المفكر الاسلامي العراقي المرحوم السيد عالم سبيط النيلي ينتقد تعريف علم الاصول بتسع اشكالات
في تناقضات التعريف بعلم أصول الفقه
المسألة ( 1) : في لفظ " أصول " من التعريف
وهو أحد ألفاظ عبارة ( علم أصول الفقه ) حيث قالوا : الأصول جمع أصل ، والأصل أسفل الشيء أو ما يرتكز ويُبنى عليه الشيء . وهو عند الأصوليين يُستعمل في معانٍ عدّةٍ منها : الراجح ، والدليل ، والقاعدة ، وما يُثبت وظيفة عملية عند الجهل بالحكم ، أو ما يتفرّع عليه غيره وهكذا . وأرجع صاحب ( مفتاح الوصول ) في الشرح كلّ مجموعة من الأحكام إلى معنى . ثم قال بعد ذلك : (( وهي سواء )) ! ثم قال : (( فإن أبيت الا القول بتعدّدها فالأنسب لعلم الأصول هو " القاعدة " ))(1)
أقول : التناقض ظاهر هنا فقد انتقل من معنىً واحدٍ إلى معانٍ عدّةٍ ذكرها ، وأرجع الأحكام إلى كلّ منها بحسب الصنف الملائم لذلك المعنى مثل (( البراءة إلى ما يُثبت وظيفة … الخ )) ، ثم عاد فقال : تجتمّع على ما يُبنى عليه الشيء فهي سواء ، ثم رجع فقال : فإن أبيت … فالأنسب لعلم الأصول هو القاعدة . فلم يثبت على حالٍ واحدٍ في أول لفظٍ من التعريف .
إن الثبات على التعريف هو أول شروط صحّة العلم إذ التردد فيه هو انعكاس للتردّد في ذات العلم كما سنرى ـ خلافاً لمن أنكر هذا الشرط . وقوله : هو عند الأصوليين يُستعمل في عدّة معانٍ يدلُّ على عدم الاتفاق على معنىً موحّدٍ للمراد من هذا اللفظ مما يدلُّ على عدم تحديد هذا العلم .
المسألة ( 2 ) : في لفظ " الفقه " من التعريف
قال : (( واختصّ الفقه أخيرا بـ ( العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ، ويُطلق أيضاً على مجموعة الأحكام الفرعية وإن لم تكن معلومة ، وتوسّع بعضهم فيه إلى المجعولة أو المعقولة عند عدم العلم بالحكم كالبراءة والاحتياط والاستصحاب))(1).
أقول : قوله : ((واختصّ … الخ )) مناقض لقوله : (( ويُطلق … الخ )) . إذن فهو لم يُخصّص ، وكلاهما مختلف عن قوله : (( وتوسّع … الخ )) ، إذ لا بـد من الثبات والاتفاق على موضوع العلم أولاً وهو ما يلزم ظهوره في التعريف ولكنه لم يقع ـ وخلافاً لما ذكره بعضهم كالمظفّر(2)من أن عدم تحديد موضوع العلم لا يلزم منه الخلل في ذات العلم ، لأن الخلل لازم من عدم التحديد أصلاً لموضوع العلم ، فكلّ علم لم يحدّد موضوعه هو علمٌ مشكوكٌ فيه . بيان ذلك : إن التوسّع في الموضوعات الفرعيّة لا يُخرج عن موضوع العلم ومثاله ما يحدث من تفرّعات لعلوم الطبيعة ، وإنما الإشكال في عدم تحديد الموضوع الأصلي لعلم الفقه ، فهذا يلزم منه الخلل في ذات العلم .
المسألة ( 3 ) : في تقييد العلم بالأحكام
قالوا : هو لاخراج العلم بالذوات والنباتات والجمادات والحيوان .
أقول : إذا أخرج بهذا القيد الذوات والنبات والحيوان فكيف يحصل له العلم بالأشياء التي تتعلّق بها هذه الأحكام ؟ إذ التفريق بين ذوات المخلب من الطير وذوات القانصة ، وبين الخنزير والضبع وبين الأعيان وطبائعها هو جزءٌ من موضوع الأحكام وبخلافه لا يحصل العلم بانطباق الأحكام على موضوعاتها في الخارج . لكنهم سيخالفون التعريف ويأخذون بهذه العلوم خلافاً للقيد في مواضيعٍ كثيرةٍ كما سنرى
المسألة ( 4 ) : في تناقض التعريف بقيد " الشرعية "
قالوا : لإخراج العلم بالأحكام غير الشرعية كالنحو والتاريخ وعلوم الطبيعة (( مما لم يُؤخذ من الشارع ))(1).
أقول : العبارة الأخيرة أضفناها للتحوِّط على قولهم وألاّ فإنها لم تذكر في شرح القيد . ومع ذلك فهذا القيد فيه تناقضٌ ظاهرٌ مع الواقع لأنهم أخذوا من أهل اللغة والبيان ( مباحث الألفاظ ) وإن كانوا كفاراً ، واعتبروا ( قول اللغوي ) حجّة في الظهور الذي هو حجّة أيضاً ، وأخذوا من التاريخ أسباب النزول ، وأخذوا دراسة السند من ( العلم بالذوات ) الذي هو علم الرجال خلافاً لقيد ( الأحكام ) السابق . وألاّ فمن أين جاءهم القول بالمجاز والحقيقة والمشترك اللفظي والمعنوي وأقسام الحديث ؟ فهذه الاشياء لم يذكرها الشارع في الخطاب.
المسألة ( 5) : في التقييد بالفرعية
قالوا : لإخراج أصول الدِّين وأصول الفقه(2).
أقول : هذا مناقض لمفهوم الفقه الذي هو غير الاصطلاح . إذ يحتاج إلى دليل لإثبات أن أصول الدِّين ليست من الفقه في الدِّين ، ضرورة أن مستندهم في الفقه على الاصطلاح هوايّة النفر حيث ذكر تعالى فيها :
وليتفقّهوا في الدِّين .
فيظهر هنا التناقض من هذه الحيثية إذ اعتمّدوا على الآية لإثبات ضرورة التفقّه بالمعنى المذكور في الاصطلاح فيحتاج إلى دليل لإثبات إحدى ثلاثة : إما أن أصول الدِّين ليست من التفقّه في الدِّين وإما تقييد التفقّه في الدِّين في الآية بالمعنى الاصطلاحي وإما إثبات أن الجاهل بأصول الدِّين مع علمه بالأحكام الشرعية فقيه في الدِّين ، والثلاثة ممتنعة .
المسألة ( 6 ) : في التقييد بالعملية
قالوا : لإخراج العلم بالأحكام النظرية .
ونورد عليه نفس الإشكال السابق . وعدا ذلك فإنه يتناقض مع الواقع حيث استعان الفقيه والأصولي بتلك الأحكام عند الحاجة . كما نورد عليه إشكالا لغوياً ، وهو عدم تضمّن ( العملية ) وهي صفة من ( العمل ) للأحكام النظرية في الاعتقادات ـ أي أنّهم بحاجة إلى دليل لإثبات أن الاعتقادات ليست من الأعمال بل العلم بها ليس من العمل وهو مفقود بل الخطاب القرآني والسنّة خلافه كما سنرى .
المسألة ( 7 ) : في التقييد بأدلّتها
قالوا : لإخراج علم الله تعالى وعلم النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) لأن علمهما لم يكن عن الدليل ولا يسمّى الله تعالى فقيهاً وكذلك النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) على هذا الاصطلاح(1).
أقول : أما الحديث عن علم الله تعالى فلا يجوز ولو لأغراض التوضيح ، وأما الحديث عن علم النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) على هذه الصورة ففيه تناقض ، حيث قال : علمه (صلى الله عليه واله وسلم ) لا عن دليل . إذ معناه أنّه (صلى الله عليه واله وسلم ) لا يُدرك الدليل وهو محال أو معناه أنّه (صلى الله عليه واله وسلم) لا يحتاج إلى التفريع من أصول يعلمها من الخطاب أو يستنبطها من الكتاب وهو أيضاً غير معقول ، إذ كثيراً ما أرجع المعصوم (ع) الحكم إلى الأصل حينما سُئل وتلا ما يخصّه من الكتاب .
إذن لا يبقى الا احتمال أن يكون قصدهم من هذا القيد هو إخراجه( ص) من طريقة التفريع وأسلوب الاستنباط ـ وهذا هو المقصود من كلامهم لأنهم قالوا أيضاً : (( المعصوم لا يجتهد )) بهذا المعنى . لأن اختلافه (صلى الله عليه واله وسلم ) عن الفقهاء إما لأن الحكم والدليل عنده واحداً وإما أن طريقته في الاستنباط مختلفة إذا احتاج إلى التفريع وكلاهما يبطل التعريف . أما الأوّل فواضح إذ الأحكام هي أدلّتها وليست شيئاً آخر ـ مثلما سنراه من تعريفهم للحكم ـ فيكون التعريف بلا معنى وأما الثاني فيدلّ على أن تفقّههم () في الدِّين له طريق آخر هو غير تفقّه الأصوليين ! وهو ناتج غريب ومبطلٌ لأصولهم . أما حلّ الإشكال بعدم اعتبار المعصوم (ع ) فقيهاً على الاصطلاح فليس حلاًّ صحيحاً ـ لأنهم يحتاجون إلى برهان على وجود نوعين من الفقه في الدِّين وهو مفقود ، بل الخطاب كلّه خلافه ، لأن المعصوم ( ع) قائد للخلق وهو قدوة لهم وطريقه هو الحقّ وبه تقع الحجّة عليهم فلا يمكن أن تكون للخلق طريقة سوى طريقته وهو افقه الفقهاء .
التعريف إذن متناقض لأن النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) سيّد الفقهاء وتقييد الفقه بالاصطلاح لا ينتج منه الا أنّه ( أيّ الفقه ) خارج طريقته في الفقاهة . وإذن فطريقتهم تحتاج إلى دليل وسوف نرى أن الدليل مفقود بل امتناعه ظاهر من هذا التقديم ، بل هو اعترافٌ ضمنيٌّ لهم ببطلان طريقتهم .
المسألة ( 8 ) : في التقييد بالتفصيلية
قالوا : لإخراج علم غير المجتهد أو الفقيه ، لأن علمه إجمالي لا تفصيلي وهو علمه بأن هذا الحكم قد قال به الفقيه .
أقول : فيه ظهور لبراءة ذمّة المكلّف بالعلم الإجمالي بل فيه إشارة إلى إمكانية التوقّف عند هذا العلم بلا إشكال . وهذا يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، فالقيد مرتبط بجواز التقليد ثم الاجتهاد بالمعنى الاصطلاحي في الأصول . وغاية ما أمكنهم قوله بجواز التقليد وبراءة الذمّة بالعلم الإجمالي هو : (( إن للناس مصالح كثيرة وأعمال شتى لتأمين معيشتهم ولا يمكن أن ينصرفوا جميعاً للتفقّه في الأحكام إذ تتوقّف عندئذٍ معايشهم فلا بد من بقائهم على أعمالهم وتخصّص من لديه القدرة والكفاءة للتفقّه في الدِّين وعندئذٍ يتوجّب على الآخرين تقليده ـ لما ينالهم من الحرج من قيامهم جميعاً بهذه المهمّة بل هو مستحيلٌ بنفسه على ما حكاه بعض الأصوليين)) (1) . وهذا القول مردود من وجوه :
الأوّل : إن توقّف معايشهم إن انصرفوا جميعاً إلى التفقّه في الدِّين هو رجمٌ بالغيب ، بل ومخالف لصريح القرآن إذ الأحرى أن يأتيهم رزقهم رغداً من كلّ مكان ، لأن هذا هو واجبهم الأوّل والأخير وهو الغاية من خلقهم . قال تعالى :
ما خلقتُ الجنّ والأنس الا ليعبدون
الذاريات / 56
فإذا قيل : العبادة هنا على إطلاقها وتشمل تحصيل المعايش.
أقول : النصّ على خلافه بل والواقع أيضاً إذ لو صحّ هذا القول لكان كلّ الخلق من العابدين لشدّة ولعهم بتحصيل المعايش ولهاثهم وراء المآكلّ والمشارب والأموال ، وأما النص فلقوله تعالى معقّباً:
ما أُريد منهم مِن رزقٍ وما أُريد أن يُطعمون
الذاريات /57.
تعليق