الحركة الإخبارية وحقيقة الصراع الاصولي
جودت القزويني
بدأت العلاقة بين مؤسسة الفقهاء، والسلطة الصفوية في عهد الشاه عباس الصفوي تنحو منحىً معقداً نظراً للنفوذ الذي يتمتع به الفقهاء، فقد اصبحت العلاقة بين المؤسستين علاقة متداخلة بحيث شكلت جانباً خفياً من الصراع كان امتداداً لصراع المؤسستين (مؤسسة الاجتهاد ومؤسسة الدولة) في العهد المبكر من قيام الدولة الصفوية. وبالرغم من ان هذا الصراع كان صراعاً عنيفاً وخفياً إلا ان مؤسسة الفقهاء استطاعت ان تثبت أقدامها، وتستحوذ على مؤسسات مهمة في الدولة كان لها دعمها الكبير في قطاع المجتمع الايراني.
وقد صاحب المزاج بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية في العهد الصفوي انتقال التشيع الاثني عشري الى مرحلة تحول حاسمة تُشير الى طبيعة موقف الاثني عشرية من الزعيم الديني، فلم يُعد ـ كما كان بالنسبة لهم منذ الغيبة الكبرى ـ الحاكم الروحي فقط، وإنما اصبح الحاكم الزمني كذلك. من هنا بدأت صلة رجال الدين بالدولة تنحو الى ضرب من التعقيد لم تزده الأيام إلا حدة(1).
وبالرغم من خطوات الشاه عباس في ابقاء الصلة بفقهاء كبار كالبهائي(2) إلاّ ان الصلة بين الزعامتين السياسية والروحية أخذت تضعف بمرور الزمن، وقد شكل ظاهرة سياسية دينية في أُخريات أيامه(3).
ان الأوضاع السياسية في ايران أخذت تستقر عند مجيء الشاه عباس الى السلطة (بعد الصراعات التي حدثت داخل الاسرة الصفوية للاستحواذ على الحكم) ـ خصوصاً بعدما عقد صُلحاً مع الدولة العثمانية عام(996 ـ 1590) الأمر الذي ساعد على ظهور نهضة علمية باهرة ازدهرت على يد فلاسفة، ومتكلمين ايرانيين كان لهم الدور الكبير في إحياء المنحى العقلي عند الاثنا عشرية، وكان على رأس هؤلاء الأمير باقر الداماد(1040/1630)، وصدر الدين الشيرازي(1050/1640).
وبدأ ثقل المدرسة الاثنا عشرية خلال هذا العهد في ايران يظهر بشكل ملحوظ بعدما أخذ دور مدرسة النجف ـ الذي ازدهر في الوقت نفسه على يد أحمد الأردبيلي ـ بالضمور.
ومن خلال الأجواء التي ولدتها الحالة الجديدة للدولة الصفوية ظهرت تيارات مختلفة (عقلية، فلسفية، سلفية، صفوية) اتحدت جميعها ضد ما تبقى من مؤسسة الفقهاء الذين لم تزل تأثيراتهم قائمة في السلطة، فقد التقى الموقف السلبي عند العقليين من الفلاسفة مع الموقف السلبي عند السلفيين، وقد أظهر صدر الدين الشيرازي ردود الفعل الفلسفي تجاه الفقهاء الذين أغرقوا أنفسهم في سياسة الدولة الصفوية، وقد نسبهم الى نقصان المعرفة، كما أوضح ان اهدافهم هي أهداف سياسية لا تتعدى أخضاع الناس لفتاواهم، وأوامرهم التسلطية(4).
ومهما يكن من أمر فان التيار العقلي لم يؤثر على السياسيين من الفقهاء بمقدار تأثير التيار السلفي الذي تزعمه فقهاء من المدرسة الاثنا عشرية نفسها.
فقد تحولت ردود الفعل تجاه تدخل الفقيه بشؤون الدولة الى تيار قويّ أثرّ على تطور مدرسة الاجتهاد ما يقارب القرنين من الزمن، واستطاع هذا التيار ان ينتشر خارج ايران، ويستحوذ على مساحة ليست بالقليلة من الساحة الشيعية.
وقد استفادت الحركة السلفية التي سُميّت فيما بعد «بالحركة الإخبارية» من الأوضاع المتناقضة في سياسة الدولة الصفوية في تعزيز مواقعها، ومحاولة حسر تيار الفقهاء الذين تمركزوا في ثقل الدولة.
ان ظهور الحرة الإخبارية وتمركزها بشكل عنيف في قلب الاحداث كان عاملاً من عوامل تقوية
__________________________________
(1) الشابي، علي، الشيعة في ايران، ص157.
(2) مرّوة، التشيع بين جبل عامل وايران، ص29.
(3) الدُجيلي، حسن، الفقهاء حُكّام على الملوك، ص47.
(4) الشيرازي، الملا صدرا، الأسفار الاربعة، ج1 (طهران، 1964)، ص 706. والجابري، ص 279.
السياسة الصفوية المتمثلة بالشاه عباس الكبير، واضعاف خصومه التقليديين من الفقهاء، لذا بدأت عوامل دعم لأقطاب هذا الاتجاه حتى ظهر الداعية الاخباري محمد أمين الاسترابادي(1033 ـ 1623) محاولاً القضاء على خط الفقهاء قضاءً تاماً، ومُبرماً.
إن حياة الاسترابادي، وان كانت غامضة إلا ان نشأته في (ايران)، وهجرته الى (العراق)، ثم استقراره في (الحجاز) تدلُّ على ان الرجل كان مدعماً بخطة هادفة من شأنها ان توقف تيار الاجتهاد (الاصولي)، وتستأصل المؤسسة الاجتهادية من الأساس.
وإن امراً مثل هذا لهو في النتيجة يخدم توجهات الصفويين أولاً، والذين باتوا في ضيق من هذه المؤسسة، والعثمانيين ثانياً الذين لم يرغبوا باستقلال المؤسسة الدينية عن قبضة السياسة الرسمية للدولة، من هنا فان حصول الانقسام داخل الكيان الاثني عشري نفسه بايجاد مؤسسة فقهية إخبارية ستكون بمثابة البديل عن المؤسسة الفقهية الاجتهادية، او المنافس لها على الأقل ـ هو في واقعه يخدم الطرفين معاً.
لذلك فقد اتخذت الحركة الاخبارية في صراعها مع المؤسسة الاجتهاد السمة العلمية، وأعدت برنامجاً تصحيحاً يتطلع للعودة الى الينابيع الأولى للفقه الاثني عشري.
وقد اتخذ الاخباريون مستنداً تأريخياً لهم بالتمسك بأخبار «المعصومين» مقابل ما انتجه المجتهدون من طريق لاستنباط الاحكام الشرعية من موارده الشرعية باستخدامهم لأدلة الاحكام التي ترجع الى (الكتاب، السنة، الاجماع، العقل).
***
بدأت جذور الحركة الاخبارية بالأتساع بعدعصر الشاه طهماسب، وبالتحديد منذ سنة(985/1577) حتى سنة(996هـ/1587)، وظهرت كتيار رافض لاعمال فقهاء السلطة الصفوية، كما ان الصراع الصفوي ـ العثماني كان سبباً في تشجيع هذا التيار، خصوصاً وان العثمانيين كانوا قد استولوا على الحجاز(1) التي أصبحت مركزاً مناوئاً للصفويين.
قادت الدولة العثمانية ضد الصفويين في هذا الوقت بالذات (بعد وفاة الشاه طهماسب) حملة دعائية كان العنصر الفعال فيها ابناء فارس(2)، وقد استغل العثمانيون الاتجاهات المعادية للصفويين، وحاولوا مُساندتها، فقد كانت منطقة (الحجاز) مركزاً للمعارضين السنيين والشيعيين على السواء، وكان الميرزا مخدوم الجرجاني (من التيار السُّني)(995/1589) قد جاء من ايران الى مكة لغرض نشر وثيقة الفضح السياسي والديني المسماة «بالنواقض لبنيان الروافض» والتي لم تقتصر على ذكر نواقض الحكم
__________________________________
(1) بعد ان غزت الدولة العثمانية (مصر) عام (923/1517) ضمّت (الحجاز) الى ممتلكاتها، كما ان (الاحساء) ايضاً اصبحت جزءاً من الدولة العثمانية حينما احتلت عام (963/1555) في عهد السلطان سليمان القانوني. ينظر: الشيخ، د. رأفت غنيمي، التوجه العثماني نحو الخليج العربي من خلال محمد علي، مجلة الوثيقة، العدد (16)، (الاردن، 1990م)، ص62. وكذلك: تاريخ العالم العربي، ص181.
(2) الجابري، حسين، الفكر السلفي عند الشيعة الاثنا عشرية، ص268.
الصفوي، بل تعدته الى الطعن بالفكر الاثني عشري أيضاً(1).
وقد اعتقد الفقهاء الرافضون للسياسة الصفوية ان المثالب التي وجهها الميرزا مخدوم الى الفكر الاثني عشري كانت بسبب تطرف المجتهدين الذين خدموا الدولة الصفوية، مع علمهم، او غفلتهم عن نهي الأئمة من الدخول في خدمة الحكّام(2).
تعليق