(( الحلقة الاولى))
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمْ
وبه ثقتي
الحمد للَّه الذي نجانا بسفينة أهل بيته من أمواج الفتن, و هدانا بأنوار القرآن و الحديث لمعرفة الفرائض و السنن, وقشع عن بصائرنا سحائب الارتياب, و كشف عن قلوبنا أغشية الريب والحجاب, وأزهق الباطل عن ضمائرنا, واثبت الحق في سرائرنا, إذ كانت الشكوك و الظنون لواحق الفتن, و مكدرة الأفضال و المننّ, فسبحانك اللهم ما أضيق الطريق علي من لم تكن دليله, و ما أوضح الحق عند من هديته سبيله, صل علي محمد و آل محمد, و اجعلنا لأنعمك من الشاكرين, و لآلائك من الذاكرين.
أما بعد فهذه رسالة من محمد ابن المرتضى المدعو بمحسن إلي إخوانه في اللَّه, الذين هم منأهل الإنصاف دون الاعتساف, و الذين يعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال, الذينلا تأخذهم في تعرف الحق حمية تقليد الجمهور, و لا يستحوذ عليهم في تصديق الصدقعصبية متابعة المشهور, و الذين لم تغش أبصار بصائرهم غشاوة ما سمعنا بهذا في آبائنا على أمة و إنا علي آثارهم مقتدون, نمقناها في تحقيق أن مأخذ الأحكام الشرعية ليست إلا محكمات الكتاب و السنة و أحاديث أهل العصمة, و انه لا يجوز الاعتصام فيها إلا بحبل المعصومين, و أن الاجتهاد فيها والأخذ باتفاق الآراء ابتداع في الدين و اختراع من المخالفين, و أن لا نجاة لأحد من غمرات تلك اللجج إلا بركوب سفينة الحجج ع, و سميناها سفينة النجاة إذ بها ينجوه من اشرف علي الغرق في أمواج الاختلافات, و بها يخلص من كاد تذروه عواصف الآراء و الأهواء إلي مهاوي الآفات, و لها فصول اثنا عشر منها إشارات و منها تنبيهات هي لها بمنزلة طبقات و من لم يصل إلي درجة العلم بها فليؤمن و يرفع اللَّه الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات.
الفصل الأول
إشارة إلي انحصار الأدلة الشرعية عند الإمامية في القرآن و الحديث وبطلان الاستناد إلي اتفاق الآراء
لمّا افتتن الناس بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم و تفرقوا في لجج الفتن و هلكوا في طوفان المحن, إلا شرذمة ممن عصمه اللَّه, وبسفينة أهل البيت عليهم السلام نجّاه, و بالتمسك بالثقلين أبقاه, استكتم الناجون دينهم و صانوا و تينهم, فاستبقى اللَّه عز وجل بهم رمق الدين في هذه الأمة, وأبقى بإبقاء نوعهم سنة خاتم النبيين صلي الله عليه وآله وسلم إلي يوم القيامة, فبعث إماما بعد إمام و خلف شيعة لهم بعد سلف لكان و لا تزال طائفة من الشيعة رضي اللَّه عنهم يحملون الأحاديث في الأصول والفروع عن أئمتهم عليم السلام بأمرهم و ترغيبهم ويروونها لآخرين ويروى الآخرون لآخرين و هكذا إلي أن وصلت إلينا و الحمد للَّه رب العالمين؛
وكانوا يثبتونها في الصدور ويسطرونها في الدفاتر و يعونها كما يسمعونها و يحفظونها كما يتحملونها و يبالغون في نقدها وتصحيحها ورد زّيفها و قبول صحيحها و تخريج صوابها و سليمها من أخطائها وسقيمها, حتى يرى احدهم لا يستحل نقل ما لا وثوق به ولا إثبات ذلك في كتبه إلا مقرونا بالتضعيف و مشفوعا بالتزييف, طاعنا فيمن يروى كلما يروى ويسطر كلما يحكى, و يظهر هذا لمن تنبع كتبالرجال و يتعرف منها الأحوال, و كانوا لا يعتمدون علي الخبر الذي كان ناقله منحصرا في مطعون أو مجهول و لا قرينة معه تدل علي صحة المدلول و يسمونه خبر الواحد الذي لا يوجب علما و لا عملا و كانوا لا يعتقدون في شييء من تفاصيل الأصول الدّينية و لا يعملون في شييء من الأحكام الّشرعية إلا بالنصوص المسموعة عن أئمتهم عليهم أفضل الصلوات ولو بواسطة ثقة أو وسائط ثقات, و كانوا مأمورين بذلك من قبل أولئك السادات, ولا يستندون في شيء منها إلي تخريج الرأي بتأويل المتشابهات, و تحصيل الظن باستعانة الأصول المخترعات, الذي يسمى بالاجتهاد, ولا إلي اتفاق آراء الناس الذي يسمى بالإجماع, كما يفعل ذلك كله الجمهور من العامة, و كانوا ممنوعين عن ذلك كله من جهتهم عليم السلام و من جهة صاحب الشرع بالآيات الصريحة و الأخبار الصحيحة, و كان المنع من ذلك كله معروفا من مذهبهم مشهوراً منهم حتى بين مخالفيهم كما صرح به طائفة منالفريقين , قال ابن أبى الحديد في شرحه لنهج البلاغة عند رده علي من زعم أن عمر كان أحسن سياسة واصح تدبيراً من أمير المؤمنين ع ما محصله أن عمر كان مجتهداً يعمل بالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة ويرى تخصيص عمومات النصوص و يكيد خصمه و يأمر أمراءه بالكيد و الحيلة و يؤدب بالدرة و السوط من يغلب علي ظنه انه يستوجب ذلك و يصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستوجبون به التأديب كل ذلك بقوة اجتهاده و ما يؤديه إليه نظره و لم يكن أمير المؤمنين ع يرى ذلك و كان يقف مع النصوص والظواهر و لا يتعداه إلي الاجتهاد و الأقيسة و كان مقيداً بقيود الشريعة ملتزما لإتباعها ويطبق أمور الدنيا علي أمور الدين و يسوق الكل مساقا واحدا و لا يضع و لا يرفع إلا بالكتاب و النص و اختلف طريقتاهما في الخلافة و السياسة إلي آخر ما قاله أخذنا منه موضع الحاجة.
الفصل الثاني
إشارة إلي سبب حدوث الاجتهاد و الإجماع عند الإمامية و شبهاتهم فيه
ثم لما انقضت مدة الأئمة المعصومين صلوات اللَّه عليهم, و انقطعت السفراء بينهم و بين شيعتهم, وطالت الغيبة و أشددت الفرقة, و امتدّت دولة الباطل, و خالطت الشيعة مخالفيهم والفت في صغر سنهم بكتبهم, إذ كانت هي المتعارف تعليمها في المدارس و المساجد و غيرها, لان الملوك و أرباب الدول كانوا منهم و الناس إنما يكونون مع الملوك و أرباب الدول, فعاشرتهم في مدارسة العلوم الدينية و طالعوا كتبهم التي سقوها في أصول الفقه التي دونوها لتسهيل اجتهاداتهم التي عليها مدار أحكامهم, فاستحسنوا بعضا و استهجنوا بعضا, أداهم ذلك إلي أن صنفوا في ذلك العلم كتبا إبراماً و نقضا, و تكلموا فيما تكلم العامّة فيه من الأشياء التي لم يأت بها الرسول صلي اللَّه عليه و آله و الأئمة المعصومون صلوات اللَّه عليهم, و كثروا بها المسائل و لبسوا علي الناس طرق الدلائل, و كان العامة أحدثوا في القضايا و الأحكام أشياء كثيرة بآرائهم و عقولهم في جنب اللَّه, و اشتبهت أحكامهم بأحكام اللَّه, و لم يقنعوا بإبهام ما أبهم و السكوت عما سكت اللَّه, بل جعلوا للَّه شركاء حكموا كحكمه فتشابه الحكم عليهم بل للَّه الحكم جميعا و إليه يرجعون و سيجزيهم اللَّه بما كانوا يعلمون, ثم لما كثرت تصانيف أصحابنا في ذلك و تكملوا في أصول الفقه و فروعه باصطلاحات العامة, اشتبهت أصول الطائفتين و اصطلاحاتهم بعضها ببعض, وانجر ذلك إلي أن ألتبس الأمر علي طائفة منهم حتى زعموا جواز الاجتهاد و الحكم بالرأي و وضع القواعد و الضوابط لذلك, و تأويل المتشابهات بالتظنى و الترؤى و الأخذ باتفاق الآراء و تأيد ذلك عندهم بأمور:
أحدها:
ما رأوه من الاختلاف في ظواهر الآيات و الأخبار التي لا تتطابق إلا بتأويل بعضها بما يرجع إلي بعض و ذلك نوع من الاجتهاد المحتاج فيه إلي وضع الأصول و الضوابط.
و الثاني:
ما رأوه من كثرة الوقايع التي لا نص فيها علي الخصوص مع مسيس الحاجة إلي معرفة أحكامها.
و الثالث:
ما رأوه من اشتباه بعض الأحكام و ما فيه من الإبهام الذي لا ينكشف و لا يتعين إلا بتحصيل الظن فيه بالترجيح, و هو عين الاجتهاد, فأولوا الآيات و الأخبار الواردة في المنع منالاجتهاد و العمل بالرأي بتخصيصها بالقياس و الاستحسان و نحوهما من الأصول التي تختص بها العامة, و الواردة في ذم الأخذ باتفاق الآراء بتخصيصها بالآراء الخالية عن قول المعصوم لما ثبت عندهم أن الزمان لا يخلو من إمام معصوم, فصار ذلك كله سببا لكثرة الاختلاف بينهم في المسائل, و تزايده ليلا و نهارا, و توسعة دائرته مدارا و إعصارا, حتى انتهى إلي أن تريهم يختلفون في مسألة واحدة علي عشرين قولا أو ثلاثين أو أزيد, بل لو شئت أن أقول لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها لقلت, و ذلك لأن الآراء لا تكاد تتوافق, و الظنون قلما تتطابق, و الأفهام تتشاكس, و وجوه الاجتهاد تتعاكس, و الاجتهاد يقبل التشكيك, و يتطرق عليه الركيك, و يتشبه بالقوم من ليس منهم, و يدخل نفسه في جملتهم من هو بمعزل عنهم, فظلت المقلدة في غمار آرائهم يعمهون و أصحبوا في لجج أقاويلهم يغرقون.
(( منقول من كتاب سفينة النجاة
تأليف
المحقق العظيم و المحدث الكبير و الحكيم المتأله
محمد بن المرتضى المدعو
بالمولي محسن الكاشاني
المتوفى 1091 ه ))
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمْ
وبه ثقتي
الحمد للَّه الذي نجانا بسفينة أهل بيته من أمواج الفتن, و هدانا بأنوار القرآن و الحديث لمعرفة الفرائض و السنن, وقشع عن بصائرنا سحائب الارتياب, و كشف عن قلوبنا أغشية الريب والحجاب, وأزهق الباطل عن ضمائرنا, واثبت الحق في سرائرنا, إذ كانت الشكوك و الظنون لواحق الفتن, و مكدرة الأفضال و المننّ, فسبحانك اللهم ما أضيق الطريق علي من لم تكن دليله, و ما أوضح الحق عند من هديته سبيله, صل علي محمد و آل محمد, و اجعلنا لأنعمك من الشاكرين, و لآلائك من الذاكرين.
أما بعد فهذه رسالة من محمد ابن المرتضى المدعو بمحسن إلي إخوانه في اللَّه, الذين هم منأهل الإنصاف دون الاعتساف, و الذين يعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال, الذينلا تأخذهم في تعرف الحق حمية تقليد الجمهور, و لا يستحوذ عليهم في تصديق الصدقعصبية متابعة المشهور, و الذين لم تغش أبصار بصائرهم غشاوة ما سمعنا بهذا في آبائنا على أمة و إنا علي آثارهم مقتدون, نمقناها في تحقيق أن مأخذ الأحكام الشرعية ليست إلا محكمات الكتاب و السنة و أحاديث أهل العصمة, و انه لا يجوز الاعتصام فيها إلا بحبل المعصومين, و أن الاجتهاد فيها والأخذ باتفاق الآراء ابتداع في الدين و اختراع من المخالفين, و أن لا نجاة لأحد من غمرات تلك اللجج إلا بركوب سفينة الحجج ع, و سميناها سفينة النجاة إذ بها ينجوه من اشرف علي الغرق في أمواج الاختلافات, و بها يخلص من كاد تذروه عواصف الآراء و الأهواء إلي مهاوي الآفات, و لها فصول اثنا عشر منها إشارات و منها تنبيهات هي لها بمنزلة طبقات و من لم يصل إلي درجة العلم بها فليؤمن و يرفع اللَّه الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات.
الفصل الأول
إشارة إلي انحصار الأدلة الشرعية عند الإمامية في القرآن و الحديث وبطلان الاستناد إلي اتفاق الآراء
لمّا افتتن الناس بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم و تفرقوا في لجج الفتن و هلكوا في طوفان المحن, إلا شرذمة ممن عصمه اللَّه, وبسفينة أهل البيت عليهم السلام نجّاه, و بالتمسك بالثقلين أبقاه, استكتم الناجون دينهم و صانوا و تينهم, فاستبقى اللَّه عز وجل بهم رمق الدين في هذه الأمة, وأبقى بإبقاء نوعهم سنة خاتم النبيين صلي الله عليه وآله وسلم إلي يوم القيامة, فبعث إماما بعد إمام و خلف شيعة لهم بعد سلف لكان و لا تزال طائفة من الشيعة رضي اللَّه عنهم يحملون الأحاديث في الأصول والفروع عن أئمتهم عليم السلام بأمرهم و ترغيبهم ويروونها لآخرين ويروى الآخرون لآخرين و هكذا إلي أن وصلت إلينا و الحمد للَّه رب العالمين؛
وكانوا يثبتونها في الصدور ويسطرونها في الدفاتر و يعونها كما يسمعونها و يحفظونها كما يتحملونها و يبالغون في نقدها وتصحيحها ورد زّيفها و قبول صحيحها و تخريج صوابها و سليمها من أخطائها وسقيمها, حتى يرى احدهم لا يستحل نقل ما لا وثوق به ولا إثبات ذلك في كتبه إلا مقرونا بالتضعيف و مشفوعا بالتزييف, طاعنا فيمن يروى كلما يروى ويسطر كلما يحكى, و يظهر هذا لمن تنبع كتبالرجال و يتعرف منها الأحوال, و كانوا لا يعتمدون علي الخبر الذي كان ناقله منحصرا في مطعون أو مجهول و لا قرينة معه تدل علي صحة المدلول و يسمونه خبر الواحد الذي لا يوجب علما و لا عملا و كانوا لا يعتقدون في شييء من تفاصيل الأصول الدّينية و لا يعملون في شييء من الأحكام الّشرعية إلا بالنصوص المسموعة عن أئمتهم عليهم أفضل الصلوات ولو بواسطة ثقة أو وسائط ثقات, و كانوا مأمورين بذلك من قبل أولئك السادات, ولا يستندون في شيء منها إلي تخريج الرأي بتأويل المتشابهات, و تحصيل الظن باستعانة الأصول المخترعات, الذي يسمى بالاجتهاد, ولا إلي اتفاق آراء الناس الذي يسمى بالإجماع, كما يفعل ذلك كله الجمهور من العامة, و كانوا ممنوعين عن ذلك كله من جهتهم عليم السلام و من جهة صاحب الشرع بالآيات الصريحة و الأخبار الصحيحة, و كان المنع من ذلك كله معروفا من مذهبهم مشهوراً منهم حتى بين مخالفيهم كما صرح به طائفة منالفريقين , قال ابن أبى الحديد في شرحه لنهج البلاغة عند رده علي من زعم أن عمر كان أحسن سياسة واصح تدبيراً من أمير المؤمنين ع ما محصله أن عمر كان مجتهداً يعمل بالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة ويرى تخصيص عمومات النصوص و يكيد خصمه و يأمر أمراءه بالكيد و الحيلة و يؤدب بالدرة و السوط من يغلب علي ظنه انه يستوجب ذلك و يصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستوجبون به التأديب كل ذلك بقوة اجتهاده و ما يؤديه إليه نظره و لم يكن أمير المؤمنين ع يرى ذلك و كان يقف مع النصوص والظواهر و لا يتعداه إلي الاجتهاد و الأقيسة و كان مقيداً بقيود الشريعة ملتزما لإتباعها ويطبق أمور الدنيا علي أمور الدين و يسوق الكل مساقا واحدا و لا يضع و لا يرفع إلا بالكتاب و النص و اختلف طريقتاهما في الخلافة و السياسة إلي آخر ما قاله أخذنا منه موضع الحاجة.
الفصل الثاني
إشارة إلي سبب حدوث الاجتهاد و الإجماع عند الإمامية و شبهاتهم فيه
ثم لما انقضت مدة الأئمة المعصومين صلوات اللَّه عليهم, و انقطعت السفراء بينهم و بين شيعتهم, وطالت الغيبة و أشددت الفرقة, و امتدّت دولة الباطل, و خالطت الشيعة مخالفيهم والفت في صغر سنهم بكتبهم, إذ كانت هي المتعارف تعليمها في المدارس و المساجد و غيرها, لان الملوك و أرباب الدول كانوا منهم و الناس إنما يكونون مع الملوك و أرباب الدول, فعاشرتهم في مدارسة العلوم الدينية و طالعوا كتبهم التي سقوها في أصول الفقه التي دونوها لتسهيل اجتهاداتهم التي عليها مدار أحكامهم, فاستحسنوا بعضا و استهجنوا بعضا, أداهم ذلك إلي أن صنفوا في ذلك العلم كتبا إبراماً و نقضا, و تكلموا فيما تكلم العامّة فيه من الأشياء التي لم يأت بها الرسول صلي اللَّه عليه و آله و الأئمة المعصومون صلوات اللَّه عليهم, و كثروا بها المسائل و لبسوا علي الناس طرق الدلائل, و كان العامة أحدثوا في القضايا و الأحكام أشياء كثيرة بآرائهم و عقولهم في جنب اللَّه, و اشتبهت أحكامهم بأحكام اللَّه, و لم يقنعوا بإبهام ما أبهم و السكوت عما سكت اللَّه, بل جعلوا للَّه شركاء حكموا كحكمه فتشابه الحكم عليهم بل للَّه الحكم جميعا و إليه يرجعون و سيجزيهم اللَّه بما كانوا يعلمون, ثم لما كثرت تصانيف أصحابنا في ذلك و تكملوا في أصول الفقه و فروعه باصطلاحات العامة, اشتبهت أصول الطائفتين و اصطلاحاتهم بعضها ببعض, وانجر ذلك إلي أن ألتبس الأمر علي طائفة منهم حتى زعموا جواز الاجتهاد و الحكم بالرأي و وضع القواعد و الضوابط لذلك, و تأويل المتشابهات بالتظنى و الترؤى و الأخذ باتفاق الآراء و تأيد ذلك عندهم بأمور:
أحدها:
ما رأوه من الاختلاف في ظواهر الآيات و الأخبار التي لا تتطابق إلا بتأويل بعضها بما يرجع إلي بعض و ذلك نوع من الاجتهاد المحتاج فيه إلي وضع الأصول و الضوابط.
و الثاني:
ما رأوه من كثرة الوقايع التي لا نص فيها علي الخصوص مع مسيس الحاجة إلي معرفة أحكامها.
و الثالث:
ما رأوه من اشتباه بعض الأحكام و ما فيه من الإبهام الذي لا ينكشف و لا يتعين إلا بتحصيل الظن فيه بالترجيح, و هو عين الاجتهاد, فأولوا الآيات و الأخبار الواردة في المنع منالاجتهاد و العمل بالرأي بتخصيصها بالقياس و الاستحسان و نحوهما من الأصول التي تختص بها العامة, و الواردة في ذم الأخذ باتفاق الآراء بتخصيصها بالآراء الخالية عن قول المعصوم لما ثبت عندهم أن الزمان لا يخلو من إمام معصوم, فصار ذلك كله سببا لكثرة الاختلاف بينهم في المسائل, و تزايده ليلا و نهارا, و توسعة دائرته مدارا و إعصارا, حتى انتهى إلي أن تريهم يختلفون في مسألة واحدة علي عشرين قولا أو ثلاثين أو أزيد, بل لو شئت أن أقول لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها لقلت, و ذلك لأن الآراء لا تكاد تتوافق, و الظنون قلما تتطابق, و الأفهام تتشاكس, و وجوه الاجتهاد تتعاكس, و الاجتهاد يقبل التشكيك, و يتطرق عليه الركيك, و يتشبه بالقوم من ليس منهم, و يدخل نفسه في جملتهم من هو بمعزل عنهم, فظلت المقلدة في غمار آرائهم يعمهون و أصحبوا في لجج أقاويلهم يغرقون.
(( منقول من كتاب سفينة النجاة
تأليف
المحقق العظيم و المحدث الكبير و الحكيم المتأله
محمد بن المرتضى المدعو
بالمولي محسن الكاشاني
المتوفى 1091 ه ))
تعليق