مرحلة المحقق الحلي ﴿602 هـ - 676 هـ ﴾ :
وهو جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحلي المعروف بالمحقق الحلي أبرز الرجال الذين ظهروا بعد أبن إدريس الحلي فكان له الدور الكبير في إحياء الإجتهاد على طريقة الشيخ الطوسي ولعل أبرز ما تميز به عن غيره في الفقه هو ما قام به من ترتيب الفقه وأبوابه فهو الذي قام بتقسيم الفقه إلى : عبادات وعقود وإيقاعات وأحكام ولم يكن هذا التقسيم قد شوهد في مصنفات سابقيه من الفقهاء والمحققين .
أحدث المحقق الحلي تغييرا ملموسا على صعيد الإجتهادات والقواعد الأصولية والآراء حتى اجتذب العديد من المؤيدين له والمتابعين لأقواله والى يومنا هذا، فقبل مجئ المحقق الحلي إلى ساحة الفقهاء كان المعتمد في الكتب الدراسية كتاب النهاية للشيخ الطوسي إلا أن بمجئ المحقق استعاض الفقهاء بكتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي وقد ذكر ذلك الشيخ آغا بزرگ الطهراني قائلاً : ﴿لما ألف المحقق الحلي " شرايع الإسلام " استعاضوا به عن مؤلفات شيخ الطائفة ، وأصبح من كتبهم الدراسية ، بعد أن كان كتاب " النهاية " هو المحور وكان بحثهم وتدريسهم وشروحهم غالبا فيه وعليه﴾﴿ التبيان - الشيخ الطوسي - ج 1 - المقدمة ص 9﴾.
وعلى العموم بدا المحقق الحلي كسابقيه من حيث التجديد والتغيير وهذه السمة غالباً ما نراها في الفقهاء فكل فقيه ذاع صيته وعلا واشتهر على الالسن ذكره كان من أصحاب النظريات الجديدة والأقوال التي لم يسبقه أحد بالقول بها.
وإذا التزم أحد الفقهاء بما عليه السلف الصالح خمد ذكره ولا تكاد تجد له بصيص من أقواله وفتاويه وكأن التجديد والتغيير هو الشرط الوحيد لشهرة الفقيه في أي زمان من الازمنة حتى أصبح البقاء على ما عليه قدمائنا محطا للسخرية والاستهزاء إلا إذا أراد الفقيه ان يعلوا ذكره ويدنوا من العلياء أمره كان لزاما عليه التغيير والإتيان بما هو جديد على الاذهان سماعه .
لقد أحدث المحقق الحلي نقلة نوعية أخرى على صعيد الآراء الأصولية وقبل أن ندخل بتفاصيل ما ذكره المحقق علينا اولا أن نبين اللبس الذي وقع به السيد محمد باقر الصدر حين ذكر في كتابه المعالم الجديدة للأصول بأن المحقق الحلي هو أول فقيه قال بانه من أهل الإجتهاد بمعناه الجديد كما يفترض السيد الصدر وذلك في قوله : ﴿ولا يوجد لدينا الآن نص شيعي يعكس هذا التطور أقدم تأريخا من كتاب المعارج للمحقق الحلي المتوفى سنة ﴿676) - المعالم الجديدة للأصول - السيد محمد باقر الصدر - ص 26﴾
وهذا الكلام غير صحيح بالمرة فإننا نجد السيد المرتضى قد اعلنها صراحة قبل أن يقولها المحقق الحلي بأكثر من 250 سنة تقريبا حيث ذكر المرتضى بانه من أهل الإجتهاد وهو اقدم قول شيعي في اعقاب الغيبة - ان تجاوزنا الشيخين أبن أبي عقيل العماني وأبن الجنيد لعدم توفر مصنفاتهم في وقتنا الحاضر - وليس كما يقول السيد محمد باقر الصدر في كتابه المذكور واليك نص ما قاله السيد المرتضى في كتابه الذريعة : ﴿ وليس يمتنع أن يكون قولنا أهل الإجتهاد - إذا أطلق - محمولا بالعرف على من عول على الظنون والامارات في إثبات الأحكام الشرعية ، دون من لم يرجع إلا إلى الأدلة والعلوم ﴾﴿ الذريعة - أصول فقه - السيد المرتضى - ج 2 - ص 672
وبهذا القول الذي اطلقة السيد المرتضى يثبت لدينا بانه اقدم قول شيعي وهو يسبق ما ذكره السيد الصدر بأكثر من قرنين من الزمان وبهذا نرجوا ممن اقتفى اثر السيد الصدر ان يراجع أكثر وان يُجهد نفسه بالبحث والتقصي في امور الدين ولا يعتمد على قول الرجال مهما بلغوا في العلم والمعرفة فهنالك الكثير من الفقهاء ممن وقع في الغلط جراء اعتماده على أقوال الرجال كما وقع العديد من الفقهاء بالغلط اعتمادا على الأحاديث التي صنفها الشيخ الطوسي وقد بينا ما قاله الشيخ البحراني عما عليه كتب الشيخ من الغلط والتحريف والنقصان .
وعلى العموم فإن كلمات المحقق الحلي كثيرة لا يمكن التوقف عليها وبحثها بحثا علميا في هذا السفر البسيط إلا أن جل ما يهمنا هو ما قاله في الباب التاسع من كتابه معارج الأصول حيث سماه ﴿في الإجتهاد﴾ وراح في الفصل الأول يطلق عدة مسائل وذكر في المسألة الاولى في حقيقة الإجتهاد حيث اخذ يعرف الإجتهاد قائلاً : ﴿ الإجتهاد : افتعال من الجهد ... وهو في عرف الفقهاء : بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع إجتهادا ، لأنها تبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر ، وسواءً كان ذلك الدليل قياسا أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الإجتهاد.
فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون الإمامية من أهل الإجتهاد .
قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه ايهام من حيث أن القياس من جملة الإجتهاد ، فإذا استثنى القياس كنا من أهل الإجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس ﴾﴿ - معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 179
إن أصل التعريف الذي ذكره المحقق الحلي نابع من منابع المخالفين لمدرسة أهل البيت (ع) فقد ذكره الغزالي المتوفى سنة 505 هـ والذي سبق المحقق الحلي بأكثر من قرن من الزمان تعريف الإجتهاد قائلاً : ﴿ في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة﴾﴿ - المستصفى - ج2 - ص350﴾.
ولا يخفى نسبة التشابه في التعريف وقد ذكر العديد من فقهاء المخالفين تعريف الإجتهاد بألفاظ مختلفة ذكرنا بعضها فيما سبق .
إننا حين نذكر قاعدة أو نذكر تعريفاً لشيء ما يجب علينا أن نبين مصدر التعريف لكي لا يشتبه على الناس الأمر فيعتقدون ان هذا التعريف وارد عن مسلك صحيح خصوصاً إذا تحقق عند المتلقي حسن الظن بناقل التعريف أو القاعدة وهذا ما هو حاصل عند الإمامية في المحقق الحلي ، ولكن الذي يجب علينا تبيانه باننا غير مخولين باخذ شيء من أصول المخالفين وقواعدهم فقد عد الأئمة (ع) تلك الأصول والقواعد من الخبائث التي حرموها على شيعتهم ومواليهم ولا يسعنا الإتيان بتلك الخبائث خصوصاً إذا علمنا بأن هذا التعريف لم يرد في شيء من الأخبار على الإطلاق فما هو وجه الصحة في اخذ هذا التعريف من أقوال المخالفين وقد جاء عن أمير المؤمنين (ع) في وصيته لكميل أبن زياد قال : ﴿ ... يا كميل ! هي نبوة ورسالة وامامة ، وليس بعد ذلك إلا موالين متبعين ، أو مبتدعين ، إنما يتقبل الله من المتقين ، يا كميل ! لا تأخذ إلا عنا تكن منا﴾﴿ وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 30﴾.
وجاء عن المفضل بن عمر قال: قال الصادق (ع): ﴿كذب من زعم أنه من شيعتنا وهو متمسك بعروة غيرنا﴾﴿ - صفات الشيعة - الشيخ الصدوق - ص 3
﴾ .
وهذا من جهة التعريف اما من جهة التطبيق لهذا التعريف فقد ذكر المحقق ان عملية الإجتهاد تبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص سواءً كانت هذه الاعتبارات مبنية على القياس أو غيره ثم قال المحقق بأن الإمامية من أهل الإجتهاد إلا أن هذا الإجتهاد مستثنى منه القياس وهذا حد قوله ولنا في قوله نقاش :
إن هذه الاعتبارات النظرية إذا جاء بها اثر في أقوال أصحاب العصمة (ع) فلا اعتراض عليها كما هو الحال في الأصول التي ذكرها الأئمة (ع)لأصحابهم والتي ذكرناها في بحثنا هذا أما إذا كانت هذه الاعتبارات لا دليل عليها في اثار الأئمة (ع) فلا يمكن الاحتجاج بها إطلاقاً، فلا صحة في الذي لم يخرج منهم (ع).
ولا يخفى على من اطلع على أصول الفقهاء الإمامية يجد الكثير منها مما اخذ عن مدارس المخالفين والتي لا دليل على صحتها في كتب القدماء بل لم تذكر أساساً .
اما ما ذهب إليه في قوله بأن الإمامية من أهل الإجتهاد فهذا أيضاً مما لا دليل عليه اما قوله بأن إجتهاد الإمامية مستثنى منه القياس فهو مردود لعمل المحقق الحلي نفسه بالقياس باعتباره دليلاً بل ان السابقين له قد عدوه من الأدلة وكما مر ذكره اما ما ذكره المحقق فهو قوله : ﴿في القياس ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : القياس في الوضع : هو المماثلة . وفى الاصطلاح : عبارة عن الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت لمعلوم آخر ، لتساويهما في علة الحكم . فموضع الحكم المتفق عليه يسمى : أصلاً . وموضع الحكم المختلف فيه يسمى : فرعا . والعلة : هي الجامع الموجب لاثبات مثل حكم الأصل في الفرع ، فإن كانت العلة معلومة ، ولزوم الحكم لها معلوما من حيث هي ، كانت النتيجة علمية ، ولا نزاع في كون مثل ذلك دليلاً ...
المسألة الثانية : النص على علة الحكم وتعليقه عليها مطلقا ، يوجب ثبوت الحكم ان ثبتت العلة ، كقوله : الزنا يوجب الحد ، والسرقة توجب القطع . أما إذا حكم في شيء بحكم ثم نص على علته فيه : فإن نص مع ذلك على تعديته وجب ، وان لم ينص ، لم يجب تعدية الحكم الا مع القول بكون القياس حجة﴾﴿ معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 182-183
ثم قال في المسألة الرابعة : ﴿ الجمع بين الأصل والفرع قد يكون بعدم الفارق ، ويسمى : تنقيح المناط . فإن علمت المساواة من كل وجه ، جاز تعدية الحكم إلى المساوي ، وان علم الامتياز أو جوز ، لو تجز التعدية الا مع النص على ذلك ، لجواز اختصاص الحكم بتلك المزية ، وعدم ما يدل على التعدية . وقد يكون الجمع بعلة موجودة في الأصل والفرع ، فيغلب على الظن ثبوت الحكم في الفرع ، ولا يجوز تعدية الحكم - والحال هذه - بما سندل عليه . فإن نص الشارع على العلة ، وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم ، جاز تعدية الحكم ، وكان ذلك برهانا﴾﴿- معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 185﴾. ﴾.
لقد اقر المحقق هذا الأنواع من القياس والتي هو ﴿القياس في الوضع﴾ وكذلك القياس الثاني والذي حدده فيما إذا كانت العلة منصوص عليها ما يسمى عند الفقهاء بقياس منصوص العلة والنوع الثالث والذي هو تنقيح المناط وهذه الأنواع من القياس واضحة البطلان كما سياتي في مبحث القياس عند الإمامية كما انها من الأنواع التي احتج بها المخالفون وعملوا بها وصنفوها في كتبهم، وان خير رد يرد به عليه هو ما ورد عن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى (ع) عن القياس فقال : ﴿مالكم والقياس إن الله لا يسأل كيف أحل وكيف حرم﴾﴿ - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 57﴾.
فإذا كان الله لا يسال كيف احل وكيف حرم فلا سبيل لنا لمعرفة العلل في الأحكام أما إذا ورد في النص تحديداً للعلة فلا يمكننا تحديد وضعيتها المناسبة في ذلك، وخير مثال هو ان العلة في وقوع العدة على المطلقة أو الارملة هو عدم اختلاط الماء وقد حدد الشرع هذه المسألة علة لمسألة العدة إلا أن المراة التي هجرها زوجها لاعوام أو التي زوجها كان في الاسر على سبيل المثال وعلمت بوفاته بعد سنين أو المراة العقيمة أو التي بلغت سن الياس من الحمل والانجاب وغيرها من الحالات ففي هذه الحالات كلها تكون المرأة ملزمة بالعدة فاين ذهبت العلة التي اقرها الشرع يا ترى ؟
هنالك الكثير من الأحكام التي وضعها الله لعباده فعرّف جانب من العلة إلا إنه سبحانه اخفى عن عباده جوانب أخرى كما انه قد اخفى الكثير من العلل التي دعت إلى وضع الكثير من الأحكام الشرعية ونحن كمسلمين متبعين لا يسعنا في ذلك الا التعبد بهذه الأحكام الإلهية .
لقد بين أئمة أهل البيت (ع) بطلان كل أنواع القياس التي تستخدم في نفس الأحكام الشرعية ولا توجد رواية أو خبر يذكر إستثناء أحد هذه الأنواع بل انهم (ع) اخبروا شيعتهم بتحريم كل أنواع القياس فقد جاء عن أبي شيبة الخراساني قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : ﴿إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا ، وإن دين الله لا يصاب بالمقاييس ﴾﴿وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 43
ولا يخفى بأن كلمة المقاييس هي جمع قياس وهذا يدل على تحريم كل أنواع القياس في نفس الأحكام الشرعية بقول مطلق .
إن مسألة تحديد العلة في الأحكام الشريعة قد بين عدمها الشيخ المفيد وذلك في قوله الذي ذكره المحقق الحلي : ﴿ واحتج شيخنا المفيد ره لذلك أيضاً بأنه لا سبيل إلى علة الحكم في الأصل ، فلا سبيل إلى القياس ﴾﴿ - معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 184 ﴾﴾
إلا أن المحقق الحلي قال بعدم التسليم لقول الشيخ المفيد وذلك في قوله : ﴿والجواب عن احتجاج المفيد أن نقول : لا نسلم أنه لا سبيل إلى تحصيل علة الحكم ﴾﴿ - نفس المصدر السابق﴾
ولا نريد الاطالة في هذا المقام ولندع النقاش أكثر في أنواع القياس عند الإمامية إلى مبحث القياس إلا أن ما يجب بيانه هو ان المحقق قد استثنى من القياس المحرم بقول مطلق بعض أنواعه ولم يذكر في إستثنائه هذا دليل معتبرا من الكتاب والسُنة وقد بينا بأن هذا الإستثناء ممتنع في الأخبار وروده ولا يسعنا إلا التمسك بقول المعصوم وندع قول فاقدي العصمة مهما بلغوا في العلم والمقام بين الناس .
إن من العجائب الأخرى لأقوال المحقق الحلي هو مناقشته وتأييده في الظاهر لقول من قال بترجيح أحد الخبرين إذا وافق القياس أحدهما فيكون المرجح هو الخبر الذي يوافق القياس وذلك في قوله : ﴿ ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا ، وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضى ترجيح ذلك الخبر على معارضه . ويمكن أن يحتج لذلك : بأن الحق في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعين أن يعمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلا بد في العمل بأحدهما من مرجح ، ﴿والقياس مما يصلح﴾ أن يكون مرجحا ، لحصول الظن به فتعين العمل بما طابقه . لا يقال : أجمعنا على أن القياس مطرح في الشرع . لأنا نقول : بمعنى أنه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أنه لا يكون مرجحا لاحد الخبرين على الآخر ، وهذا لأن فائدة كونه مرجحا كونه دافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، ويكون العمل به ، لا بذلك القياس ، وفى ذلك نظر ﴾﴿ - معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 186 -187
إن الرد على هذا الكلام لا يحتاج إلى
يتبع
وهو جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحلي المعروف بالمحقق الحلي أبرز الرجال الذين ظهروا بعد أبن إدريس الحلي فكان له الدور الكبير في إحياء الإجتهاد على طريقة الشيخ الطوسي ولعل أبرز ما تميز به عن غيره في الفقه هو ما قام به من ترتيب الفقه وأبوابه فهو الذي قام بتقسيم الفقه إلى : عبادات وعقود وإيقاعات وأحكام ولم يكن هذا التقسيم قد شوهد في مصنفات سابقيه من الفقهاء والمحققين .
أحدث المحقق الحلي تغييرا ملموسا على صعيد الإجتهادات والقواعد الأصولية والآراء حتى اجتذب العديد من المؤيدين له والمتابعين لأقواله والى يومنا هذا، فقبل مجئ المحقق الحلي إلى ساحة الفقهاء كان المعتمد في الكتب الدراسية كتاب النهاية للشيخ الطوسي إلا أن بمجئ المحقق استعاض الفقهاء بكتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي وقد ذكر ذلك الشيخ آغا بزرگ الطهراني قائلاً : ﴿لما ألف المحقق الحلي " شرايع الإسلام " استعاضوا به عن مؤلفات شيخ الطائفة ، وأصبح من كتبهم الدراسية ، بعد أن كان كتاب " النهاية " هو المحور وكان بحثهم وتدريسهم وشروحهم غالبا فيه وعليه﴾﴿ التبيان - الشيخ الطوسي - ج 1 - المقدمة ص 9﴾.
وعلى العموم بدا المحقق الحلي كسابقيه من حيث التجديد والتغيير وهذه السمة غالباً ما نراها في الفقهاء فكل فقيه ذاع صيته وعلا واشتهر على الالسن ذكره كان من أصحاب النظريات الجديدة والأقوال التي لم يسبقه أحد بالقول بها.
وإذا التزم أحد الفقهاء بما عليه السلف الصالح خمد ذكره ولا تكاد تجد له بصيص من أقواله وفتاويه وكأن التجديد والتغيير هو الشرط الوحيد لشهرة الفقيه في أي زمان من الازمنة حتى أصبح البقاء على ما عليه قدمائنا محطا للسخرية والاستهزاء إلا إذا أراد الفقيه ان يعلوا ذكره ويدنوا من العلياء أمره كان لزاما عليه التغيير والإتيان بما هو جديد على الاذهان سماعه .
لقد أحدث المحقق الحلي نقلة نوعية أخرى على صعيد الآراء الأصولية وقبل أن ندخل بتفاصيل ما ذكره المحقق علينا اولا أن نبين اللبس الذي وقع به السيد محمد باقر الصدر حين ذكر في كتابه المعالم الجديدة للأصول بأن المحقق الحلي هو أول فقيه قال بانه من أهل الإجتهاد بمعناه الجديد كما يفترض السيد الصدر وذلك في قوله : ﴿ولا يوجد لدينا الآن نص شيعي يعكس هذا التطور أقدم تأريخا من كتاب المعارج للمحقق الحلي المتوفى سنة ﴿676) - المعالم الجديدة للأصول - السيد محمد باقر الصدر - ص 26﴾
وهذا الكلام غير صحيح بالمرة فإننا نجد السيد المرتضى قد اعلنها صراحة قبل أن يقولها المحقق الحلي بأكثر من 250 سنة تقريبا حيث ذكر المرتضى بانه من أهل الإجتهاد وهو اقدم قول شيعي في اعقاب الغيبة - ان تجاوزنا الشيخين أبن أبي عقيل العماني وأبن الجنيد لعدم توفر مصنفاتهم في وقتنا الحاضر - وليس كما يقول السيد محمد باقر الصدر في كتابه المذكور واليك نص ما قاله السيد المرتضى في كتابه الذريعة : ﴿ وليس يمتنع أن يكون قولنا أهل الإجتهاد - إذا أطلق - محمولا بالعرف على من عول على الظنون والامارات في إثبات الأحكام الشرعية ، دون من لم يرجع إلا إلى الأدلة والعلوم ﴾﴿ الذريعة - أصول فقه - السيد المرتضى - ج 2 - ص 672
وبهذا القول الذي اطلقة السيد المرتضى يثبت لدينا بانه اقدم قول شيعي وهو يسبق ما ذكره السيد الصدر بأكثر من قرنين من الزمان وبهذا نرجوا ممن اقتفى اثر السيد الصدر ان يراجع أكثر وان يُجهد نفسه بالبحث والتقصي في امور الدين ولا يعتمد على قول الرجال مهما بلغوا في العلم والمعرفة فهنالك الكثير من الفقهاء ممن وقع في الغلط جراء اعتماده على أقوال الرجال كما وقع العديد من الفقهاء بالغلط اعتمادا على الأحاديث التي صنفها الشيخ الطوسي وقد بينا ما قاله الشيخ البحراني عما عليه كتب الشيخ من الغلط والتحريف والنقصان .
وعلى العموم فإن كلمات المحقق الحلي كثيرة لا يمكن التوقف عليها وبحثها بحثا علميا في هذا السفر البسيط إلا أن جل ما يهمنا هو ما قاله في الباب التاسع من كتابه معارج الأصول حيث سماه ﴿في الإجتهاد﴾ وراح في الفصل الأول يطلق عدة مسائل وذكر في المسألة الاولى في حقيقة الإجتهاد حيث اخذ يعرف الإجتهاد قائلاً : ﴿ الإجتهاد : افتعال من الجهد ... وهو في عرف الفقهاء : بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع إجتهادا ، لأنها تبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر ، وسواءً كان ذلك الدليل قياسا أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الإجتهاد.
فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون الإمامية من أهل الإجتهاد .
قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه ايهام من حيث أن القياس من جملة الإجتهاد ، فإذا استثنى القياس كنا من أهل الإجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس ﴾﴿ - معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 179
إن أصل التعريف الذي ذكره المحقق الحلي نابع من منابع المخالفين لمدرسة أهل البيت (ع) فقد ذكره الغزالي المتوفى سنة 505 هـ والذي سبق المحقق الحلي بأكثر من قرن من الزمان تعريف الإجتهاد قائلاً : ﴿ في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة﴾﴿ - المستصفى - ج2 - ص350﴾.
ولا يخفى نسبة التشابه في التعريف وقد ذكر العديد من فقهاء المخالفين تعريف الإجتهاد بألفاظ مختلفة ذكرنا بعضها فيما سبق .
إننا حين نذكر قاعدة أو نذكر تعريفاً لشيء ما يجب علينا أن نبين مصدر التعريف لكي لا يشتبه على الناس الأمر فيعتقدون ان هذا التعريف وارد عن مسلك صحيح خصوصاً إذا تحقق عند المتلقي حسن الظن بناقل التعريف أو القاعدة وهذا ما هو حاصل عند الإمامية في المحقق الحلي ، ولكن الذي يجب علينا تبيانه باننا غير مخولين باخذ شيء من أصول المخالفين وقواعدهم فقد عد الأئمة (ع) تلك الأصول والقواعد من الخبائث التي حرموها على شيعتهم ومواليهم ولا يسعنا الإتيان بتلك الخبائث خصوصاً إذا علمنا بأن هذا التعريف لم يرد في شيء من الأخبار على الإطلاق فما هو وجه الصحة في اخذ هذا التعريف من أقوال المخالفين وقد جاء عن أمير المؤمنين (ع) في وصيته لكميل أبن زياد قال : ﴿ ... يا كميل ! هي نبوة ورسالة وامامة ، وليس بعد ذلك إلا موالين متبعين ، أو مبتدعين ، إنما يتقبل الله من المتقين ، يا كميل ! لا تأخذ إلا عنا تكن منا﴾﴿ وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 30﴾.
وجاء عن المفضل بن عمر قال: قال الصادق (ع): ﴿كذب من زعم أنه من شيعتنا وهو متمسك بعروة غيرنا﴾﴿ - صفات الشيعة - الشيخ الصدوق - ص 3
﴾ .
وهذا من جهة التعريف اما من جهة التطبيق لهذا التعريف فقد ذكر المحقق ان عملية الإجتهاد تبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص سواءً كانت هذه الاعتبارات مبنية على القياس أو غيره ثم قال المحقق بأن الإمامية من أهل الإجتهاد إلا أن هذا الإجتهاد مستثنى منه القياس وهذا حد قوله ولنا في قوله نقاش :
إن هذه الاعتبارات النظرية إذا جاء بها اثر في أقوال أصحاب العصمة (ع) فلا اعتراض عليها كما هو الحال في الأصول التي ذكرها الأئمة (ع)لأصحابهم والتي ذكرناها في بحثنا هذا أما إذا كانت هذه الاعتبارات لا دليل عليها في اثار الأئمة (ع) فلا يمكن الاحتجاج بها إطلاقاً، فلا صحة في الذي لم يخرج منهم (ع).
ولا يخفى على من اطلع على أصول الفقهاء الإمامية يجد الكثير منها مما اخذ عن مدارس المخالفين والتي لا دليل على صحتها في كتب القدماء بل لم تذكر أساساً .
اما ما ذهب إليه في قوله بأن الإمامية من أهل الإجتهاد فهذا أيضاً مما لا دليل عليه اما قوله بأن إجتهاد الإمامية مستثنى منه القياس فهو مردود لعمل المحقق الحلي نفسه بالقياس باعتباره دليلاً بل ان السابقين له قد عدوه من الأدلة وكما مر ذكره اما ما ذكره المحقق فهو قوله : ﴿في القياس ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : القياس في الوضع : هو المماثلة . وفى الاصطلاح : عبارة عن الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت لمعلوم آخر ، لتساويهما في علة الحكم . فموضع الحكم المتفق عليه يسمى : أصلاً . وموضع الحكم المختلف فيه يسمى : فرعا . والعلة : هي الجامع الموجب لاثبات مثل حكم الأصل في الفرع ، فإن كانت العلة معلومة ، ولزوم الحكم لها معلوما من حيث هي ، كانت النتيجة علمية ، ولا نزاع في كون مثل ذلك دليلاً ...
المسألة الثانية : النص على علة الحكم وتعليقه عليها مطلقا ، يوجب ثبوت الحكم ان ثبتت العلة ، كقوله : الزنا يوجب الحد ، والسرقة توجب القطع . أما إذا حكم في شيء بحكم ثم نص على علته فيه : فإن نص مع ذلك على تعديته وجب ، وان لم ينص ، لم يجب تعدية الحكم الا مع القول بكون القياس حجة﴾﴿ معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 182-183
ثم قال في المسألة الرابعة : ﴿ الجمع بين الأصل والفرع قد يكون بعدم الفارق ، ويسمى : تنقيح المناط . فإن علمت المساواة من كل وجه ، جاز تعدية الحكم إلى المساوي ، وان علم الامتياز أو جوز ، لو تجز التعدية الا مع النص على ذلك ، لجواز اختصاص الحكم بتلك المزية ، وعدم ما يدل على التعدية . وقد يكون الجمع بعلة موجودة في الأصل والفرع ، فيغلب على الظن ثبوت الحكم في الفرع ، ولا يجوز تعدية الحكم - والحال هذه - بما سندل عليه . فإن نص الشارع على العلة ، وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم ، جاز تعدية الحكم ، وكان ذلك برهانا﴾﴿- معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 185﴾. ﴾.
لقد اقر المحقق هذا الأنواع من القياس والتي هو ﴿القياس في الوضع﴾ وكذلك القياس الثاني والذي حدده فيما إذا كانت العلة منصوص عليها ما يسمى عند الفقهاء بقياس منصوص العلة والنوع الثالث والذي هو تنقيح المناط وهذه الأنواع من القياس واضحة البطلان كما سياتي في مبحث القياس عند الإمامية كما انها من الأنواع التي احتج بها المخالفون وعملوا بها وصنفوها في كتبهم، وان خير رد يرد به عليه هو ما ورد عن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى (ع) عن القياس فقال : ﴿مالكم والقياس إن الله لا يسأل كيف أحل وكيف حرم﴾﴿ - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 57﴾.
فإذا كان الله لا يسال كيف احل وكيف حرم فلا سبيل لنا لمعرفة العلل في الأحكام أما إذا ورد في النص تحديداً للعلة فلا يمكننا تحديد وضعيتها المناسبة في ذلك، وخير مثال هو ان العلة في وقوع العدة على المطلقة أو الارملة هو عدم اختلاط الماء وقد حدد الشرع هذه المسألة علة لمسألة العدة إلا أن المراة التي هجرها زوجها لاعوام أو التي زوجها كان في الاسر على سبيل المثال وعلمت بوفاته بعد سنين أو المراة العقيمة أو التي بلغت سن الياس من الحمل والانجاب وغيرها من الحالات ففي هذه الحالات كلها تكون المرأة ملزمة بالعدة فاين ذهبت العلة التي اقرها الشرع يا ترى ؟
هنالك الكثير من الأحكام التي وضعها الله لعباده فعرّف جانب من العلة إلا إنه سبحانه اخفى عن عباده جوانب أخرى كما انه قد اخفى الكثير من العلل التي دعت إلى وضع الكثير من الأحكام الشرعية ونحن كمسلمين متبعين لا يسعنا في ذلك الا التعبد بهذه الأحكام الإلهية .
لقد بين أئمة أهل البيت (ع) بطلان كل أنواع القياس التي تستخدم في نفس الأحكام الشرعية ولا توجد رواية أو خبر يذكر إستثناء أحد هذه الأنواع بل انهم (ع) اخبروا شيعتهم بتحريم كل أنواع القياس فقد جاء عن أبي شيبة الخراساني قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : ﴿إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا ، وإن دين الله لا يصاب بالمقاييس ﴾﴿وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 43
ولا يخفى بأن كلمة المقاييس هي جمع قياس وهذا يدل على تحريم كل أنواع القياس في نفس الأحكام الشرعية بقول مطلق .
إن مسألة تحديد العلة في الأحكام الشريعة قد بين عدمها الشيخ المفيد وذلك في قوله الذي ذكره المحقق الحلي : ﴿ واحتج شيخنا المفيد ره لذلك أيضاً بأنه لا سبيل إلى علة الحكم في الأصل ، فلا سبيل إلى القياس ﴾﴿ - معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 184 ﴾﴾
إلا أن المحقق الحلي قال بعدم التسليم لقول الشيخ المفيد وذلك في قوله : ﴿والجواب عن احتجاج المفيد أن نقول : لا نسلم أنه لا سبيل إلى تحصيل علة الحكم ﴾﴿ - نفس المصدر السابق﴾
ولا نريد الاطالة في هذا المقام ولندع النقاش أكثر في أنواع القياس عند الإمامية إلى مبحث القياس إلا أن ما يجب بيانه هو ان المحقق قد استثنى من القياس المحرم بقول مطلق بعض أنواعه ولم يذكر في إستثنائه هذا دليل معتبرا من الكتاب والسُنة وقد بينا بأن هذا الإستثناء ممتنع في الأخبار وروده ولا يسعنا إلا التمسك بقول المعصوم وندع قول فاقدي العصمة مهما بلغوا في العلم والمقام بين الناس .
إن من العجائب الأخرى لأقوال المحقق الحلي هو مناقشته وتأييده في الظاهر لقول من قال بترجيح أحد الخبرين إذا وافق القياس أحدهما فيكون المرجح هو الخبر الذي يوافق القياس وذلك في قوله : ﴿ ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا ، وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضى ترجيح ذلك الخبر على معارضه . ويمكن أن يحتج لذلك : بأن الحق في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعين أن يعمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلا بد في العمل بأحدهما من مرجح ، ﴿والقياس مما يصلح﴾ أن يكون مرجحا ، لحصول الظن به فتعين العمل بما طابقه . لا يقال : أجمعنا على أن القياس مطرح في الشرع . لأنا نقول : بمعنى أنه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أنه لا يكون مرجحا لاحد الخبرين على الآخر ، وهذا لأن فائدة كونه مرجحا كونه دافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، ويكون العمل به ، لا بذلك القياس ، وفى ذلك نظر ﴾﴿ - معارج الأصول - المحقق الحلي - ص 186 -187
إن الرد على هذا الكلام لا يحتاج إلى
يتبع
تعليق