مقطع من خطبة الكافي يبين المسلك الحق الذي يجب أن لا يعدوا الثقلين
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم ؛ والحمد لله رب العالمين ؛ وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ؛ وبعد :
فهذا مقطع من خطبة الكافي لثقة الإسلام الكليني ؛ ومن تدبرها ؛ وضح له مسلك الحق الذي يجب أن لا يعدوا الثقلين .
قال شيخنا ـ أعلى الله مقامه ـ : (( وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إلها " واحدا " أحدا " صمدا " لم يتخذ صاحبة ولا ولدا " وأشهد أن محمدا " صلى الله عليه وآله عبد انتجبه ، ورسول ابتعثه ، على حين فترة من الرسل وطول هجعة من الأمم وانبساط من الجهل ، واعتراض من الفتنة وانتقاض من المبرم وعمى عن الحق ، واعتساف من الجور وامتحاق من الدين . وأنزل إليه الكتاب ، فيه البيان والتبيان ، قرآنا " عربيا " غير ذي عوج لعلهم يتقون ، قد بينه للناس ونهجه ، بعلم قد فصله ، ودين قد أوضحه ، وفرائض قد أوجبها ، وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها ، فيها دلالة إلى النجاة ، ومعالم تدعو إلى هداه . فبلغ صلى الله عليه وآله ما ارسل به ، وصدع بما أمر ، وأدى ما حمل من أثقال النبوة ، وصبر لربه ، وجاهد في سبيله ، ونصح لامته ، ودعاهم إلى النجاة ، وحثهم على
الذكر ودلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها ومنائر رفع لهم أعلامها ، لكيلا يضلوا من بعده ، وكان بهم رؤوفا " رحيما " . فلما انقضت مدته واستكملت أيامه ، توفاه الله وقبضه إليه ، وهو عند الله مرضي عمله ، وافر حظه ، عظيم خطره ، فمضى صلى الله عليه وآله وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمنين ، وإمام المتقين صلوات الله عليه ، صاحبين مؤتلفين ، يشهد كل واحد منهما لصاحبه بالتصديق ، ينطق الامام عن الله في الكتاب ، بما أوجب الله فيه على العباد ، من طاعته ، وطاعة الإمام وولايته ، وواجب حقه ، الذي أراد من استكمال دينه ، وإظهار أمره ، والاحتجاج بحججه ، والاستضاءة بنوره ، في معادن أهل صفوته ومصطفى أهل خيرته فأوضح الله بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله عن دينه وأبلج بهم عن سبيل مناهجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه ، وجعلهم مسالك لمعرفته ، ومعالم لدينه ، وحجابا " بينه وبين خلقه ، والباب المؤدي إلى معرفة حقه وأطلعهم على المكنون من غيب سره . كلما مضى منهم إمام ، نصب لخلقه من عقبه إماما " بينا " ، وهاديا " نيرا " وإماما " قيما ") ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، حجج الله ودعاته ، ورعاته على خلقه ، يدين بهديهم العباد ، ويستهل بنورهم البلاد ، جعلهم الله حياة للأنام ، ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام ، ودعائم للاسلام ، وجعل نظام طاعته وتمام فرضه التسليم لهم فيما علم ، والرد إليهم فيما جهل ، وحظر على غيرهم التهجم على القول بما يجهلون ومنعهم جحد ما لا يعلمون ، لما أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه ، من ملمات الظلم ومغشيات البهم . وصلى الله على محمد وأهل بيته الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس [ أهل البيت ] وطهرهم تطهيرا " . أما بعد ، فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ، ومباينتهم العلم وأهله ، حتى كاد العلم معهم أن يأزر كله وينقطع مواده ، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل ، ويضيعوا العلم وأهله .
وسألت : هل يسع الناس المقام على الجهالة والتدين بغير علم ، إذا كانوا داخلين في الدين ، مقر ين بجميع أموره على جهة الاستحسان ، والنشوء عليه والتقليد للآباء ، والأسلاف والكبراء ، والاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها ، فاعلم يا أخي رحمك الله أن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم ، محتملة للأمر والنهي ، وجعلهم جل ذكره صنفين : صنفا " منهم أهل الصحة والسلامة ، وصنفا " منهم أهل الضرر والزمانة ، فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي ، بعد ما أكمل لهم آلة التكليف ، ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر ، إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم وجعل عز وجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة ، وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم ، فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم ، وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب ، وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير ، والرجوع إلى قول أهل الدهر ، فوجب في عدل الله عز وجل وحكمته أن يخص من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي ، بالأمر والنهي ، لئلا يكونوا سدى مهملين ، وليعظموه ويوحدوه ، ويقر واله بالربوبية ، وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم ، إذ شواهد ربوبيته دالة ظاهرة ، وحججه نيرة واضحة ، وأعلامه لائحة تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل ، وتشهد على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهية ، لما فيها من آثار صنعه ، وعجائب تدبيره ، فندبهم إلى معرفته لئلا يبيح لهم أن يجهلوه ويجهلوا دينه
وأحكامه ، لأن الحكيم لا يبيح الجهل به ، والإنكار لدينه ، فقال جل ثناؤه : " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق " وقال : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " ، فكانوا محصورين بالأمر والنهي ، مأمورين بقول الحق ، غير مرخص لهم في المقام على الجهل ، أمرهم بالسؤال ، والتفقه في الدين فقال : " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " وقال : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ". فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة ، المقام على الجهل ، لما أمرهم بالسؤال ، ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب ، وكادوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم ، ومنزلة أهل الضرر والزمانة ، ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين ، فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالأدب والتعليم ، وجب أنه لا بد لكل صحيح الخلقة ، كامل الآلة من مؤدب ، ودليل ، ومشير ، وآمر ، وناه ، وأدب ، وتعليم ، وسؤال ، ومسألة . فأحق ما اقتبسه العاقل ، والتمسه المتدبر الفطن ، وسعى له الموفق المصيب ، العلم بالدين ، ومعرفة ما استعبد الله به خلقه من توحيده ، وشرائعه وأحكامه ، وأمره ونهيه وزواجره وآدابه ، إذ كانت الحجة ثابتة ، والتكليف لازما " ، والعمر يسيرا " ، والتسويف غير مقبول ، والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة ، ليكون المؤدي لها محمودا " عند ربه ، مستوجبا " لثوابه ، وعظيم جزائه ، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة ، لا يدري ما يؤدي ، ولا يدري إلى من يؤدي ، وإذا كان جاهلا " لم يكن على ثقة مما أدى ، ولا مصدقا " ، لأن المصدق لا يكون مصدقا " حتى يكون عارفا " بما صدق به من غير شك ولا شبهة ، لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن ، وقد قال الله عز وجل : " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة ، ولولا العلم بالشهادة ، لم تكن الشهادة مقبولة ، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة ، إلى الله جل ذكره ، إن شاء تطول عليه فقبل عمله ، وإن شاء رد عليه ، لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين ، كيلا يكونوا ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى : " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين " لأنه كان داخلا " فيه بغير علم ولا يقين ، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين ، وقد قال العالم عليه السلام : " من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ، ونفعه إيمانه ، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه " ، وقال عليه السلام : " من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال " ، وقال عليه السلام : " من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن " .
ولهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة ، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها ، وذلك بتوفيق الله تعالى وخذلانه ، فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا " مستقرا " ، سبب له الأسباب التي توديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة ، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي ، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا " مستودعا " - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة ، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه ، وإن شاء سلبه إياه ، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا " ويمسي كافرا " ، أو يمسي مؤمنا " ويصبح كافرا " ، لأنه كلما رأى كبيرا " من الكبراء مال معه ، وكلما رأى شيئا " استحسن ظاهره قبله ، وقد قال العالم عليه السلام : " إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة ، فلا يكونون إلا أنبياء ، وخلق الأوصياء على الوصية ، فلا يكونون إلا أوصياء ، وأعار قوما " إيمانا " فإن شاء تممه لهم ، وإن شاء سلبهم إياه . قال : وفيهم جرى قوله : فمستقر ومستودع " )) .