مرحلة إدعاء الفقهاء النيابة عن الإمام المهدي (ع)
بعد أن بينا في المبحث السابق الأحداث التي حصلت في تلك الحقبة الزمنية وما لها من التبعات على منهج المدرسة الإمامية نقول : ان الحركة الإجتهادية التي تزعم زمامها المحقق والعلامة استمرت بالتطور شيئاً فشيئاً على يد الفقهاء الذين تلو العلامة وكان من اشهر هؤلاء فخر الدين ﴿أبن العلامة الحلي﴾ المتوفى سنة 771 هـ والشهيد الأول المتوفى سنة 876 هـ والفاضل المقداد المتوفى سنة 826 هـ وأبن فهد الحلي المتوفى سنة 841 هـ وغيرهم ممن كانوا في هذه العصور والذين ساهموا بشكل فعال في تغيير العديد من القواعد والإتيان بقواعد جديدة على الفكر الإمامي من خلال قراءة الأحاديث والأخبار بقراءة أخرى، وكان هذا هو السبب الرئيسي في اختلافهم في الأصول، فكان كل فقيه يقرأ النص من زاوية فهمه ورأيه ولم تكن هنالك ضوابط لفهم النصوص ولعل أكثر التغيير الذي بدى واضحا في قراءة النصوص كان في زمن المحقق الثاني الشيخ علي بن الحسين الكركي المتوفى سنة 940 ه فقد بدأ هذا الشيخ بتفسير النصوص تفسيرا مغايرا لما عليه ثوابت السابقين حيث لم نشهد فقيهاً شيعياً أدعى النيابة عن الإمام المهدي (ع) بالمعنى المتعارف عليه سبق الشيخ الكركي ولم تكن هذه الدعوى بالأساس من الشيخ وإنما هي عبارة عن منصب حكومي منحه الشاه طهماسب للشيخ الكركي سنة 930 هـ .
ذكر المحقق البحراني في كتابه لؤلؤة البحرين المحقق الكركي في قوله : ﴿كان " المحقق " من علماء دولة الشاه طهماسب الصفوي ، جعل أمور المملكة بيده ، وكتب رقما إلى جميع الممالك بامتثال ما يأمر به الشيخ المذكور ، وأن أصل الملك إنما هو له، لأنه نائب الإمام عليه السلام، فكان الشيخ يكتب إلى جميع البلدان كتبا بدستور العمل في الخراج، وما ينبغي تدبيره في شؤون الرعية﴾﴿ لؤلؤ البحرين - ص 152
وكما ذكر ذلك محقق كتاب رسائل الكركي في قوله : ﴿ولما تولى الشاه طهماسب سنة 930 ه ، قرب المحقق الكركي ، ومنحه لقب نائب الإمام﴾﴿- جامع المقاصد - المحقق الكركي - ج 1 - تكملة مقدمة التحقيق- ص 31 - 32
وذكر الشيخ محمد الحسون محقق كتاب رسائل الكركي المناصب الحساسة التي كان يتقلدها المحقق الكركي منها : ﴿الأمير ، وشيخ الإسلام في أصفهان ، ونائب الإمام ، والمفتي ، ومروج المذهب ، وشيخ الإسلام في طهران . وشغل الكركي منصب شيخ الإسلام في أصفهان زمن الشاه إسماعيل الصفوي وعند تولي الشاه طهماسب سنة 930 ه تولى الكركي منصب نائب الإمام﴾﴿ - رسائل الكركي - المحقق الكركي - ج 1 - ص 28 ﴾ .
وقبل أن نناقش هذه المسائل نحب أن نبين بعض معالم رجال الدولة الصفوية فقد تبدلت الاوضاع في زمن الشاه إسماعيل الصفوي وأصبحت الدولة تحاول تقمص الشرعية الدينية فقد أدعى الشاه إسماعيل الصفوي بانه التقى بالإمام المهدي (ع) واخذ الاجازة منه بالحرب ضد التركمان الذين كانوا حكاما لايران آنذاك﴿ -تاريخ الشاه إسماعيل - ص 88
﴾. ولم يتوقف الشاه إسماعيل بهذه الدعوى فقط بل زاد في قوله حتى أدعى بانه نائب الله وخليفة الرسول والأئمة الاثني عشر وممثل الإمام المهدي في غيبته﴿ - إيران في العصر الصفوي - راجر سيوري - ص 26
وبعد أن تولى الشاه طهماسب أبن الشاه إسماعيل زمام الحكم تخلى عن منصب نائب الإمام المهدي (ع) الذي كان يدعيه والده ومنحه إلى الشيخ الكركي، والمحقق الكركي من جهته تقبل المنصب بكل رحابة صدر والعجيب انه أدعى بأن هذا المنصب متفق عليه عند الأصحاب وذلك في قوله : ﴿اتفق أصحابنا رضوان الله عليهم على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى ، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل - وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقا - فيجب التحاكم إليه ، والإنقياد إلى حكمه ، وله أن يبيع مال الممتنع من أداء الحق إن احتيج إليه ، ويلي أموال الغياب والأطفال والسفهاء والمفلسين ، ويتصرف على المحجور عليهم ، إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام ﴾﴿ - رسائل الكركي - المحقق الكركي - ج 1 - ص 142
نقول : إن هذا الاتفاق لا ينفع في شيء ان لم يكن هنالك نص معتبر على ما قالوا به وقد احتج المحقق الكركي برواية عمر بن حنظلة والتي اقتطع منها ما يفيد اثبات ما يدعيه حيث قال ما هذا نصه : ﴿والأصل فيه ما رواه الشيخ في التهذيب باسناد إلى عمر بن حنظلة ، عن مولانا الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال : ﴿ أنظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد ، وهو راد على الله ، وهو على حد الشرك بالله ﴾﴿- نفس المصدر السابق - ص 143
قبل أن نناقش متن الرواية نحب أن نبين بأن هذه الرواية ضعيفة عند الأصولين لمجهولية عمر بن حنظلة حيث قال أصحاب الرجال عنه ما هذا نصه : ﴿عمر بن حنظلة : العجلي يكنى أبا صخر كوفي - مجهول - من أصحاب الباقر والصادق ﴿ ع ﴾ ﴾﴿ - المفيد من معجم رجال الحديث - محمد الجواهري - ص 425 وقالوا أيضاً : ﴿ نسب للمشهور من الأصحاب عدم توثيق عمر بن حنظلة ولا الاعتداد به﴾﴿ - بحوث في فقه الرجال - تقرير بحث الفاني لمكي - ص 213﴾.
هذا من حيث السند علما بأن الأصوليون لا يقبلون الروايات الضعيفة في باب الطهارة والنجاسة فكيف قبلوا هذه الرواية ولقبوها بالمقبولة ؟!
أما إذا ناقشنا متنها فنقول : ان المحقق قد اقتطع صدر الرواية وإليكم النص الذي رواه الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام عن عمر بن حنظلة قال : ﴿سألت أبا عبد الله (ع)عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك ؟ فقال (ع): من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتاً لأنه اخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله عز وجل ان يكفر بها ، قلت : كيف يصنعان ؟ قال : انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله عز وجل﴾﴿ -تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 6 - ص 218
نقول: إن الراوي قد حدد نقطة النزاع بين الطرفين وهي ﴿الدَين والميراث﴾ والدَين هنا بفتح الدال وجمعه ديون وليس دين أي بمعنى الاعتقاد كما توهم البعض والذي جمعه أديان، فالامور التي وكل بها الراوي لحديث أهل البيت (ع) حل الخلافات فيما يتعلق بالدَين والميراث والدليل على ذلك هو بقية الرواية فإننا حين نتأمل ألفاظها وهو قوله (ع): ﴿من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتاً﴾.
وهذا ما يؤكد بأن النزاع يتعلق بأموال اما دَين أو ميراث كما ان قول الإمام (ع) يؤكد على مسألة الرجوع إلى راوي الحديث العالم بحلال أهل البيت (ع) وحرامهم وليس إلى المجتهد في الأحكام الشرعية كما يقول المحقق الكركي فإن المجتهد يخطئ ويصيب في أحكامه ولذلك فإن قوله لا يمكن الوثوق به ولا يمكن اعتباره من أقوال العترة الطاهرة (ع) لأن قول المجتهد في الأحكام الشرعية متأرجح بين الخطأ والصواب والشرط الذي وضعه الإمام الصادق (ع) للرجوع إلى الفقيه هو ان يكون ذلك الفقيه ممن قد روى حديث أهل البيت (ع) وعلم حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم وفي هذه الحالة يكون الرد على قوله رد على أهل البيت (ع) لأن قوله في حقيقة الأمر هو قول الأئمة (ع) لأنه راوي لحديثهم وليس قوله نابع من إجتهاده الشخصي فيجب التفريق بين المعنيين .
وبعد ما تقدم نحب أن نقول : إن مسألة النيابة عن الإمام المهدي (ع) لم يدعيها الفقهاء في بادئ الأمر ولكن صدرت عن بلاط السلاطين واهديت بعدها إلى الفقهاء كما تهدى الهدايا والعطايا وبعد أن تقلدها الفقهاء من السلاطين قاموا بتأويل المعاني لكي يضيفوا إليها شيئاً من الشرعية الدينية وهذا ما حصل بالضبط في زمن المحقق الكركي فقد تقلد منصب نائب الإمام المهدي (ع) من الشاه طهماسب بعد أن كان قد ادعاه الشاه إسماعيل والد الشاه طهماسب وكما مر ذكره .
إن هذا التغير الجوهري الذي حدث في زمن الدولة الصفوية لهو من المهازل الكبرى في تأريخنا الإسلامي فكيف يمكن ان يدعي شخصا النيابة عن الإمام المهدي (ع) معتمدا على رواية ضعيفة السند في الأصول الرجالية الذي يعتمدها هو، علاوة على كونها تتحدث عن نزاعات مالية بين شخصين وفيها تخصيص لحادثة معينة هي الدَين والميراث فكيف جاز لهم التعميم على غير هذا التخصيص، كما ان هذه الرواية بعيدة كل البعد عن ما يدعيه المحقق الكركي بل ان الفقهاء السابقين لم يذهبوا إلى ما ذهب إليه فهذا العلامة الحلي حين تعرض إلى مسألة صرف الزكاة في كتابه تحرير الأحكام قال : ﴿يجوز للمالك أن يتولى التفرقة بنفسه ، ويستحب صرفها إلى الإمام أو نائبه ، ولو تعذر ، صرفت إلى الفقيه المأمون من الإمامية ﴾﴿ - - تحرير الأحكام - العلامة الحلي - ج 1 - ص 430﴾.
وقول العلامة يفهم منه أن منصب النائب لم يكن موجودا بدليل قوله يستحب صرفها إلى الإمام أو نائبه ولو تعذر ذلك صرفت إلى الفقيه المامون فلم يعطي للفقيه النيابة عن الإمام المهدي (ع) فتأمل.
لقد أصبحت نيابة الإمام سلعة يهديها من يشاء لمن يشاء فبعد أن قبلها المحقق الكركي قام باعطاء الشاه طهماسب اجازة بحكم البلاد نيابة عن نائب الإمام المهدي (ع) كما يقول السيد نعمة الله الجزائري في كتابه شرح غوالي اللألئ ما هذا نصه : ﴿ لما قدم الشيخ الكركي إلى اصفهان وقزوين في عصر السلطان العادل طهماسب مكّنه من الملك والسلطان وقال له: أنت أحق بالملك لأنك النائب عن الإمام، وإنما أكون من عمالك، أقوم بأوامرك ونواهيك وقد أعطى الكركي الشاه طهماسب إجازة لحكم البلاد بالوكالة عن نفسه باعتباره نائبا عن الإمام المهدي، ولقبه الشاه بنائب الإمام وعينه ﴿شيخا للإسلام﴾ ﴾
وذكر صاحب رياض العلماء حال المحقق الكركي عند الشاه طهماسب ما هذا نصه : ﴿ واتصل بصحبة السلطان ﴿الشاه طهماسب الصفوي ثاني سلاطين الصفوية﴾ فكان معظما مبجلا في الغاية عند ذلك السلطان وقد عين له وظائف وادارات كثيرة ، حتى أنه قرر له سبعمائة تومانا في كل سنة بعنوان " السيور غال " في بلاد عراق العرب ، وكتب في ذلك حكماً وذكر فيه أسمه في نهاية الإجلال والإعظام ﴾﴿ - رياض العلماء - ج 3 - ص 441 ﴾.
إننا حين نقرأ هذا الكلام نعتصر حرقةً لمظلومية أهل البيت (ع) بشكل عام والإمام المهدي (ع) بشكل خاص فكيف يمكن ان يتصور العقل هذا الاستخفاف بمنصب النيابة عن الإمام المهدي (ع) حتى أصبحت بهذا الشكل المخزي الرخيص الذي يعطى كما تعطى المناصب الأخرى لمن يتقرب للسلاطين ، وكيف سكتت الإمامية على هذا الأمر وهم لم يشاهدوا أحداً من قدماء فقهاء الإمامية قد قال بهذا الكلام أو أدعى هكذا منصب .
وقد نقلنا ما ورد من الناحية المقدسة بحق الشيخ المفيد من الاطراء والمدح ولكنه رحمه الله لم يقل بهكذا أقوال ولم تنسب إليه أياً مما قاله المحقق الكركي وليس الأمر منحصرا بالشيخ المفيد بل لم يتجرأ أحد من الفقهاء على القول بانه نائب عن الإمام المهدي (ع) بالمعنى الذي ذهب إليه المحقق، كما ان موقف المحقق من السلاطين والرؤساء وتقربه إليهم فيه معارضة للنصوص الصريحة الوارد عن أئمة أهل البيت (ع) والتي تتحدث عن عدم إتباع السلاطين والتقرب إليهم، كما انها قد خصت الفقهاء على وجه الخصوص فقد ورد عن السكوني ، عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): ﴿الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا قيل يا رسول الله : وما دخولهم في الدنيا ؟ قال : إتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم﴾﴿ الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 46
وجاء عن أبان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ﴿يا معشر الأحداث ! اتقوا الله ولا تأتوا الرؤساء وغيرهم حتى يصيروا أذنابا ، لا تتخذوا الرجال ولائج من دون الله ، انا - والله - خير لكم منهم ، ثم ضرب بيده إلى صدره ﴾﴿ - وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 133
يتبع
بعد أن بينا في المبحث السابق الأحداث التي حصلت في تلك الحقبة الزمنية وما لها من التبعات على منهج المدرسة الإمامية نقول : ان الحركة الإجتهادية التي تزعم زمامها المحقق والعلامة استمرت بالتطور شيئاً فشيئاً على يد الفقهاء الذين تلو العلامة وكان من اشهر هؤلاء فخر الدين ﴿أبن العلامة الحلي﴾ المتوفى سنة 771 هـ والشهيد الأول المتوفى سنة 876 هـ والفاضل المقداد المتوفى سنة 826 هـ وأبن فهد الحلي المتوفى سنة 841 هـ وغيرهم ممن كانوا في هذه العصور والذين ساهموا بشكل فعال في تغيير العديد من القواعد والإتيان بقواعد جديدة على الفكر الإمامي من خلال قراءة الأحاديث والأخبار بقراءة أخرى، وكان هذا هو السبب الرئيسي في اختلافهم في الأصول، فكان كل فقيه يقرأ النص من زاوية فهمه ورأيه ولم تكن هنالك ضوابط لفهم النصوص ولعل أكثر التغيير الذي بدى واضحا في قراءة النصوص كان في زمن المحقق الثاني الشيخ علي بن الحسين الكركي المتوفى سنة 940 ه فقد بدأ هذا الشيخ بتفسير النصوص تفسيرا مغايرا لما عليه ثوابت السابقين حيث لم نشهد فقيهاً شيعياً أدعى النيابة عن الإمام المهدي (ع) بالمعنى المتعارف عليه سبق الشيخ الكركي ولم تكن هذه الدعوى بالأساس من الشيخ وإنما هي عبارة عن منصب حكومي منحه الشاه طهماسب للشيخ الكركي سنة 930 هـ .
ذكر المحقق البحراني في كتابه لؤلؤة البحرين المحقق الكركي في قوله : ﴿كان " المحقق " من علماء دولة الشاه طهماسب الصفوي ، جعل أمور المملكة بيده ، وكتب رقما إلى جميع الممالك بامتثال ما يأمر به الشيخ المذكور ، وأن أصل الملك إنما هو له، لأنه نائب الإمام عليه السلام، فكان الشيخ يكتب إلى جميع البلدان كتبا بدستور العمل في الخراج، وما ينبغي تدبيره في شؤون الرعية﴾﴿ لؤلؤ البحرين - ص 152
وكما ذكر ذلك محقق كتاب رسائل الكركي في قوله : ﴿ولما تولى الشاه طهماسب سنة 930 ه ، قرب المحقق الكركي ، ومنحه لقب نائب الإمام﴾﴿- جامع المقاصد - المحقق الكركي - ج 1 - تكملة مقدمة التحقيق- ص 31 - 32
وذكر الشيخ محمد الحسون محقق كتاب رسائل الكركي المناصب الحساسة التي كان يتقلدها المحقق الكركي منها : ﴿الأمير ، وشيخ الإسلام في أصفهان ، ونائب الإمام ، والمفتي ، ومروج المذهب ، وشيخ الإسلام في طهران . وشغل الكركي منصب شيخ الإسلام في أصفهان زمن الشاه إسماعيل الصفوي وعند تولي الشاه طهماسب سنة 930 ه تولى الكركي منصب نائب الإمام﴾﴿ - رسائل الكركي - المحقق الكركي - ج 1 - ص 28 ﴾ .
وقبل أن نناقش هذه المسائل نحب أن نبين بعض معالم رجال الدولة الصفوية فقد تبدلت الاوضاع في زمن الشاه إسماعيل الصفوي وأصبحت الدولة تحاول تقمص الشرعية الدينية فقد أدعى الشاه إسماعيل الصفوي بانه التقى بالإمام المهدي (ع) واخذ الاجازة منه بالحرب ضد التركمان الذين كانوا حكاما لايران آنذاك﴿ -تاريخ الشاه إسماعيل - ص 88
﴾. ولم يتوقف الشاه إسماعيل بهذه الدعوى فقط بل زاد في قوله حتى أدعى بانه نائب الله وخليفة الرسول والأئمة الاثني عشر وممثل الإمام المهدي في غيبته﴿ - إيران في العصر الصفوي - راجر سيوري - ص 26
وبعد أن تولى الشاه طهماسب أبن الشاه إسماعيل زمام الحكم تخلى عن منصب نائب الإمام المهدي (ع) الذي كان يدعيه والده ومنحه إلى الشيخ الكركي، والمحقق الكركي من جهته تقبل المنصب بكل رحابة صدر والعجيب انه أدعى بأن هذا المنصب متفق عليه عند الأصحاب وذلك في قوله : ﴿اتفق أصحابنا رضوان الله عليهم على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى ، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل - وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقا - فيجب التحاكم إليه ، والإنقياد إلى حكمه ، وله أن يبيع مال الممتنع من أداء الحق إن احتيج إليه ، ويلي أموال الغياب والأطفال والسفهاء والمفلسين ، ويتصرف على المحجور عليهم ، إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام ﴾﴿ - رسائل الكركي - المحقق الكركي - ج 1 - ص 142
نقول : إن هذا الاتفاق لا ينفع في شيء ان لم يكن هنالك نص معتبر على ما قالوا به وقد احتج المحقق الكركي برواية عمر بن حنظلة والتي اقتطع منها ما يفيد اثبات ما يدعيه حيث قال ما هذا نصه : ﴿والأصل فيه ما رواه الشيخ في التهذيب باسناد إلى عمر بن حنظلة ، عن مولانا الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال : ﴿ أنظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد ، وهو راد على الله ، وهو على حد الشرك بالله ﴾﴿- نفس المصدر السابق - ص 143
قبل أن نناقش متن الرواية نحب أن نبين بأن هذه الرواية ضعيفة عند الأصولين لمجهولية عمر بن حنظلة حيث قال أصحاب الرجال عنه ما هذا نصه : ﴿عمر بن حنظلة : العجلي يكنى أبا صخر كوفي - مجهول - من أصحاب الباقر والصادق ﴿ ع ﴾ ﴾﴿ - المفيد من معجم رجال الحديث - محمد الجواهري - ص 425 وقالوا أيضاً : ﴿ نسب للمشهور من الأصحاب عدم توثيق عمر بن حنظلة ولا الاعتداد به﴾﴿ - بحوث في فقه الرجال - تقرير بحث الفاني لمكي - ص 213﴾.
هذا من حيث السند علما بأن الأصوليون لا يقبلون الروايات الضعيفة في باب الطهارة والنجاسة فكيف قبلوا هذه الرواية ولقبوها بالمقبولة ؟!
أما إذا ناقشنا متنها فنقول : ان المحقق قد اقتطع صدر الرواية وإليكم النص الذي رواه الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام عن عمر بن حنظلة قال : ﴿سألت أبا عبد الله (ع)عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك ؟ فقال (ع): من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتاً لأنه اخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله عز وجل ان يكفر بها ، قلت : كيف يصنعان ؟ قال : انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله عز وجل﴾﴿ -تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 6 - ص 218
نقول: إن الراوي قد حدد نقطة النزاع بين الطرفين وهي ﴿الدَين والميراث﴾ والدَين هنا بفتح الدال وجمعه ديون وليس دين أي بمعنى الاعتقاد كما توهم البعض والذي جمعه أديان، فالامور التي وكل بها الراوي لحديث أهل البيت (ع) حل الخلافات فيما يتعلق بالدَين والميراث والدليل على ذلك هو بقية الرواية فإننا حين نتأمل ألفاظها وهو قوله (ع): ﴿من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتاً﴾.
وهذا ما يؤكد بأن النزاع يتعلق بأموال اما دَين أو ميراث كما ان قول الإمام (ع) يؤكد على مسألة الرجوع إلى راوي الحديث العالم بحلال أهل البيت (ع) وحرامهم وليس إلى المجتهد في الأحكام الشرعية كما يقول المحقق الكركي فإن المجتهد يخطئ ويصيب في أحكامه ولذلك فإن قوله لا يمكن الوثوق به ولا يمكن اعتباره من أقوال العترة الطاهرة (ع) لأن قول المجتهد في الأحكام الشرعية متأرجح بين الخطأ والصواب والشرط الذي وضعه الإمام الصادق (ع) للرجوع إلى الفقيه هو ان يكون ذلك الفقيه ممن قد روى حديث أهل البيت (ع) وعلم حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم وفي هذه الحالة يكون الرد على قوله رد على أهل البيت (ع) لأن قوله في حقيقة الأمر هو قول الأئمة (ع) لأنه راوي لحديثهم وليس قوله نابع من إجتهاده الشخصي فيجب التفريق بين المعنيين .
وبعد ما تقدم نحب أن نقول : إن مسألة النيابة عن الإمام المهدي (ع) لم يدعيها الفقهاء في بادئ الأمر ولكن صدرت عن بلاط السلاطين واهديت بعدها إلى الفقهاء كما تهدى الهدايا والعطايا وبعد أن تقلدها الفقهاء من السلاطين قاموا بتأويل المعاني لكي يضيفوا إليها شيئاً من الشرعية الدينية وهذا ما حصل بالضبط في زمن المحقق الكركي فقد تقلد منصب نائب الإمام المهدي (ع) من الشاه طهماسب بعد أن كان قد ادعاه الشاه إسماعيل والد الشاه طهماسب وكما مر ذكره .
إن هذا التغير الجوهري الذي حدث في زمن الدولة الصفوية لهو من المهازل الكبرى في تأريخنا الإسلامي فكيف يمكن ان يدعي شخصا النيابة عن الإمام المهدي (ع) معتمدا على رواية ضعيفة السند في الأصول الرجالية الذي يعتمدها هو، علاوة على كونها تتحدث عن نزاعات مالية بين شخصين وفيها تخصيص لحادثة معينة هي الدَين والميراث فكيف جاز لهم التعميم على غير هذا التخصيص، كما ان هذه الرواية بعيدة كل البعد عن ما يدعيه المحقق الكركي بل ان الفقهاء السابقين لم يذهبوا إلى ما ذهب إليه فهذا العلامة الحلي حين تعرض إلى مسألة صرف الزكاة في كتابه تحرير الأحكام قال : ﴿يجوز للمالك أن يتولى التفرقة بنفسه ، ويستحب صرفها إلى الإمام أو نائبه ، ولو تعذر ، صرفت إلى الفقيه المأمون من الإمامية ﴾﴿ - - تحرير الأحكام - العلامة الحلي - ج 1 - ص 430﴾.
وقول العلامة يفهم منه أن منصب النائب لم يكن موجودا بدليل قوله يستحب صرفها إلى الإمام أو نائبه ولو تعذر ذلك صرفت إلى الفقيه المامون فلم يعطي للفقيه النيابة عن الإمام المهدي (ع) فتأمل.
لقد أصبحت نيابة الإمام سلعة يهديها من يشاء لمن يشاء فبعد أن قبلها المحقق الكركي قام باعطاء الشاه طهماسب اجازة بحكم البلاد نيابة عن نائب الإمام المهدي (ع) كما يقول السيد نعمة الله الجزائري في كتابه شرح غوالي اللألئ ما هذا نصه : ﴿ لما قدم الشيخ الكركي إلى اصفهان وقزوين في عصر السلطان العادل طهماسب مكّنه من الملك والسلطان وقال له: أنت أحق بالملك لأنك النائب عن الإمام، وإنما أكون من عمالك، أقوم بأوامرك ونواهيك وقد أعطى الكركي الشاه طهماسب إجازة لحكم البلاد بالوكالة عن نفسه باعتباره نائبا عن الإمام المهدي، ولقبه الشاه بنائب الإمام وعينه ﴿شيخا للإسلام﴾ ﴾
وذكر صاحب رياض العلماء حال المحقق الكركي عند الشاه طهماسب ما هذا نصه : ﴿ واتصل بصحبة السلطان ﴿الشاه طهماسب الصفوي ثاني سلاطين الصفوية﴾ فكان معظما مبجلا في الغاية عند ذلك السلطان وقد عين له وظائف وادارات كثيرة ، حتى أنه قرر له سبعمائة تومانا في كل سنة بعنوان " السيور غال " في بلاد عراق العرب ، وكتب في ذلك حكماً وذكر فيه أسمه في نهاية الإجلال والإعظام ﴾﴿ - رياض العلماء - ج 3 - ص 441 ﴾.
إننا حين نقرأ هذا الكلام نعتصر حرقةً لمظلومية أهل البيت (ع) بشكل عام والإمام المهدي (ع) بشكل خاص فكيف يمكن ان يتصور العقل هذا الاستخفاف بمنصب النيابة عن الإمام المهدي (ع) حتى أصبحت بهذا الشكل المخزي الرخيص الذي يعطى كما تعطى المناصب الأخرى لمن يتقرب للسلاطين ، وكيف سكتت الإمامية على هذا الأمر وهم لم يشاهدوا أحداً من قدماء فقهاء الإمامية قد قال بهذا الكلام أو أدعى هكذا منصب .
وقد نقلنا ما ورد من الناحية المقدسة بحق الشيخ المفيد من الاطراء والمدح ولكنه رحمه الله لم يقل بهكذا أقوال ولم تنسب إليه أياً مما قاله المحقق الكركي وليس الأمر منحصرا بالشيخ المفيد بل لم يتجرأ أحد من الفقهاء على القول بانه نائب عن الإمام المهدي (ع) بالمعنى الذي ذهب إليه المحقق، كما ان موقف المحقق من السلاطين والرؤساء وتقربه إليهم فيه معارضة للنصوص الصريحة الوارد عن أئمة أهل البيت (ع) والتي تتحدث عن عدم إتباع السلاطين والتقرب إليهم، كما انها قد خصت الفقهاء على وجه الخصوص فقد ورد عن السكوني ، عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): ﴿الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا قيل يا رسول الله : وما دخولهم في الدنيا ؟ قال : إتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم﴾﴿ الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 46
وجاء عن أبان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ﴿يا معشر الأحداث ! اتقوا الله ولا تأتوا الرؤساء وغيرهم حتى يصيروا أذنابا ، لا تتخذوا الرجال ولائج من دون الله ، انا - والله - خير لكم منهم ، ثم ضرب بيده إلى صدره ﴾﴿ - وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 - ص 133
يتبع
تعليق