التقليد عند النصارى
كانت ولا زالت الخلافات بين الطوائف المسيحية لها اكبر الاثر في تشتت اتباع يسوع المسيح على مر الازمان ، ولعل اهم نقاط الخلاف بين المدارس الثلاث الرئيسية (الكاثوليك ، الارذدوكس ،البروتستانت) هي التقليد ، وحيث يؤمن ابناء المدرسة الارذدوكسي الى جنب الكاثولوكية بالتقليد ينكر ابناء لوثر تلك المسالة الخلافية حتى اليوم ، ويعرف التقليد على لسان الانبا شنودة زعيم الاقباط في مصر والشرق على حد سواء على انه (كل تعليم وصل عن طريق التسليم الرسولي والآبائي غير الكلام الذي ترك لنا كتابة في الكتاب المقدس ، في موضوعات ربما لم تذكر في الكتاب ولكنها لا تتعارض معه في شيء ما ..) اللاهوت المقارن ج1 ص 51 / الطبعة الثانية القاهرة 1992 ) ، ولما كان الانبا يعلم جيدا" انها نقطة خلاف قوية بين من يعتقد بالتقليد وبين من لا يعتقد لم يجد بدا" من التذكير بالموضوع قائلا"والبروتستانت لا يؤمنون بالتقليد ولا يلتزمون الا بالكتاب المقدس وبهذا يتركون كل التراث الذي تركته الاجيال السابقة للكنيسة ، كل ما تركه الآباء والرسل ، وآباء الكنيسة الاولى والمجامع المقدسة والقوانين والنظم الكنسية ، وما في الكنيسة من طقوس ومن نظم ، وما اخذناه من تعليم شفاهي عبرهذه الاجيال الطويلة كلها ..)المصدر السابق ص51 .
وبالرغم من وجود نص مقدس – ذكرناه مسبقا"- على لسان السيد المسيح(ع) نفسه يذم فيه التقليد بصريح العبارة حين قالوانتم لماذا تتعدون وصية الرب بسبب تقاليدكم) متي 15 : 4-6 ، الا ان الاساقفة الدهاة وجدوا مخرجا" من هذه الزاوية الضيقة التي وضعهم فيها عيسى(ع) حيث يقول الانبا شنودة محاولا" حرف النص تفسيريا" كعادة رجالات التفسير في كل عصر، حيث قال في نفس كتابه..ونحن لا نقصد في حديثنا عن التقليد تلك التقاليد الباطلة التي هي من صنع الناس او التي هي ضد تعليم الكتاب او ضد روحه او كالتقاليد التي اظهر السيد المسيح زيفها ، انما نقصد التقليد السليم الذي هو :
1.تعليم الرب نفسه الذي وصل عن طريق التقليد .
2.التقليد الرسولي الذي هو تعليم الآباء الرسل وقد وصل الينا عن طريق التسليم جيل يسلم جيلا".
3.التقليد الكنسي الذي قررته مجامع الكنيسة في قوانينها ونظمها ..)المصدر السابق ص63.
وفي موضع آخر من كتابه ذاته يقول(والميزان الذي نزن به التقليد السليم اشتراط هام هو موافقته للكتاب المقدس وفي ذلك يقول معلمنا بولس الرسول (ان بشرناكم نحن او ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن اناثيما) غلاطية 1 : 8-9 ..) .
كانت هنالك وسائل عديدة لجأ اليها الآباء لكي يثبتوا صحة دعواهم في نظرية التقليد ، لعل ابرزها على الاطلاق هو ما ذكروه من عبارة كثيرا" ما ترددت على اسماع اتباع الرسالات السماوية بعد موت او رحيل النبي والرسول ، انها عبارة( الكتاب لم يذكر كل شيء) ، ولم اصدق عيني اول الامر حين قرأت العبارة في عنوان كبير في كتاب الانبا شنودة ، ودهشت من هول الصدمة ، فكيف يعقل ان تتفق افكار وعقائد رجال الدين في الديانات السماوية الثلاثة (اليهودية والنصرانية والاسلام) على الرغم من الصراع الدموي الكبير بينها على مثل هكذا عبارة يخيل الى الناظر لاول وهلة انها تواصت به جيلا" بعد جيل او دينا" بعد دين ومذهب بعد مذهب!!!
لكن بعد لحظات زال الانبهار وغابت الدهشة بعد ان تذكرت الوعد الالهي في القرآن والسنة بان سنن الامم تتكرر طبقا" عن طبق!! كما اشنرا في مقدمة البحث، وقد افرد الانبا عنوانا" رنانا" واحدا" لهذه العبارة الشهيرة في كتابه وعلق عليها قائلا"لم يذكر كل ما فعله السيد المسيح ولا كل ما قاله ، انما الذي حدث ان الانجيليين اختاروا بعضا" من اقوال السيد المسيح ومن اعماله وسجلوها في وقت ما للناس وتركوا الباقي ، وهذا واضح في آخر انجيل قد كتب اذ يقول القديس يوحنا الرسول (واشياء اخر كثيرة صنعها يسوع ، ان كتبت واحدة فواحدة فلست اظن ان العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة) يوحنا 21 : 25 ، كما يقول ايضا"(وآيات كثيرة صنعها يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب واما هذه فقد كتبت لتؤمنوا ان يسوع هو المسيح ولكي تكون لكم اذا آمنتم حياة باسمه) يوحنا 20 : 30 ،31 ، ثم يستطرد الانبا محاولا" ايراد المزيد من الاثباتات على ما يذهب اليه حيث اخذ يستعرض جملة حوادث ووقائع قام بها يسوع امام تلاميذه وتعاليم اشير الى انه قام بها في نص الانجيل لم تذكر جميع تفاصيلها فأستنتج عقله انها لا بد انها انتقلت عبر التعليم الرسولي او التقليد حيث قالماذا كان تعليم الرب في المجامع وكرازته ؟ لم يذكر ايضا" ، يقول معلمنا مرقس الانجيلي ان المسيح لما دخل كفرناحوم دخل المجمع (وصار يعلم فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلم بسلطان وليس كالكتبة ) مرقس 1 :21 ، ما هو هذا التعليم الذي بهتوا منه ؟ لم يكتب .
وفي معجزة الخمسين خبزات والسمكتين كان يعلم الناس من الصباح حتى بدأ النهار يميل ، فماذا كان تعليمه لهم ؟ لم يذكر عنه شيء في الاناجيل ، وما هو التعليم الذي قاله المسيح على شاطيء البحيرة وعلى شاطيء النهر؟وفي السفينة والطرقات ؟..لا نعرف..كل هذا وغيره لم يكتب في الاناجيل ، ولكنه ولا شك وصل الينا عن طريق التقليد او وصل بعضه على الاقل.) ص56[/size]
ولم يكتف الانبا شنودة عند هذا الحد من الاسلوب الرامي الى استدراج الادلة حتى وان كانت غير تامة وضعيفة بل قائمة على التصور والفهم الشخصي ، لا بل تعداه الى القول بأقدمية التقليد على الكتاب المقدس نفسه ن وهذه الفكرة كان قد صاغها صياغة قوية بظاهر الحال لكنها واقعا" هشة وضعيفة، اذ ذكر ان قدم التقليد يرجع الى عصر هابيل وقابيل ابني آدم وامتد الى عصر الانبياء التالين كنوح وابراهيم واسحق ويعقوب وغيرهم ، الذين توارثوا الشريعة والاحكام الالهية ليس عبر كتاب مكتوب بل من خلال شريع شفوية او تقليد كما يعبر عنها حيث قال...والتقليد هو اقدم من الكتاب يرجع الى ايام ابينا آدم ، ولعل اقدم ما وصل الينا من الشريعة المكتوبة كان على يد موسى النبي الذي عاش في القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد ، ولكن التقليد اقدم من هذا بكثير ، آلاف السنين مرت على البشرية بدون شريعة مكتوبة ، فمن الذي كان يقود تفكيرها ؟ الضمير من جهة (الشريعة الادبية) ..والتقليد من جهة اخرى وهو تسليم جيل لجيل آخر..وسنحاول ان نضرب بعض الامثلة السابقة للشريعة المكتوبة ...من اين عرف هابيل فكرة الذبيحة التي تقدم قربانا" الى الله ؟ومن اين اتاه هذا الايمان ولم تكن في زمنه شريعة مكتوبة؟..ومن اين عرف نوح فكرة تقديم الذبائح من الحيوانات الطاهرة؟..وبنفس الوضع كيف عرف ابونا يعقوب فكرة العشور حينا قال للرب(وكل ما تعطيني اعشره لك)؟ ..) ص53 ، من الواضح ان الاستفهامات التي اوردها هنا لا تسمن ولا تغني من جوع وهي حيلة انطلت على عوام النصارى السذج وربما الجهلة منهم الذين يتبعون التقليد الاعمى العاري عن الدليل ، فالوقوف على هذه الاستفهامات لن يطول اذا ما رجع النصراني الى الكتاب ووجد ان كل تلك الاسماء هي من رجالات الله ان صح التعبير او انبياءه وحججه على الناس ، وهم بدورهم يتلقون الوحي لان دورهم هو تبليغ رسالات السماء الى الناس فكيف يصح انهم يستخدمون التقليد ؟!...وهل يعقل ان رسول او نبي يحتاج الى معرفة الشريعة ممن سبقه من رجال الدين او الكهنة كي يتم شريعة الله !؟.. فما جدوى ارساله الى الناس واجتباءه للنبوة وحاشا لله ان يفعل عبثا" ، ولو تنزلنا جدلا" وقلنا ان مثل هابيل الصديق لم يكن نبيا" او رسولا" ، لكنه كان بارا" وصديقا" على حد الوصف الكتابي فهنا يقبل العقل انه كان يستخدم التقليد لكن أي تقليد؟..ليس بينه وبين النبوة غير جيل واحد فأبوه آدم هو من تعلم من الله الشريعة وليس هنالك اجيال شاسعة البون بين المقلد والمقلد كي تتغير الاحكام بالنقل من زمان الى زمان ، هل يا ترى تتسالم الشريعة من التغيير شفاها" كما عبر عنها الانبا عبر آلاف السنين؟؟
يتبع.......
تعليق