حال الإمامية بعد الغيبة ... / منقول من كتاب سقيفة الغيبة المستوحى من فكر السيد القحطاني بقلم الاستاذ ناطق سعيد
مرحلة الشيخين :
بعد أن حلت الغيبة وأصبح ماءنا غورا بعد أن غاب عنا المعين العذب ظهر في ساحة الإمامية ما يعرف بالقديمين وهما أبن أبي عقيل العماني وأبن جنيد الاسكافي النهرواني فكان لهذين الشيخين دورا كبيرا في تغيير مسار العلم بعد أن وضحه أهل بيت النبوة ﴿عليهم السلام﴾ للمسلمين جميعاً والإمامية على وجه الخصوص، فظهر القول بالإجتهاد والنظر في أحكام الله وفق العقول القاصرة والقياس اللعين ولم يكتفوا بهذا القدر بل نسبوا الرأي لأهل بيت العصمة ﴿عليهم السلام﴾ فقالوا في بعض مواردهم بأن هذا رأي الصادق وهذا رأينا كما سيأتي .
لقد أحدث الشيخين انقلابا فقهيا بعد غيبة ولي العصر وصاحب الزمان ﴿عليه السلام﴾ وعقدوا السقيفة كما عقدت من قبل في أول زمان الإسلام ولا يخفى ما في ذلك من تشابها كبيرا يدعونا إلى التوقف والبحث .
إن هذا الانقلاب الفقهي حدث في بادئ الأمر على يد أبن أبي عقيل العماني وكان أبن الجنيد النهرواني معاصرا له ومؤازرا أيضاً .
ويعد العماني كما ذكرنا صاحب الانقلاب الفقهي الأول في عصر الغيبة الكبرى حيث قالوا فيه : ﴿هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني الحذاء من أكابر علماء الإمامية وفقهائهم في القرن الرابع الهجري وهو أول من هذب الفقه واستعمل النظر في الأدلة وطريق الجمع بين مدارك الأحكام بالإجتهاد الصحيح في ابتداء الغيبة الكبرى﴾﴿ ﴾.
وقالوا أيضاً : ﴿ أول من هذب الفقه واستعمل النظر﴾﴿ ﴾.
وقالوا أيضاً : ﴿وهو أول من هذب الفقه واستعمل النظر وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبري﴾﴿ ﴾.
وذكر الشيخ محمد الفاضل اللنكراني في مقدمة كتاب مناهج الوصول إلى علم الأصول للسيد الخميني : ﴿ أن أول من اعتمد على علم الأصول في مقام الاستنباط واستند إليه الشيخ الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل ... وهو أول من هذب الفقه ، واستعمل النظر ، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ... ثم اقتفى أثره ونهج منهجه أبن الجنيد المعروف بالإسكافي﴾﴿ ﴾.
وذكر الدكتور الشيخ عدنان آل قاسم في كتابه الإجتهاد عند الشيعة الإمامية الاتجاه العقلي عند فقهاء الإمامية قائلاً : ﴿ويمثله علماء الفقه الذين يعتمدون على مبانيهم الأصولية العقلية ولهم طريقتهم الخاصة بهم في الاستدلال الفقهي وكانوا يستدلون بالعقل على كثير من الأمور ﴾﴿ ﴾.
وذكر من هؤلاء الفقهاء في المقام الأول ﴿الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني﴾ وقال فيه : ﴿وهذا العالم هو أول من أدخل الإجتهاد بشكله المعروف إلى الأبحاث العلمية﴾﴿ ﴾.
وكما ذكر ثناء الفقهاء عليه منهم الشيخ الطوسي والعلامة الحلي والسيد بحر العلوم وذكر أيضاً إن السيد البروجردي كان يتأسف كثيراً لعدم وصول كتاب العماني إليه﴿ ﴾
والملاحظ في هذا الشيخ كما ذكره الفقهاء في كتبهم وكما مر ذكره بأنه أول من استعمل النظر وأول من اعتمد الأصول في عملية الاستنباط كما انه أول من ابتدع الإجتهاد وفق المباني العقلية المنهي عن استعمالها بنص الروايات والتي ذكرنا شطرا منها.
فقد جاء عن أبي بصير أنه قال : قلت لأبي عبد الله الصادق ﴿عليه السلام﴾ : ﴿ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سُنة فننظر فيها ؟ فقال : لا ، أما إنك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على الله عز وجل ﴾﴿ ﴾.
والملاحظ من نص الرواية إن الإمام الصادق ﴿عليه السلام﴾ قد نهى أبو بصير عن النظر في أحكام الله ولكننا نجد العماني قد استعمل النظر وفتق البحث عن الأصول وفق المباني العقلية معرضا بذلك عن النصوص الصريحة في المنع والإنكار لهذه الأفعال وقد جاء هذا المنع على لسان الصادقين ﴿عليهم السلام﴾ وكما ذكرنا فيما تقدم من الفصول السابقة .
إن أصحاب المصنفات نقلوا لهذا الشيخ فتاوى شذ بها عن غيره من الفقهاء منها ما نقله المحقق جعفر السبحاني حيث قال : ﴿ ينقل عنه فتوتان شاذتان ما أفتى بها غيره إلا قليل كعدم انفعال الماء القليل بمجرد الملاقاة ومن قرأ في صلاة السُنن في الركعة الأولى ببعض السورة وقام في الركعة الأخرى ابتدأ من حيث قرأ ولم يقرأ بالفاتحة .
إن لأبن أبي عقيل فتاوى أخرى شاذة كالتالي :
أ- عدم وجوب طواف النساء .
ب- عدم أشتراط رضى المرأة في نكاح بنت أختها وبنت أخيها عليها﴾﴿ ﴾.
كما ينقل عنه العديد من الفتاوى الشاذة حتى عند معاصريه فقد قال بطهارة أهل الكتاب ﴿ ﴾ وقال بجواز التيمم بغير الأرض كالكحل والزرنيخ﴿ ﴾ وقال بطهارة العصير العنبي إذا غلى واشتد ﴿ ﴾
وقد ذكرت العديد من الفتاوى الشاذة لهذا الشيخ تركناها مراعاةً للاختصار وهذا يرجع لا محالة إلى النظر والإجتهاد العقلي الذي ابتدعه بعد غيبة ولي الله ﴿عليه السلام﴾ فقد أكد المحققون بأنه أول من أستعمل النظر وأبتدعة بحلول الغيبة الكبرى هو أبن أبي عقيل العماني والذي اقتفى أثره الجنيدي وقد حاول الشيخ جعفر السبحاني تبرير شذوذه الفقهي هذا إلى انه كان فقيها بعمان وكانت الصلة بينه وبين الحواضر العلمية ضعيفة﴿ ﴾ .
وهذا مما لاشك فيه لا يعد عذرا لهذا الشيخ فقد تواترت الأخبار بالنهي عن القول بغير علم ولم يجوز الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ القول بغير علم لأحد باي حال كان فيها .
وعلى العموم فقد تلى العماني الشيخ أبن الجنيد وذكر هذا الشيخ في العديد من كتب الرجال وهو الشيخ محمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي - المتوفي سنة 381 هـ وهو فقيه من فقهاء الإمامية وله عدة كتب ورسائل حيث تبلغ مصنفاته - عدا أجوبة مسائله - نحوا من خمسين كتابا.
ينتمي هذا الشيخ إلى اسرة بنو الجنيد من الاسر المعروفة بمدينة ﴿الاسكاف﴾ وهي ناحية من نواحي النهروان بين بغداد وواسط . وتنحدر هذه الاسرة من الجد الأعلى لها وهو ﴿الجنيد﴾ الذي يرجع عصره إلى عهد كسرى.
فهو الذي بنى الشاذروان في أيام كسرى، ولهذا السبب فقد أشتهر بني الجنيد في مدينتهم وعموم المدن المجاورة، حتى انه قد اقترنت تسمية المدينة بهم فيقال ﴿اسكاف بني الجنيد﴾ ولما ملك المسلمون العراق اقرهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وقربهم له وولاهم على اسكاف .
إن الذي يهمنا في دراسة هذه الشخصية ليس ما تقدم فحسب بل لا بد من دراسة الناحية الأخرى لهذا الشيخ فقد قام هذا الشيخ بدعم الانقلاب الفقهي في اعقاب الغيبة فكان من أوائل مجتهدين الإمامية ومن أوائل العاملين بالنظر لأصول المسائل الفقهية فكان يتعامل معها وفق القياسات الحنفية والاستنتاجات الظنية المنهي والمحضور أستعمالها في مدرسة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾.
ولم يقف هذا الشيخ إلى هذا الحد فحسب بل راح ينسب العمل بالرأى إلى أئمة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ حيث أحدث الشيخ محمد بن أحمد بن الجنيد نقلة نوعية في التعامل مع الأحكام الشرعية فقد كان الفقه مقتصرا على الروايات المروية عن العترة الطاهرة ﴿عليهم السلام﴾ فلم يذكر التأريخ ولم تحدد لنا كتب رجال الإمامية من سبق هاذين الشيخين في زج العديد من آراء أئمة المذاهب الأخرى إلى مدرسة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ فقد أشار التأريخ والمعاصرين لهذا الشيخ على تبنيه القول بالإجتهاد مستعينا بالقياس والرأي ومعتمداً بذلك على الاستنتاجات الظنية التي أستعملها أئمة المذاهب الاربعة وأشتهروا بها.
وقد ذكر لهذا الشيخ جملة من المسائل التي خالف بها المشهور بين فقهاء الإمامية منها ما ذكره في ان الغسل مطلقا يجزئ عن الوضوء﴿ ﴾ وقال بجواز المسح بالماء المستانفي بغير بلة الوضوء﴿ ﴾ وقال أيضاً بطهارة القليل من الدم﴿ ﴾ وقال بجواز ازالة الدم بالبصاق﴿ ﴾ وقال بطهارة جلد الميتة بالدباغ﴿ ﴾ وقال بجواز قول عبارة ﴿الصلاة خير من النوم﴾ في اذان الفجر﴿ ﴾ وقال بعدم وجوب تقدم الجانب الايمن على الجانب الايسر في الغسل﴿ ﴾
ومن الجدير بالذكر ان من جملة طلاب أبن الجنيد هو الشيخ محمد بن محمد بن نعمان المعروف بالشيخ المفيد الذي كان أول من تصدى لقياس استاذه أبن الجنيد وألف في رد أدعائاته الكتب والرسائل وقد يتفاجأ البعض عندما يعلم بأن الشيخ المفيد كان أحد تلاميذ أبن الجنيد المقربين وهذه الميزة يتميز بها الشيخ المفيد عن غيره من الذين ذكروا إجتهاد أبن الجنيد والرد على أستعماله للقياس والظن وسلوكه طريق المخالفين مما أهل الشيخ المفيد لمعرفة آرائه ومبانيه الاستدلالية أكثر من غيره .
لقد ذكر الشيخ المفيد في كتابة المسائل السروية ما ذهبت إليه آراء أبن الجنيد وسلوكة طريق المخالفين قائلاً : ﴿فأما كتب أبي علي بن الجنيد ، فقد حشاها بأحكام عمل فيها على الظن ، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرذل ، فخلط بين المنقول عن الأئمة عليهم السلام وبين ما قال برأيه ، ولم يفرد أحد الصنفين من الآخر ﴾﴿ ﴾.
قام الشيخ المفيد بقيادة حملة للتأليف كان هدفها رد آراء أبن الجنيد وبيان خطأه وانحرافه عن نهج ال محمد ﴿عليهم السلام﴾ فعارضه وحارب طريقته في الاستدلال وخطأه في موارد عديدة فقد كتب الشيخ المفيد جملة من الكتب والرسائل التي رد بها آراء أستاذه أبن الجنيد منها المسائل الصاغانية ، والمسائل السروية ، ورسالتان الأولى في رد المسائل المصرية بأسم نقض رسالة الجنيدي إلى أهل مصر ، والأخرى بأسم النقض على أبن الجنيد في إجتهاد الرأي .
وكان الشيخ المفيد في غاية الصراحة وشدة اللهجة في رد تلك الأفكار حتى ظن البعض أن ذلك منه ﴿رحمه الله﴾ ليس لصراحة لهجته ، ولكنه كان يرى بأنه لا طريق إلى إصلاح العلم ودوام الدين إلا بالشدة مع هؤلاء وإلا لأندثرت معالم الدين وشريعة رب العالمين .
ومن جملة مؤلفات الشيخ المفيد التي جاء بين سطورها الرد على الجنيدي كتاب المسائل الصاغانية فقد كان الهدف من تأليف هذا الكتاب هو الرد على أحد مشايخ الاحناف في نيسابور الذي ألتقى بالشيخ محمد بن أحمد بن الجنيد وناظره بمسائل عديدة وكان للشيخ الحنفي طعون على مدرسة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ وبعد فترة أشتهرت هذه المناظرة مما دفع الشيخ المفيد إلى تأليف كتاب المسائل الصاغانية الذي أحتوى الرد على شبهات الشيخ الحنفي وكذلك الرد على ما قاله أبن الجنيد لهذا الشيخ .
ومن المسائل التي تناقش فيها الشيخ الحنفي مع أبن الجنيد مسألة زواج المتعة وأستعمل الشيخ الحنفي القياس بأثبات بطلان هذا الزواج فانتصر على أبن الجنيد في هذه المسألة ولم يرد الجنيدي على قياسات الشيخ ونقل الشيخ الحنفي قول أبن الجنيد في نهاية النقاش فقال ﴿ وتشاغل بالثناء على أصحابنا القائسين ، وقال : فلأجل قولكم بمثل هذا المقال على أصحابي قلت بالقياس ، وخالفت أصحابي كلهم في اعتقادهم فيه ﴾﴿ ﴾.
فرد الشيخ المفيد أدعاء الشيخ الحنفي على أبن الجنيد قائلاً ﴿مع أنه لو كان الجنيدي قد قال بما حكيت عنه ، ولم يرد فيه ولم ينقض ، فهو من جنس ما كنا ننكر عليه من الهذيان ، وليس علينا عهدته في غلطه ، لما قد بينا خطأه وزايلناه ﴾﴿ ﴾.
وشهد الشيخ الحنفي على الجنيدي بالجهل فرده الشيخ المفيد وشهد - أي الشيخ المفيد - على أنحراف الجنيدي عن نهج آل محمد ﴿عليهم السلام﴾ قائلا : ﴿فأما شهادتك بجهل الجنيدي ، فقد أسرفت بما قلت في معناه وزدت في الإسراف ، ولم يكن كذلك في النقصان ، وإن كان عندنا غير سديد فيما يتحلى به من الفقه ومعرفة الآثار ... فأما قوله بالقياس في الأحكام الشرعية ، واختياره مذاهب لأبي حنيفة وغيره من فقهاء العامة لم يأت بها أثر عن الصادقين ﴿عليهم السلام﴾ ، فقد كنا ننكره عليه غاية الإنكار ، ولذلك أهمل جماعة من أصحابنا أمره واطرحوه ، ولم يلتفت أحد منهم إلى مصنف له ولا كلام ﴾﴿ ﴾.
نقول : إن شهادة الشيخ المفيد بعدم جهل الجنيدي حقيقة واقعة فقد يتصور البعض ان الذي يستعمل القياس والإجتهاد ليس من ذوي الثقل العلمي وقد يعبر عنه بأنه - أي أصحاب القياس والإجتهاد – ليسوا من ذوي العقول السليمة وهذا غير صحيح البتة فَهُم ليسوا بجهلاء ولكنهم أستخدموا عقولهم بمواضع قد نهاهم الله ورسوله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ عن الخوض فيها فابعدتهم عن الحق وقربتهم من أمام القياس إبليس ﴿عليه اللعنة﴾ .
لقد أصبح اليوم قياس إبليس ﴿لعنة الله عليه﴾ قاعدة أصولية تدرس في مدارس الفقه والأصول﴿ ﴾ مع قولهم بأن الإمام قد حرم القياس ولكنهم استثنوا أنواعاً من القياس منها ما يعرف بقياس منصوص العلة وقياس الاولوية والقياس المنطقي وما يعرف أيضاً بتنقيح المناط والتي أعتبرها الفقهاء عندهم ولقبوها بالقياس الشرعي وكما سياتي بيان ذلك بالتفصيل.
وعلى العموم لم يكن أبن الجنيد قد عمل بالقياس فحسب بل زاد في ذلك بإتباعه لمنهج المخالفين لآل البيت ﴿عليهم السلام﴾ فقال بالرأي وعمل بالظن فرد عليه الشيخ المفيد في المسائل السروية قائلاً : ﴿ وأجبت عن المسائل التي كان أبن الجنيد جمعها وكتبها إلى أهل مصر ، ولقبها ب ﴿ المسائل المصرية ﴾ وجعل الأخبار فيها أبوابا ، وظن أنها مختلفة في معانيها ، ونسب ذلك إلا قول الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ فيها بالرأي : وأبطلت ما ظنه في ذلك وتخيله ، وجمعت بين جميع معانيها ، حتى لم يحصل فيها اختلاف ، فمن ظفر بهذه الأجوبة وتأملها بإنصاف ، وفكر فيها فكرا شافيا ، سهل عليه معرفة الحق في جميع ما يظن أنه مختلف ، وتيقن ذلك مما يختص بالأخبار المروية عن أئمتنا عليهم السلام﴾﴿ ﴾.
وقد ذكر الشيخ جعفر السبحاني قول الجنيدي بنسب الرأي إلى أهل بيت العصمة ﴿عليهم السلام﴾ قائلاً : ﴿ثم الاعجب من العمل بالقياس هو جعل سبب الاختلاف في الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ هو إفتاء الأئمة بالرأي كما هو صريح كلام الشيخ المفيد أعني قوله : ﴿وظن انها مختلفة في معانيها ونسب ذلك إلى قول الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ فيها بالرأي﴾﴿ ﴾.
الى هنا نكتفي في بيان ما جاء في أمر هذا الشيخ ونقول : إن شهادة الشيخ المفيد على قياس الجنيدي تعتبر من أعظم الشهادات لكونه معاصر للجنيدي وأحد تلاميذه المقربين وكذلك لوثاقته ومقربته من صاحب العصر والزمان ﴿عليه السلام﴾ فقد تواترت الأخبار عن حياة الشيخ المفيد بأنه تلقى رسالتين من ولي العصر ﴿عليه السلام﴾ وخاطبه بها بالاخ الموالي وهذا ما يزيد من وثاقة هذا الشيخ وقدرة .
إن من عجائب الدهر وملفتات النظر المدح والثناء الذي حضي به هذا الشيخ الجنيدي من قبل أغلب فقهاء الإمامية وزادوا بالثناء عليه إلى حد الوثاقة مع أعترافهم بانه كان يقول بالقياس وسلك طرق العامة في معرفة الأحكام واستدل بما أستدل به الاحناف فكيف يجتمع القول بالقياس الذي نهى عن أستعماله الرسول محمد ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وآله ﴿عليهم السلام﴾ والقول بالوثاقة وجلالة القدر!! فكيف يجتمع النقيضين!
وإذا حضي هذا الشيخ بالتكريم مع أستعماله للقياس والإجتهاد والسير على طريق المخالفين فكان الاولى أن يحضى بهذا التكريم مكتشف القياس وشيخ القائسين إبليس ﴿لعنه الله﴾ وكان الاجدر بنا قبول آراء زعماء المذاهب الاربعة وشمولهم بالتوثيق والثناء ! ان هذا التناقض قد جر وراءه تناقضات عدة كان منها القول بالإجتهاد والتقليد وحجية العقل والإجماع وهذه الامور كما لا يخفى لم ترد في روايات أهل بيت العصمة ﴿عليهم السلام﴾ بل ورود العديد من الروايات عن الأئمة الصادقين ﴿عليهم السلام﴾ تحرم هذه الامور. وكما ذكرنا التي أصبحت اليوم وبمرور الزمن من ضروريات المذهب ودعائم الدين بل انقلبت أبواب الكتب التي كانت تعقد لحرمة التقليد والإجتهاد ونبذ القياس والظن إلى أبواب وجوب العمل بالتقليد والإجتهادات هذه الإجتهادات التي وصلت اليوم إلى حد لم تصله في الأمم السالفة ولو بعث اليوم السابقين لتزودوا ببدعنا ما كانوا يجهلون .
مرحلة الشيخين :
بعد أن حلت الغيبة وأصبح ماءنا غورا بعد أن غاب عنا المعين العذب ظهر في ساحة الإمامية ما يعرف بالقديمين وهما أبن أبي عقيل العماني وأبن جنيد الاسكافي النهرواني فكان لهذين الشيخين دورا كبيرا في تغيير مسار العلم بعد أن وضحه أهل بيت النبوة ﴿عليهم السلام﴾ للمسلمين جميعاً والإمامية على وجه الخصوص، فظهر القول بالإجتهاد والنظر في أحكام الله وفق العقول القاصرة والقياس اللعين ولم يكتفوا بهذا القدر بل نسبوا الرأي لأهل بيت العصمة ﴿عليهم السلام﴾ فقالوا في بعض مواردهم بأن هذا رأي الصادق وهذا رأينا كما سيأتي .
لقد أحدث الشيخين انقلابا فقهيا بعد غيبة ولي العصر وصاحب الزمان ﴿عليه السلام﴾ وعقدوا السقيفة كما عقدت من قبل في أول زمان الإسلام ولا يخفى ما في ذلك من تشابها كبيرا يدعونا إلى التوقف والبحث .
إن هذا الانقلاب الفقهي حدث في بادئ الأمر على يد أبن أبي عقيل العماني وكان أبن الجنيد النهرواني معاصرا له ومؤازرا أيضاً .
ويعد العماني كما ذكرنا صاحب الانقلاب الفقهي الأول في عصر الغيبة الكبرى حيث قالوا فيه : ﴿هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني الحذاء من أكابر علماء الإمامية وفقهائهم في القرن الرابع الهجري وهو أول من هذب الفقه واستعمل النظر في الأدلة وطريق الجمع بين مدارك الأحكام بالإجتهاد الصحيح في ابتداء الغيبة الكبرى﴾﴿ ﴾.
وقالوا أيضاً : ﴿ أول من هذب الفقه واستعمل النظر﴾﴿ ﴾.
وقالوا أيضاً : ﴿وهو أول من هذب الفقه واستعمل النظر وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبري﴾﴿ ﴾.
وذكر الشيخ محمد الفاضل اللنكراني في مقدمة كتاب مناهج الوصول إلى علم الأصول للسيد الخميني : ﴿ أن أول من اعتمد على علم الأصول في مقام الاستنباط واستند إليه الشيخ الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل ... وهو أول من هذب الفقه ، واستعمل النظر ، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ... ثم اقتفى أثره ونهج منهجه أبن الجنيد المعروف بالإسكافي﴾﴿ ﴾.
وذكر الدكتور الشيخ عدنان آل قاسم في كتابه الإجتهاد عند الشيعة الإمامية الاتجاه العقلي عند فقهاء الإمامية قائلاً : ﴿ويمثله علماء الفقه الذين يعتمدون على مبانيهم الأصولية العقلية ولهم طريقتهم الخاصة بهم في الاستدلال الفقهي وكانوا يستدلون بالعقل على كثير من الأمور ﴾﴿ ﴾.
وذكر من هؤلاء الفقهاء في المقام الأول ﴿الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني﴾ وقال فيه : ﴿وهذا العالم هو أول من أدخل الإجتهاد بشكله المعروف إلى الأبحاث العلمية﴾﴿ ﴾.
وكما ذكر ثناء الفقهاء عليه منهم الشيخ الطوسي والعلامة الحلي والسيد بحر العلوم وذكر أيضاً إن السيد البروجردي كان يتأسف كثيراً لعدم وصول كتاب العماني إليه﴿ ﴾
والملاحظ في هذا الشيخ كما ذكره الفقهاء في كتبهم وكما مر ذكره بأنه أول من استعمل النظر وأول من اعتمد الأصول في عملية الاستنباط كما انه أول من ابتدع الإجتهاد وفق المباني العقلية المنهي عن استعمالها بنص الروايات والتي ذكرنا شطرا منها.
فقد جاء عن أبي بصير أنه قال : قلت لأبي عبد الله الصادق ﴿عليه السلام﴾ : ﴿ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سُنة فننظر فيها ؟ فقال : لا ، أما إنك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على الله عز وجل ﴾﴿ ﴾.
والملاحظ من نص الرواية إن الإمام الصادق ﴿عليه السلام﴾ قد نهى أبو بصير عن النظر في أحكام الله ولكننا نجد العماني قد استعمل النظر وفتق البحث عن الأصول وفق المباني العقلية معرضا بذلك عن النصوص الصريحة في المنع والإنكار لهذه الأفعال وقد جاء هذا المنع على لسان الصادقين ﴿عليهم السلام﴾ وكما ذكرنا فيما تقدم من الفصول السابقة .
إن أصحاب المصنفات نقلوا لهذا الشيخ فتاوى شذ بها عن غيره من الفقهاء منها ما نقله المحقق جعفر السبحاني حيث قال : ﴿ ينقل عنه فتوتان شاذتان ما أفتى بها غيره إلا قليل كعدم انفعال الماء القليل بمجرد الملاقاة ومن قرأ في صلاة السُنن في الركعة الأولى ببعض السورة وقام في الركعة الأخرى ابتدأ من حيث قرأ ولم يقرأ بالفاتحة .
إن لأبن أبي عقيل فتاوى أخرى شاذة كالتالي :
أ- عدم وجوب طواف النساء .
ب- عدم أشتراط رضى المرأة في نكاح بنت أختها وبنت أخيها عليها﴾﴿ ﴾.
كما ينقل عنه العديد من الفتاوى الشاذة حتى عند معاصريه فقد قال بطهارة أهل الكتاب ﴿ ﴾ وقال بجواز التيمم بغير الأرض كالكحل والزرنيخ﴿ ﴾ وقال بطهارة العصير العنبي إذا غلى واشتد ﴿ ﴾
وقد ذكرت العديد من الفتاوى الشاذة لهذا الشيخ تركناها مراعاةً للاختصار وهذا يرجع لا محالة إلى النظر والإجتهاد العقلي الذي ابتدعه بعد غيبة ولي الله ﴿عليه السلام﴾ فقد أكد المحققون بأنه أول من أستعمل النظر وأبتدعة بحلول الغيبة الكبرى هو أبن أبي عقيل العماني والذي اقتفى أثره الجنيدي وقد حاول الشيخ جعفر السبحاني تبرير شذوذه الفقهي هذا إلى انه كان فقيها بعمان وكانت الصلة بينه وبين الحواضر العلمية ضعيفة﴿ ﴾ .
وهذا مما لاشك فيه لا يعد عذرا لهذا الشيخ فقد تواترت الأخبار بالنهي عن القول بغير علم ولم يجوز الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ القول بغير علم لأحد باي حال كان فيها .
وعلى العموم فقد تلى العماني الشيخ أبن الجنيد وذكر هذا الشيخ في العديد من كتب الرجال وهو الشيخ محمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي - المتوفي سنة 381 هـ وهو فقيه من فقهاء الإمامية وله عدة كتب ورسائل حيث تبلغ مصنفاته - عدا أجوبة مسائله - نحوا من خمسين كتابا.
ينتمي هذا الشيخ إلى اسرة بنو الجنيد من الاسر المعروفة بمدينة ﴿الاسكاف﴾ وهي ناحية من نواحي النهروان بين بغداد وواسط . وتنحدر هذه الاسرة من الجد الأعلى لها وهو ﴿الجنيد﴾ الذي يرجع عصره إلى عهد كسرى.
فهو الذي بنى الشاذروان في أيام كسرى، ولهذا السبب فقد أشتهر بني الجنيد في مدينتهم وعموم المدن المجاورة، حتى انه قد اقترنت تسمية المدينة بهم فيقال ﴿اسكاف بني الجنيد﴾ ولما ملك المسلمون العراق اقرهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وقربهم له وولاهم على اسكاف .
إن الذي يهمنا في دراسة هذه الشخصية ليس ما تقدم فحسب بل لا بد من دراسة الناحية الأخرى لهذا الشيخ فقد قام هذا الشيخ بدعم الانقلاب الفقهي في اعقاب الغيبة فكان من أوائل مجتهدين الإمامية ومن أوائل العاملين بالنظر لأصول المسائل الفقهية فكان يتعامل معها وفق القياسات الحنفية والاستنتاجات الظنية المنهي والمحضور أستعمالها في مدرسة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾.
ولم يقف هذا الشيخ إلى هذا الحد فحسب بل راح ينسب العمل بالرأى إلى أئمة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ حيث أحدث الشيخ محمد بن أحمد بن الجنيد نقلة نوعية في التعامل مع الأحكام الشرعية فقد كان الفقه مقتصرا على الروايات المروية عن العترة الطاهرة ﴿عليهم السلام﴾ فلم يذكر التأريخ ولم تحدد لنا كتب رجال الإمامية من سبق هاذين الشيخين في زج العديد من آراء أئمة المذاهب الأخرى إلى مدرسة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ فقد أشار التأريخ والمعاصرين لهذا الشيخ على تبنيه القول بالإجتهاد مستعينا بالقياس والرأي ومعتمداً بذلك على الاستنتاجات الظنية التي أستعملها أئمة المذاهب الاربعة وأشتهروا بها.
وقد ذكر لهذا الشيخ جملة من المسائل التي خالف بها المشهور بين فقهاء الإمامية منها ما ذكره في ان الغسل مطلقا يجزئ عن الوضوء﴿ ﴾ وقال بجواز المسح بالماء المستانفي بغير بلة الوضوء﴿ ﴾ وقال أيضاً بطهارة القليل من الدم﴿ ﴾ وقال بجواز ازالة الدم بالبصاق﴿ ﴾ وقال بطهارة جلد الميتة بالدباغ﴿ ﴾ وقال بجواز قول عبارة ﴿الصلاة خير من النوم﴾ في اذان الفجر﴿ ﴾ وقال بعدم وجوب تقدم الجانب الايمن على الجانب الايسر في الغسل﴿ ﴾
ومن الجدير بالذكر ان من جملة طلاب أبن الجنيد هو الشيخ محمد بن محمد بن نعمان المعروف بالشيخ المفيد الذي كان أول من تصدى لقياس استاذه أبن الجنيد وألف في رد أدعائاته الكتب والرسائل وقد يتفاجأ البعض عندما يعلم بأن الشيخ المفيد كان أحد تلاميذ أبن الجنيد المقربين وهذه الميزة يتميز بها الشيخ المفيد عن غيره من الذين ذكروا إجتهاد أبن الجنيد والرد على أستعماله للقياس والظن وسلوكه طريق المخالفين مما أهل الشيخ المفيد لمعرفة آرائه ومبانيه الاستدلالية أكثر من غيره .
لقد ذكر الشيخ المفيد في كتابة المسائل السروية ما ذهبت إليه آراء أبن الجنيد وسلوكة طريق المخالفين قائلاً : ﴿فأما كتب أبي علي بن الجنيد ، فقد حشاها بأحكام عمل فيها على الظن ، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرذل ، فخلط بين المنقول عن الأئمة عليهم السلام وبين ما قال برأيه ، ولم يفرد أحد الصنفين من الآخر ﴾﴿ ﴾.
قام الشيخ المفيد بقيادة حملة للتأليف كان هدفها رد آراء أبن الجنيد وبيان خطأه وانحرافه عن نهج ال محمد ﴿عليهم السلام﴾ فعارضه وحارب طريقته في الاستدلال وخطأه في موارد عديدة فقد كتب الشيخ المفيد جملة من الكتب والرسائل التي رد بها آراء أستاذه أبن الجنيد منها المسائل الصاغانية ، والمسائل السروية ، ورسالتان الأولى في رد المسائل المصرية بأسم نقض رسالة الجنيدي إلى أهل مصر ، والأخرى بأسم النقض على أبن الجنيد في إجتهاد الرأي .
وكان الشيخ المفيد في غاية الصراحة وشدة اللهجة في رد تلك الأفكار حتى ظن البعض أن ذلك منه ﴿رحمه الله﴾ ليس لصراحة لهجته ، ولكنه كان يرى بأنه لا طريق إلى إصلاح العلم ودوام الدين إلا بالشدة مع هؤلاء وإلا لأندثرت معالم الدين وشريعة رب العالمين .
ومن جملة مؤلفات الشيخ المفيد التي جاء بين سطورها الرد على الجنيدي كتاب المسائل الصاغانية فقد كان الهدف من تأليف هذا الكتاب هو الرد على أحد مشايخ الاحناف في نيسابور الذي ألتقى بالشيخ محمد بن أحمد بن الجنيد وناظره بمسائل عديدة وكان للشيخ الحنفي طعون على مدرسة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ وبعد فترة أشتهرت هذه المناظرة مما دفع الشيخ المفيد إلى تأليف كتاب المسائل الصاغانية الذي أحتوى الرد على شبهات الشيخ الحنفي وكذلك الرد على ما قاله أبن الجنيد لهذا الشيخ .
ومن المسائل التي تناقش فيها الشيخ الحنفي مع أبن الجنيد مسألة زواج المتعة وأستعمل الشيخ الحنفي القياس بأثبات بطلان هذا الزواج فانتصر على أبن الجنيد في هذه المسألة ولم يرد الجنيدي على قياسات الشيخ ونقل الشيخ الحنفي قول أبن الجنيد في نهاية النقاش فقال ﴿ وتشاغل بالثناء على أصحابنا القائسين ، وقال : فلأجل قولكم بمثل هذا المقال على أصحابي قلت بالقياس ، وخالفت أصحابي كلهم في اعتقادهم فيه ﴾﴿ ﴾.
فرد الشيخ المفيد أدعاء الشيخ الحنفي على أبن الجنيد قائلاً ﴿مع أنه لو كان الجنيدي قد قال بما حكيت عنه ، ولم يرد فيه ولم ينقض ، فهو من جنس ما كنا ننكر عليه من الهذيان ، وليس علينا عهدته في غلطه ، لما قد بينا خطأه وزايلناه ﴾﴿ ﴾.
وشهد الشيخ الحنفي على الجنيدي بالجهل فرده الشيخ المفيد وشهد - أي الشيخ المفيد - على أنحراف الجنيدي عن نهج آل محمد ﴿عليهم السلام﴾ قائلا : ﴿فأما شهادتك بجهل الجنيدي ، فقد أسرفت بما قلت في معناه وزدت في الإسراف ، ولم يكن كذلك في النقصان ، وإن كان عندنا غير سديد فيما يتحلى به من الفقه ومعرفة الآثار ... فأما قوله بالقياس في الأحكام الشرعية ، واختياره مذاهب لأبي حنيفة وغيره من فقهاء العامة لم يأت بها أثر عن الصادقين ﴿عليهم السلام﴾ ، فقد كنا ننكره عليه غاية الإنكار ، ولذلك أهمل جماعة من أصحابنا أمره واطرحوه ، ولم يلتفت أحد منهم إلى مصنف له ولا كلام ﴾﴿ ﴾.
نقول : إن شهادة الشيخ المفيد بعدم جهل الجنيدي حقيقة واقعة فقد يتصور البعض ان الذي يستعمل القياس والإجتهاد ليس من ذوي الثقل العلمي وقد يعبر عنه بأنه - أي أصحاب القياس والإجتهاد – ليسوا من ذوي العقول السليمة وهذا غير صحيح البتة فَهُم ليسوا بجهلاء ولكنهم أستخدموا عقولهم بمواضع قد نهاهم الله ورسوله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ عن الخوض فيها فابعدتهم عن الحق وقربتهم من أمام القياس إبليس ﴿عليه اللعنة﴾ .
لقد أصبح اليوم قياس إبليس ﴿لعنة الله عليه﴾ قاعدة أصولية تدرس في مدارس الفقه والأصول﴿ ﴾ مع قولهم بأن الإمام قد حرم القياس ولكنهم استثنوا أنواعاً من القياس منها ما يعرف بقياس منصوص العلة وقياس الاولوية والقياس المنطقي وما يعرف أيضاً بتنقيح المناط والتي أعتبرها الفقهاء عندهم ولقبوها بالقياس الشرعي وكما سياتي بيان ذلك بالتفصيل.
وعلى العموم لم يكن أبن الجنيد قد عمل بالقياس فحسب بل زاد في ذلك بإتباعه لمنهج المخالفين لآل البيت ﴿عليهم السلام﴾ فقال بالرأي وعمل بالظن فرد عليه الشيخ المفيد في المسائل السروية قائلاً : ﴿ وأجبت عن المسائل التي كان أبن الجنيد جمعها وكتبها إلى أهل مصر ، ولقبها ب ﴿ المسائل المصرية ﴾ وجعل الأخبار فيها أبوابا ، وظن أنها مختلفة في معانيها ، ونسب ذلك إلا قول الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ فيها بالرأي : وأبطلت ما ظنه في ذلك وتخيله ، وجمعت بين جميع معانيها ، حتى لم يحصل فيها اختلاف ، فمن ظفر بهذه الأجوبة وتأملها بإنصاف ، وفكر فيها فكرا شافيا ، سهل عليه معرفة الحق في جميع ما يظن أنه مختلف ، وتيقن ذلك مما يختص بالأخبار المروية عن أئمتنا عليهم السلام﴾﴿ ﴾.
وقد ذكر الشيخ جعفر السبحاني قول الجنيدي بنسب الرأي إلى أهل بيت العصمة ﴿عليهم السلام﴾ قائلاً : ﴿ثم الاعجب من العمل بالقياس هو جعل سبب الاختلاف في الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت ﴿عليهم السلام﴾ هو إفتاء الأئمة بالرأي كما هو صريح كلام الشيخ المفيد أعني قوله : ﴿وظن انها مختلفة في معانيها ونسب ذلك إلى قول الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ فيها بالرأي﴾﴿ ﴾.
الى هنا نكتفي في بيان ما جاء في أمر هذا الشيخ ونقول : إن شهادة الشيخ المفيد على قياس الجنيدي تعتبر من أعظم الشهادات لكونه معاصر للجنيدي وأحد تلاميذه المقربين وكذلك لوثاقته ومقربته من صاحب العصر والزمان ﴿عليه السلام﴾ فقد تواترت الأخبار عن حياة الشيخ المفيد بأنه تلقى رسالتين من ولي العصر ﴿عليه السلام﴾ وخاطبه بها بالاخ الموالي وهذا ما يزيد من وثاقة هذا الشيخ وقدرة .
إن من عجائب الدهر وملفتات النظر المدح والثناء الذي حضي به هذا الشيخ الجنيدي من قبل أغلب فقهاء الإمامية وزادوا بالثناء عليه إلى حد الوثاقة مع أعترافهم بانه كان يقول بالقياس وسلك طرق العامة في معرفة الأحكام واستدل بما أستدل به الاحناف فكيف يجتمع القول بالقياس الذي نهى عن أستعماله الرسول محمد ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وآله ﴿عليهم السلام﴾ والقول بالوثاقة وجلالة القدر!! فكيف يجتمع النقيضين!
وإذا حضي هذا الشيخ بالتكريم مع أستعماله للقياس والإجتهاد والسير على طريق المخالفين فكان الاولى أن يحضى بهذا التكريم مكتشف القياس وشيخ القائسين إبليس ﴿لعنه الله﴾ وكان الاجدر بنا قبول آراء زعماء المذاهب الاربعة وشمولهم بالتوثيق والثناء ! ان هذا التناقض قد جر وراءه تناقضات عدة كان منها القول بالإجتهاد والتقليد وحجية العقل والإجماع وهذه الامور كما لا يخفى لم ترد في روايات أهل بيت العصمة ﴿عليهم السلام﴾ بل ورود العديد من الروايات عن الأئمة الصادقين ﴿عليهم السلام﴾ تحرم هذه الامور. وكما ذكرنا التي أصبحت اليوم وبمرور الزمن من ضروريات المذهب ودعائم الدين بل انقلبت أبواب الكتب التي كانت تعقد لحرمة التقليد والإجتهاد ونبذ القياس والظن إلى أبواب وجوب العمل بالتقليد والإجتهادات هذه الإجتهادات التي وصلت اليوم إلى حد لم تصله في الأمم السالفة ولو بعث اليوم السابقين لتزودوا ببدعنا ما كانوا يجهلون .