الحلقة الخامسة
تكملة النقاش في المقدمة
نعود الى كلام السيد في تكلمة حديثه في المقدمة عن الفقه في المنظور الاصولي وهنا جاء دور الكلام عن عملية الأستنباط والطرق الرئيسية في استحصال الحكم الشرعي واستخراجه وفق المدرسة الأصولية ، يقول : ( وبعد هذا نقول ان منهج الأستنباط في الفقه الامامي يعتمد على مرحلتين في الاستنباط : المرحلة الأولى" اثبات الحكم الشرعي" ويطلب فيها الدليل على الحكم الشرعي ، المرحلة الثانية (الأصول العلمية ) ويطلب فيها تشخيص الوظيفة العملية تجاه الحكم الشرعي تنجيزا" او تعذيرا" ، والمرحلة الاولى يشترك فيها الفقه الأمامي مع فقه العامة ، أما المرحلة الثانية فيختص بها الفقه الامامي ، اما فقه العامة فأن الفقيه اذا لم يتمكن من اثبات الحكم الشرعي بالأدلة القطعية او بالأدلة الثابتة شرعا" فأنه يتجه الى طرق اضعف في مقام الأثبات كالظنون القائمة على اساس اعتبارات ومناسبات واستحسانات ، بينما الفقه الامامي فأن الفقيه اذا لم تقم عنده الأدلة القطعية او الأدلة الثابتة شرعا" انتقل الى المرحلة الثانية وهي مرحلة الأصول العملية وفيها يشخص الوظيفة المقررة عند الشك ولو عقلا" ..) ص7-8 . ان هذا الكلام للسيد الحسني فيه نقاش طويل وسنحاول قدر الامكان اختصاره كي لا يشعر القاريء الكريم بالملل ، والسبب ان السيد تطرق في بحثه الى فقه العامة والمشتركات التي يمتلكها الفقه الامامي مع فقه العامة وهو موضع دسم بحد ذاته ويفتح الباب على ابواب عديدة للبحث العلمي والنقاش النقدي على مستوى تقييم الفقه والأصول سوية ، وهي فرصة كي يطلع القاريء على حقيقة علم الأصول الشيعي الذي يدرس في حوزاتنا اليوم وما هو منشاه ومن اين تأسس وكيف ظهر واين ترعرع ، وسيكون كلامنا معززا" بمقتبسات لكلام الأصولي الكبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر (ره) الذي نرى السيد الحسني الآن في كلامه الأخير قد وافق كلام استاذه الى حد كبير في مسالة الربط بين فقه العامة وفقه الامامية ابان عصر الغيبة الكبرى ، لقد تحدث السيد الحسني اعلاه عن مراحل استنباط الحكم الشرعي لدى الفقيه الامامي بشكل عام وكانت المرحلة الاولى متشابهة الى حد كبير بل متطابقة مع فقه مدرسة المخالفين كما قال ، لكنه لم يتطرق الى تفاصيل مفصلية اخرى في الكلام عن مشتركاتهم مع فقه العامة ، والسؤال هو كيف نكون متشابهين مع فقه العامة في مرحلة اثبات الحكم الشرعي والتي هي مرحلة اثبات لدليل على الحكم الشرعي ؟..هل المقصود اقامة الادلة على استنباط حكم شرعي لواقعة معينة مثلا" دون تعيين نوع الدليل ؟...هل هو دليل من القرآن او السنة او الأجماع او الرأي ؟...اذ ان المعلوم ان ادلة استنباط الحكم الشرعي لدى المخالفين تختلف نوعا" ما من حيث اعتماداها على الكتاب كمصدر اساسي فان لم تجد تتجه الى سنة الرسول (ص) المنقولة في كتب الصحاح اضافة" الى سيرة الصحابة والخلفاء الأربعة تحديدا" بينما لا تكون ادلة الفقه الشيعي تماما" متطابقة مع نظيرها السني حيث لا يعتمد الفقه الامامي في معرفة دليل الحكم الشرعي في المرحلة الاولى على احاديث الرسول (ص) وحدها بل يتعداها الى روايات واخبار واردة عن اهل بيت النبي العترة الطاهرة (ع) خلفاء النبي المنصوص عليهم والمفترضة طاعتهم ، مع التغاضي عن سيرة الخلفاء او الشيخين وباقي الأصحاب الذين لا يمثلون الوحي الألهي بأي وجه من الوجوه ، وهذا فرق شاسع وكبير بين الطريقين كما لا يخفى ، مع ذلك لو سلمان جدلا" وقلنا ان السيد الحسني يقصد التشابه من باب مشتركية الكتاب كدليل اول والسنة مع اختلافها وفرقها بين المدرستين كدليل ثاني فيكون هذا المقصود من قوله تشابه الفقهين في المرحلة الأولى من عملية الاستنباط ، مع ذلك فأن قوله ان المرحلة الثانية اختص فيها الفقه الامامي وهي مرحلة (الأصول العلمية) فهذا كلام عار عن الصحة واقعا" ومخالف لما قاله استاذه السيد الصدر الاول (ره) الذي يدافع عن مبانيه من الأساس في كتاب الفكر المتين بجزئيه الاول والثاني ، ومخالف لشهادة التأريخ الصرحي والواضح لكل منصف وباحث اسلامي وفقيه مطلع ان علم الأصول وأستخدام الأصول العملية هي بالأساس وليدة الفقه المخالف فقه اهل السنة والجماعة الذين رفضوا ولاية آل محمد (ع) ، لننظر الى شهادة السيد الصدر بخصوص هذا الموضوع وهي شهادة للتأريخ ثبتها عميد المدرسة الأصولية لو صحت العبارة في القرن العشرين ، يقول ( ..فأن التأريخ يشير الى ان علم الأصول ترعرع وأزدهر نسبيا" في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه وازدهاره في نطاق الفقه الأمامي ، وذلك لأن المذهب السني كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبي (ص) ..) دروس في علم الأصول ج1 ص44 ، اذن يتضح لنا ان كلام السيد الحسني مخالف لكلام استاذه الصدر (ره) بخصوص تفرد الفقه الأمامي والمدرسة الامامية في عصر الغيبة بالأصول العلمية ، فالأصول العلمية بالأصل هي موضوع علم الأصول الذي يعتمد عليه استنباط الحكم الشرعي في مدرسة الأجتهاد الشيعية ، وجل ان لم نقل كل العمليات الفقهية التي تقوم يتخريج ادلة الحكم الشرعي لواقعة معينة او موقف عملي في زمان الغيبة يقوم على اساس علم الأصول والتعامل مع الأصول العلمية والعلم بالعناصر المشتركة للواقعة وقد اثبتنا ان علم الأصول هو اساسا" وليد او خريج مدرسة فقه المخالفين الذين نختلف معهم منذ القرن الأول الهجرى والى اليوم في جوانب عديدة عقائديا" او فقهيا" .. بالأضافة الى ذلك نشاهد ان السيد الحسني قد وقع في خطأ جديد في كلامه الأخير حيث ادعى ان الفقيه في مدرسة المخالفين قد تفرد بأستخدام طرق محظورة وضعيفة في المرحلة الثانية من مراحل استنباط الحكم الشرعي حين لا يجد ادلة قطعية حين يلجأ للظنون والأستحسانات وما الى ذلك من مسميات على عكس الفقيه الامامي الذي لا يقوم بذلك بتاتا" بل ستخدم الأصول العملية ..وهذا الكلام مردود ايضا" جملة" وتفصيلا" من وجهين :-
اولا" : ان هذا الكلام مخالف صراحة" لمنهج علم الأصول وطرائق تدريسه التي يعبر عنها اساتذته الجهابذة من امثال الشهيد الصدر الأول (ره) وبالرجوع الى بطون كتب الأصوليين ومنها كتاب دروس في علم الأصول نجد ان الشهيد الصدر صراحة" يتحدث ويقول ان الطرق الظنية والتكهن والأستحسان موجود ضمن ادوات علم الأصول الذي تدرسه الحوزات العلمية اينما كانت في العالم ، انظر ما يقول : ( ..وتختلف الأدلة المحرزة عن الأصول العملية في أن تلك تكون ادلة ومستندا" للفقيه بلحاظ كاشفيتها عن الواقع واحرازها للحكم الشرعي للواقعة . كما ان الأدلة المحرزة تختلف فيما بينها ، لأن بعضها ادلة قطعية تؤدي الى القطع بالحكم الشرعي ، وبعضها ادلة ظنية تؤدي الى كشف ناقص محتمل الخطأ عن الحكم الشرعي ، وهذه الأدلة الظنية هي التي تسمى الامارات ..) المصدر السابق ص165-166 . هذا الكلام للسيد الصدر يبين حقيقة استخدام الفقيه الامامي للأدلة الظنية وللظن بشكل عام في منهج علم الأصول واستخراج الأدلة من خلال الأصول العلمية بينما يدعي السيد الصرخي ان المخالفين او الفقيه السني قد تفرد بأستخدام طرق ضعيفة ومحظورة دون ابناء المدرسة الشيعية الأصولية .
بل ان كلام السيد الصدر لا يقف عند هذا الحد بل يعترف في موضع آخر من الكتاب في استخدام فقهاء الغيبة لأدلة ظنية وفيها يفند مرة اخرى كلام السيد الصرخي حول انتفاء وجود الدليل الظني في جسد الفقه الأصولي الأمامي ، اليكم النص: (
يعتمد الفقيه في عملية الأستنباط على عناصر مشتركة تسمى بالأدلة المحرزة كما تقدم ، وهي اما ادلة قطعية بمعنى انها تؤدي الى القطع بالحكم فتكون حجة على أساس حجية القطع الناتج عنها ، واما ادلة ظنية ، ويقوم دليل قطعي على حجيتها شرعا" ، كما اذا علمنا بان المولى أمر باتباعها فتكون حجة بموجب الجعل الشرعي ...) المصدر السباق ص171 ، وهذا دليل آخر من فم الأصولي الكبير بل استاذ علم الأصول واستاذ السيد الحسني والعديد من الفقهاء المجتهدين المعاصرين يعترف ويصرح بأستخدام الظن في استخلاص واستنباط الحكم الشرعي الذي انتقدنا المخالفين في الأستعانة به في فقههم ، بل انه ثبت لدينا محظوريته من خلال آيات القرآن في اكثر من موضع حيث قال المولى عز وجل :
( وأن تطع اكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله انيتبعون الا الظن وان هم الا يخرصون) الأنعام 166
( سيقول الذين اشركوا لو شاء الله ما اشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ان تتبعون الا الظن وان انتم الا تخرصون ) الأنعام 148 .
( وما يتبع اكثرهم الا ظنا ان الظن لا يغني من الحق شيئا" ان الله عليم بما يفعلون ) يونس 36 .
( وما لهم به من علم ان يتبعون الا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا" ) النجم 28 .
( ان هي الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل بها من سلطان ان يتبعون الا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جآءهم من ربهم الهدى ) النجم 23 .
وهذه الآيات تثبت محظورية الظن في الدين والشريعة فكيف جوز فقهاء الحوزة الأصوليين استخدامه ومرروا فكرهم وخلاصة عقولهم على العوام السذج طوال تلك القرون ؟!
بقلم خادم السيد القحطاني