجل فقيها حتى لا يبالي أي ثوبيه ابتذل، وبما سد فورة الجوع .
إن رجلا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليعلمه القرآن، فانتهى إلى قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * فقال:
يكفيني هذا وانصرف، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
انصرف الرجل وهو فقيه ) .).
- الإمام الرضا (عليه السلام) - عن آبائه (عليهم السلام) -: رفع إلى رسول الله قوم في بعض غزواته، فقال: من القوم؟
قالوا: مؤمنون يا رسول الله، قال: وما بلغ من إيمانكم؟ قالوا: الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بالقضاء، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
حلماء علماء كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء .
لإمام علي (عليه السلام): ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟: من لم يرخص الناس في معاصي الله، ولم يقنطهم من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه .
عنه (عليه السلام): الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله).
- الإمام الباقر (عليه السلام) - وقد سأله رجل فأجابه، فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا -:
يا ويحك وهل رأيت فقيها قط؟! إن الفقيه حق الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي (صلى الله عليه وآله .
عنه (صلى الله عليه وآله) - في وصيته لأبي ذر -: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس أمثال الأباعر، فلا يحفل بوجودهم، ولا يغيره ذلك كما لا يغيره وجود بعير عنده، ثم يرجع هو إلى نفسه فيكون أعظم حاقر لها )).
- عنه (صلى الله عليه وآله) - في وصيته لأبي ذر - لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله تبارك وتعالى أمثال الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فيكون هو أحقر حاقر لها .
الإمام الصادق (عليه السلام): أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إن الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب ().
- عنه (عليه السلام): لا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا ().
- عنه (عليه السلام): إنا والله لا نعد الرجل من شيعتنا فقيها حتى يلحن له فيعرف اللحن
هذا هو الفقيه في فكر اهل بيت النبوة (ع) المصدق لكتاب الله عز وجل ، فأين ما يريد الفقهاء الأصوليين تصويره لنا ان الفقيه هو العارف بمسائل الحلال والحرام وكافة تشعباتها واصولها وتخريجاتها ، والعلم بفروع العلوم مثل اللغة وعلم الكلام والفلسفة وما الى ذلك من متطلبات وحوائج صناعة الفقيه في فكرهم الغريب والأجنبي عن خط الولاية الحقيقية ، ولم يكن هذا كلامنا وحده في التعليق على تعريف الفقيه عند فقهاء الشيعة خصوصا" والسنة عموما" ، فكلاهما حاد عن الطريق كما بينا في كتاب سقيفة الغيبة ، وانما كان كلام جملة من علماء المذهب المتأخرين منهم كالشهيد الثاني و والفيض الكاشاني وهما من كبار علماء الشيعة وقد ازدرأ كل واحد منهما ما يقوله مفهوم الفقه وتعريف الفقيه في مدارس الفكر الشيعي العامة ، حيث ذكر الفيض الكاشاني في كتابه المحجة البيضاء قوله : (إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه الورع الكاف نفسه عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم. ولم يقل في جميع ذلك: الحافظ لفروع الفتاوى، ولست أقول: إن اسم الفقه لم يكن متناولا للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول أو بطريق الاستتباع، وكان إطلاقهم له على علم الآخرة وأحكام القلب أكثر، فثار من هذا التخصيص تلبيس بعض الناس على التجرد له والإعراض عن علم الآخرة وأحكام القلب ووجدوا على ذلك معينا من الطبع، فإن علم الباطن غامض والعمل به عسير والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال متعذر، فوجد الشيطان مجالا لتحسين ذلك في القلوب بواسطة تخصيص اسم الفقه الذي هو اسم محمود في الشرع (المحجة البيضاء 1/81-83 )
يتبع لطفا" .....
تعليق