السلام على المظلوم الغريب العطشان
روي أنه لمّا ألقت سكينة بنفسها على جسده الشّريف، يوم الحادي عشر من المحرّم، وجعلت تنادي: أبه من الّذي قطع وريدك ، قالوا: لم تزل تنادي أبه يا أبه, ثمّ قالت:سمعت الصّوت يخرج من منحر والدي الحسين، وهو يقول: بنيّة سكينة، إقرأي شيعتي عنيّ السّلام، وقولي لهم: إنّ أبي قتل غريباً، فاندبوه، وذبح عطشاناً، فاذكروه".
شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني
أو سمعتم بغريب أو قتيل فاندبوني
فأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني
وبجرد الخيل بعد القتل عمداً سحقوني
ليتكم في يوم عاشورا جميعا تنظروني
كيف أستسقي لطفلي فأبوا أن يرحموني.
تحدث امرأة خولى: رأيت رأساً مخضباً بدمائه ينبعث منه النور إلى عنان السماء,صحت:يارأس أقسمت عليك
بحق محمد المصطفى وبحق علي المرتضى وبحق فاطمة الزهراء إلا أخبرتني من أنت,
تقول: ففتح الحسين شفتيه وقال:
" أمة الله أنا المظلوم أنا الغريب أنا العطشان
روي أن عبيد الله بن زياد - لعنه الله - بعد ما عرض عليه رأس الحسين ، دعا بخولي بن يزيد الأصبحي - لعنه الله - وقال له : خذ هذا الرأس حتى أسألك عنه .
فقال : سمعا وطاعة .
فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله ، وكان له امرأتان أحدهما ثعلبية ، والأخرى مضرية ، فدخل على المضرية ، فقالت : ما هذا ؟ فقال : هذا رأس الحسين بن علي ، وفيه ملك الدنيا .
فقالت له : أبشر ، فإن خصمك غدا جده محمد المصطفى ، ثم قالت : والله ! لا كنت لي ببعل ، ولا أنا لك بأهل ، ثم أخذت عمودا من حديد وأوجعت به دماغه .
فانصرف من عندها ، وأتى به إلى الثعلبية ، فقالت : ما هذا الرأس الذي معك ؟ قال : رأس خارجي خرج على عبيد الله بن زياد ، فقالت : وما اسمه ؟ فأبى أن يخبرها ما اسمه ، ثم تركه على التراب وجعله على إجانة . قال : فخرجت امرأته في الليل فرأت نورا ساطعا من الرأس إلى عنان السماء ، فجاءت إلى الإجانة فسمعت أنينا ، وهو يقرأ إلى طلوع الفجر ، وكان آخر ما قرأ : ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) ، وسمعت حول الرأس دويا كدوي الرعد ، فعلمت أنه تسبيح الملائكة .
فجاءت إلى بعلها ، وقالت : رأيت كذا وكذا ، فأي شيء تحت الإجانة ؟ ! فقال : رأس خارجي فقتله الأمير عبيد الله بن زياد - لعنه الله - وأريد أن أذهب به إلى يزيد بن معاوية - لعنه الله - ليعطيني عليه مالا كثيرا .
قالت : ومن هو ؟ قالت : ومن هو ؟ قال : الحسين بن علي ، فصاحت ، وخرت مغشية عليها ، فلما أفاقت ، قالت : يا ويلك ، يا شر المجوس ! لقد آذيت محمدا في عترته ، أما خفت من إله الأرض والسماء ، حيث تطلب الجائزة على رأس ابن سيدة نساء العالمين .
ثم خرجت من عنده باكية ، فلما قامت رفعت الرأس وقبلته ، ووضعته في حجرها ، وجعلت تقبله ، وتقول : لعن الله قاتلك ، وخصمه جدك المصطفى .
فلما جن الليل غلب عليها النوم ، فرأت كأن البيت قد انشق بنصفين ، وغشيه نور ، فجاءت سحابة بيضاء ، فخرج منها امرأتان ، فأخذتا الرأس من حجرها وبكتا .
قالت : فقلت لهما : بالله ، من أنتما ؟ ! قالت إحداهما : أنا خديجة بنت خويلد ، وهذه ابنتي فاطمة الزهراء ، ولقد شكرناك وشكر الله لك عملك ، وأنت رفيقتنا في درجة القدس في الجنة .
قال : فانتبهت من النوم والرأس في حجرها ، فلما أصبح الصبح جاء بعلها ، لأخذ الرأس ، فلم تدفعه إليه وقالت : ويلك طلقني ، فوالله ! لا جمعني وإياك بيت .
فقال : ادفعي لي الرأس ، وافعلي ما شئت ، فقالت : لا ، والله ! لا أدفعه إليك فقتلها ، وأخذ الرأس فعجل الله بروحها إلى الجنة ، جوار سيدة النساء .
عن أبي سعيد الشامي ، قال : كنت يوما مع الكفرة اللئام الذين حملوا الرؤوس والسبايا إلى دمشق ، فلما وصلوا إلى دير النصارى وقع بينهم أن نصر الخزاعي قد جمع عسكرا ويريد أن يهجم عليهم نصف الليل ، ويقتل الأبطال ، ويجندل الشجعان ، ويأخذ الرؤوس والسبايا ، فقال رؤساء العسكر من عظم اضطرابهم : نلجأ الليلة إلى الدير ونجعله كهفا لنا ، لأن الدير كان محكما لا يقدر أن يتسلط عليه العدو ، فوقف الشمر ( لعنه الله ) وأصحابه على باب الدير وصاح بأعلى صوته : يا أهل الدير ! فجاءه القسيس الكبير ، فلما رأى العسكر قال لهم : من أنتم ، وما تريدون ؟ فقال الشمر ( لعنه الله ) : نحن من عسكر عبيد الله بن زياد ، ونحن سائرون إلى الشام .
قال القسيس : لأي غرض ؟ قال : كان شخص في العراق قد تباغى وخرج على يزيد بن معاوية وجمع العساكر ، فبعث عسكرا عظيما فقتلوهم ، وهذه رؤوسهم ، وهذه النسوة سبيهم .
قال الراوي : فلما نظر القسيس إلى رأس الحسين وإذا بالنور ساطع منه إلى عنان السماء فوقع في قلبه هيبة منه ، فقال القسيس : ديرنا ما يسعكم ، بل ادخلوا الرؤوس والسبايا إلى الدير وأحيطوا بالدير من خارج ، فإذا دهمكم عدو قاتلوه ولا تكونوا مضطربين على الرؤوس والسبايا .
فاستحسنوا كلام القسيس وقالوا : هذه هو الرأي ، فحطوا رأس الحسين في صندوق وقفلوه وأدخلوه إلى الدير والنساء وزين العابدين ، وجعلوهم في مكان يليق بهم .
قال : ثم أن صاحب الدير أراد أن يرى الرأس الشريف ، وجعل ينظر حول البيت الذي فيه الصندوق ، وكان له رازونة ، فحط رأسه فيها ، فرأى البيت يشرق نورا ! ورأى أن سقف البيت قد انشق ونزل من السماء تخت عظيم ، وإذا بامرأة أحسن من الحور جالسة على التخت ، وإذا بشخص يصيح : أطرقوا ولا تنظروا ، وإذا قد خرج من ذلك البيت نساء ، وإذا هن حواء وسارة وأم إسماعيل وأم يوسف وأم موسى ومريم وآسية ونساء النبى .
قال : فأخرجن الرأس من الصندوق ، وكل من تلك النساء واحدة بعد واحدة يقبلن الرأس الشريف ، فلما وقعت النوبة لمولاتي فاطمة الزهراء غشي عليها وغشي على صاحب الدير ، وعاد لا ينظر بالعين بل يسمع الكلام ، وإذا بقائلة تقول : السلام عليك يا قتيل الأم ! السلام عليك يا مظلوم الأم ! السلام عليك يا شهيد الأم ! لا يتداخلك هم ولا غم ، وإن الله تعالى سيفرج عني ، وعنك يا بنى ! من ذا الذي فرق بين رأسك وجسدك ؟ يا بنى ! من ذا الذي قتلك وظلمك ؟ يا بنى ! من ذا الذي سبى حريمك ؟ يا بني ! من ذا الذي أيتم أطفالك ؟ ثم إنها بكت بكاء شديدا .
فلما سمع الديراني ذلك اندهش ووقع مغشيا عليه ، فلما أفاق نزل إلى البيت وكسر الصندوق واستخرج الرأس وغسله وحنطه بالكافور والمسك والزعفران ، ووضعه في قبلته ، وهو يبكي ويقول : يا رأس من رؤوس بني آدم ! ويا كريم ! ويا عظيم جميع من في العالم ! أظنك من الذين مدحهم الله في التوراة والإنجيل ، وأنت الذي أعطاك فضل التأويل ، لأن خواتين السادات من بني آدم في الدنيا والآخرة يبكين عليك ويندبنك ، أنا أريد أن أعرفك باسمك ونعتك .
فنطق الرأس بقدرة الله تعالى وقال : أنا المظلوم ، أنا المهموم ، أنا المغموم أنا الذي بسيف العدوان والظلم قتلت ، أنا الذي بحرب أهل البغى ظلمت ، أنا الذي على غير جرم نهبت ، أنا الذي من الماء منعت ، أنا الذي عن الأهل والأوطان بعدت .
فقال صاحب الدير : بالله عليك ، أيها الرأس ! زدني . فقال : إن كنت تسأل عن حسبي ونسبي ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن على المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا بن خديجة الكبرى ، أنا ابن العروة الوثقى ، أنا شهيد كربلاء ، أنا قتيل كربلاء ، أنا مظلوم كربلاء ، أنا عطشان كربلاء أنا ظمآن كربلاء ، أنا غريب كربلاء ، أنا وحيد كربلاء ، أنا سليب كربلاء ، أنا الذي خذلوني الكفرة بأرض كربلاء .
قال الراوي : فلما سمع صاحب الدير من رأس الحسين ذلك جمع تلامذته وحكى لهم الحكاية وكانوا سبعين رجلا ، فضجوا بالبكاء والعويل ، ورموا العمائم عن رؤوسهم ، وشقوا أزياقهم ، وجاؤا إلى سيدنا زين العابدين وقد قطعوا الزنار ، وكسروا الناقوس ، واجتنبوا فعل اليهود والنصارى ، وأسلموا على يديه ، وقالوا : يا ابن رسول الله ! مرنا أن نخرج إلى هؤلاء الكفار ونقاتلهم ونجلي صداء قلوبنا بهم ، ونأخذ بثار سيدنا ومولانا الحسين .
فقال لهم الإمام : لا تفعلوا ذلك فإنهم عن قريب ينتقم الله تعالى منهم ، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وفي رواية : أنه لما حمل رأسه إلى الشام جن عليهم الليل ، فنزلوا عند رجل من اليهود ، فلما شربوا وسكروا قالوا : عندنا رأس الحسين ! فقال : أروه لي ، فأروه وهو في الصندوق يسطع منه النور نحو السماء ! فتعجب منه اليهودي ، فاستودعه منهم وقال للرأس : اشفع لي عند جدك . فأنطق الله الرأس فقال : إنما شفاعتي للمحمديين ، ولست بمحمدي .
فجمع اليهودي أقرباءه ثم أخذ الرأس ، ووضعه في طست وصب عليه ماء الورد وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر ، ثم قال لأولاده وأقربائه : هذا رأس ابن بنت محمد .
ثم قال : يا لهفاه ! حيث لم أجد جدك محمدا فأسلم على يديه ، يالهفاه ! حيث لم أجدك حيا فأسلم على يديك وأقاتل بين يديك ، فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيمة ؟ فأنطق الله الرأس فقال بلسان فصيح : إن أسلمت فأنا لك شفيع .
قاله ثلاث مرات وسكت ، فأسلم الرجل وأقر باؤه .
روي لما جاؤوا برأس الحسين ، ونزلوا منزلا يقال له : قنسرين ، أطلع راهب من صومعته إلى الرأس ، فرأى نورا ساطعا يخرج من فيه ويصعد إلى السماء ! فأتاهم بعشرة آلاف درهم وأخذ الرأس ، وأدخله صومعته ، فسمع صوتا ولم ير شخصا ، قال : طوبى لك وطوبى لمن عرف حرمته ! فرفع الراهب رأسه وقال : يا رب ، بحق عيسى ! تأمر هذا الرأس بالتكلم معي . فتكلم الرأس وقال : يا راهب ! أي شيء تريد ؟ ! قال : من أنت ؟ قال : أنا ابن محمد المصطفى ، وأنا ابن علي المرتضى ، وأنا ابن فاطمة الزهراء ، وأنا المقتول بكربلاء ، أنا المظلوم ، أنا العطشان .
فسكت ، فوضع الراهب وجهه على وجهه فقال : لا أرفع وجهي عن وجهك حتى تقول : أنا شفيعك يوم القيامة ! فتكلم الرأس فقال : ارجع إلى دين جدي محمد .
فقال الراهب : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله .
فقبل له الشفاعة ، فلما أصبحوا أخذوا منه الرأس والدراهم ، فلما بلغوا الوادي نظروا الدراهم قد صارت حجارة .
وروي لما اجتز الشمر لعنه الله رأس الحسين أخذه وعلقه على فرسه ، فسمعت أذناي ، ونظرت عيناي ، ووعى قلبي ، ورأس الحسين يكلمه بلسان فصيح ، ويقول : يا شمر ! يا شقي الأشقياء ! يا عدو الله ورسوله ! فرقت بين رأسي وجسدي ، فرق الله بين لحمك وعظمك ، وجعلك نكالا للعالمين .
قال : فرفع اللعين سوطا كان بيده ولم يزل يضرب الرأس حتى سكت عن الكلام ، فقلت : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وأنا والله ! لا أستطيع قتال اللعين بن اللعين الذي يضرب رأس الحسين ، وليس بيدي سيف ولا كعب ولا رمح ولكن صبرت حتى يحكم الله تعالى ، وهو خير الحاكمين .
ثم حمل عمر بن سعد أسارى أهل البيت ، ورؤس الشهداء إلى الكوفة ، وكان رأس الحسين يقرأ القرآن في الكوفة وهو على الرمح .
روي عن زيد بن أرقم أنه قال : مر به علي ، وهو على رمح وأنا في غرفة لي ، فلما حاذاني سمعته يقرأ : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آيتنا عجبا ) ، فقف والله شعري ! وناديت : رأسك والله يا ابن رسول الله ! أعجب وأعجب .
روي أنه صلب رأس الحسين بالصيارف في الكوفة ، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله : ( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) فلم يزدهم ذلك إلا ضلالا .
وفي أثر : أنهم لما صلبوا رأسه على الشجرة سمع منه : ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) ، وسمع أيضا صوته بدمشق يقول : لا قوة إلا بالله . وسمع أيضا يقرأ : ( أم حسبت أن أصحب الكهف والرقيم كانوا من آيتنا عجبا ) ، فقال زيد بن أرقم : أمرك أعجب يا ابن رسول الله !
روى من حضر اليوم الذي ورد فيه رأس الحسين على ابن زياد لعنه الله قال : رأيت قد خرجت من القصر نار ، فقام عبيد الله بن زياد هاربا من سريره إلى أن دخل بعض البيوت ، وتكلم الرأس الشريف بصوت فصيح جهوري ، يسمعه ابن زياد ومن كان معه : إلى أين تهرب من النار ! ؟ يا ملعون ! لئن عجزت عنك في الدنيا فإنها في الآخرة مثواك ومصيرك .
قال : فوقع أهل القصر سجدا لما رأوا من رأس الحسين ، فلما ارتفعت النار سكت رأس الحسين !
روي أنه لمّا ألقت سكينة بنفسها على جسده الشّريف، يوم الحادي عشر من المحرّم، وجعلت تنادي: أبه من الّذي قطع وريدك ، قالوا: لم تزل تنادي أبه يا أبه, ثمّ قالت:سمعت الصّوت يخرج من منحر والدي الحسين، وهو يقول: بنيّة سكينة، إقرأي شيعتي عنيّ السّلام، وقولي لهم: إنّ أبي قتل غريباً، فاندبوه، وذبح عطشاناً، فاذكروه".
شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني
أو سمعتم بغريب أو قتيل فاندبوني
فأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني
وبجرد الخيل بعد القتل عمداً سحقوني
ليتكم في يوم عاشورا جميعا تنظروني
كيف أستسقي لطفلي فأبوا أن يرحموني.
تحدث امرأة خولى: رأيت رأساً مخضباً بدمائه ينبعث منه النور إلى عنان السماء,صحت:يارأس أقسمت عليك
بحق محمد المصطفى وبحق علي المرتضى وبحق فاطمة الزهراء إلا أخبرتني من أنت,
تقول: ففتح الحسين شفتيه وقال:
" أمة الله أنا المظلوم أنا الغريب أنا العطشان
روي أن عبيد الله بن زياد - لعنه الله - بعد ما عرض عليه رأس الحسين ، دعا بخولي بن يزيد الأصبحي - لعنه الله - وقال له : خذ هذا الرأس حتى أسألك عنه .
فقال : سمعا وطاعة .
فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله ، وكان له امرأتان أحدهما ثعلبية ، والأخرى مضرية ، فدخل على المضرية ، فقالت : ما هذا ؟ فقال : هذا رأس الحسين بن علي ، وفيه ملك الدنيا .
فقالت له : أبشر ، فإن خصمك غدا جده محمد المصطفى ، ثم قالت : والله ! لا كنت لي ببعل ، ولا أنا لك بأهل ، ثم أخذت عمودا من حديد وأوجعت به دماغه .
فانصرف من عندها ، وأتى به إلى الثعلبية ، فقالت : ما هذا الرأس الذي معك ؟ قال : رأس خارجي خرج على عبيد الله بن زياد ، فقالت : وما اسمه ؟ فأبى أن يخبرها ما اسمه ، ثم تركه على التراب وجعله على إجانة . قال : فخرجت امرأته في الليل فرأت نورا ساطعا من الرأس إلى عنان السماء ، فجاءت إلى الإجانة فسمعت أنينا ، وهو يقرأ إلى طلوع الفجر ، وكان آخر ما قرأ : ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) ، وسمعت حول الرأس دويا كدوي الرعد ، فعلمت أنه تسبيح الملائكة .
فجاءت إلى بعلها ، وقالت : رأيت كذا وكذا ، فأي شيء تحت الإجانة ؟ ! فقال : رأس خارجي فقتله الأمير عبيد الله بن زياد - لعنه الله - وأريد أن أذهب به إلى يزيد بن معاوية - لعنه الله - ليعطيني عليه مالا كثيرا .
قالت : ومن هو ؟ قالت : ومن هو ؟ قال : الحسين بن علي ، فصاحت ، وخرت مغشية عليها ، فلما أفاقت ، قالت : يا ويلك ، يا شر المجوس ! لقد آذيت محمدا في عترته ، أما خفت من إله الأرض والسماء ، حيث تطلب الجائزة على رأس ابن سيدة نساء العالمين .
ثم خرجت من عنده باكية ، فلما قامت رفعت الرأس وقبلته ، ووضعته في حجرها ، وجعلت تقبله ، وتقول : لعن الله قاتلك ، وخصمه جدك المصطفى .
فلما جن الليل غلب عليها النوم ، فرأت كأن البيت قد انشق بنصفين ، وغشيه نور ، فجاءت سحابة بيضاء ، فخرج منها امرأتان ، فأخذتا الرأس من حجرها وبكتا .
قالت : فقلت لهما : بالله ، من أنتما ؟ ! قالت إحداهما : أنا خديجة بنت خويلد ، وهذه ابنتي فاطمة الزهراء ، ولقد شكرناك وشكر الله لك عملك ، وأنت رفيقتنا في درجة القدس في الجنة .
قال : فانتبهت من النوم والرأس في حجرها ، فلما أصبح الصبح جاء بعلها ، لأخذ الرأس ، فلم تدفعه إليه وقالت : ويلك طلقني ، فوالله ! لا جمعني وإياك بيت .
فقال : ادفعي لي الرأس ، وافعلي ما شئت ، فقالت : لا ، والله ! لا أدفعه إليك فقتلها ، وأخذ الرأس فعجل الله بروحها إلى الجنة ، جوار سيدة النساء .
عن أبي سعيد الشامي ، قال : كنت يوما مع الكفرة اللئام الذين حملوا الرؤوس والسبايا إلى دمشق ، فلما وصلوا إلى دير النصارى وقع بينهم أن نصر الخزاعي قد جمع عسكرا ويريد أن يهجم عليهم نصف الليل ، ويقتل الأبطال ، ويجندل الشجعان ، ويأخذ الرؤوس والسبايا ، فقال رؤساء العسكر من عظم اضطرابهم : نلجأ الليلة إلى الدير ونجعله كهفا لنا ، لأن الدير كان محكما لا يقدر أن يتسلط عليه العدو ، فوقف الشمر ( لعنه الله ) وأصحابه على باب الدير وصاح بأعلى صوته : يا أهل الدير ! فجاءه القسيس الكبير ، فلما رأى العسكر قال لهم : من أنتم ، وما تريدون ؟ فقال الشمر ( لعنه الله ) : نحن من عسكر عبيد الله بن زياد ، ونحن سائرون إلى الشام .
قال القسيس : لأي غرض ؟ قال : كان شخص في العراق قد تباغى وخرج على يزيد بن معاوية وجمع العساكر ، فبعث عسكرا عظيما فقتلوهم ، وهذه رؤوسهم ، وهذه النسوة سبيهم .
قال الراوي : فلما نظر القسيس إلى رأس الحسين وإذا بالنور ساطع منه إلى عنان السماء فوقع في قلبه هيبة منه ، فقال القسيس : ديرنا ما يسعكم ، بل ادخلوا الرؤوس والسبايا إلى الدير وأحيطوا بالدير من خارج ، فإذا دهمكم عدو قاتلوه ولا تكونوا مضطربين على الرؤوس والسبايا .
فاستحسنوا كلام القسيس وقالوا : هذه هو الرأي ، فحطوا رأس الحسين في صندوق وقفلوه وأدخلوه إلى الدير والنساء وزين العابدين ، وجعلوهم في مكان يليق بهم .
قال : ثم أن صاحب الدير أراد أن يرى الرأس الشريف ، وجعل ينظر حول البيت الذي فيه الصندوق ، وكان له رازونة ، فحط رأسه فيها ، فرأى البيت يشرق نورا ! ورأى أن سقف البيت قد انشق ونزل من السماء تخت عظيم ، وإذا بامرأة أحسن من الحور جالسة على التخت ، وإذا بشخص يصيح : أطرقوا ولا تنظروا ، وإذا قد خرج من ذلك البيت نساء ، وإذا هن حواء وسارة وأم إسماعيل وأم يوسف وأم موسى ومريم وآسية ونساء النبى .
قال : فأخرجن الرأس من الصندوق ، وكل من تلك النساء واحدة بعد واحدة يقبلن الرأس الشريف ، فلما وقعت النوبة لمولاتي فاطمة الزهراء غشي عليها وغشي على صاحب الدير ، وعاد لا ينظر بالعين بل يسمع الكلام ، وإذا بقائلة تقول : السلام عليك يا قتيل الأم ! السلام عليك يا مظلوم الأم ! السلام عليك يا شهيد الأم ! لا يتداخلك هم ولا غم ، وإن الله تعالى سيفرج عني ، وعنك يا بنى ! من ذا الذي فرق بين رأسك وجسدك ؟ يا بنى ! من ذا الذي قتلك وظلمك ؟ يا بنى ! من ذا الذي سبى حريمك ؟ يا بني ! من ذا الذي أيتم أطفالك ؟ ثم إنها بكت بكاء شديدا .
فلما سمع الديراني ذلك اندهش ووقع مغشيا عليه ، فلما أفاق نزل إلى البيت وكسر الصندوق واستخرج الرأس وغسله وحنطه بالكافور والمسك والزعفران ، ووضعه في قبلته ، وهو يبكي ويقول : يا رأس من رؤوس بني آدم ! ويا كريم ! ويا عظيم جميع من في العالم ! أظنك من الذين مدحهم الله في التوراة والإنجيل ، وأنت الذي أعطاك فضل التأويل ، لأن خواتين السادات من بني آدم في الدنيا والآخرة يبكين عليك ويندبنك ، أنا أريد أن أعرفك باسمك ونعتك .
فنطق الرأس بقدرة الله تعالى وقال : أنا المظلوم ، أنا المهموم ، أنا المغموم أنا الذي بسيف العدوان والظلم قتلت ، أنا الذي بحرب أهل البغى ظلمت ، أنا الذي على غير جرم نهبت ، أنا الذي من الماء منعت ، أنا الذي عن الأهل والأوطان بعدت .
فقال صاحب الدير : بالله عليك ، أيها الرأس ! زدني . فقال : إن كنت تسأل عن حسبي ونسبي ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن على المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا بن خديجة الكبرى ، أنا ابن العروة الوثقى ، أنا شهيد كربلاء ، أنا قتيل كربلاء ، أنا مظلوم كربلاء ، أنا عطشان كربلاء أنا ظمآن كربلاء ، أنا غريب كربلاء ، أنا وحيد كربلاء ، أنا سليب كربلاء ، أنا الذي خذلوني الكفرة بأرض كربلاء .
قال الراوي : فلما سمع صاحب الدير من رأس الحسين ذلك جمع تلامذته وحكى لهم الحكاية وكانوا سبعين رجلا ، فضجوا بالبكاء والعويل ، ورموا العمائم عن رؤوسهم ، وشقوا أزياقهم ، وجاؤا إلى سيدنا زين العابدين وقد قطعوا الزنار ، وكسروا الناقوس ، واجتنبوا فعل اليهود والنصارى ، وأسلموا على يديه ، وقالوا : يا ابن رسول الله ! مرنا أن نخرج إلى هؤلاء الكفار ونقاتلهم ونجلي صداء قلوبنا بهم ، ونأخذ بثار سيدنا ومولانا الحسين .
فقال لهم الإمام : لا تفعلوا ذلك فإنهم عن قريب ينتقم الله تعالى منهم ، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وفي رواية : أنه لما حمل رأسه إلى الشام جن عليهم الليل ، فنزلوا عند رجل من اليهود ، فلما شربوا وسكروا قالوا : عندنا رأس الحسين ! فقال : أروه لي ، فأروه وهو في الصندوق يسطع منه النور نحو السماء ! فتعجب منه اليهودي ، فاستودعه منهم وقال للرأس : اشفع لي عند جدك . فأنطق الله الرأس فقال : إنما شفاعتي للمحمديين ، ولست بمحمدي .
فجمع اليهودي أقرباءه ثم أخذ الرأس ، ووضعه في طست وصب عليه ماء الورد وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر ، ثم قال لأولاده وأقربائه : هذا رأس ابن بنت محمد .
ثم قال : يا لهفاه ! حيث لم أجد جدك محمدا فأسلم على يديه ، يالهفاه ! حيث لم أجدك حيا فأسلم على يديك وأقاتل بين يديك ، فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيمة ؟ فأنطق الله الرأس فقال بلسان فصيح : إن أسلمت فأنا لك شفيع .
قاله ثلاث مرات وسكت ، فأسلم الرجل وأقر باؤه .
روي لما جاؤوا برأس الحسين ، ونزلوا منزلا يقال له : قنسرين ، أطلع راهب من صومعته إلى الرأس ، فرأى نورا ساطعا يخرج من فيه ويصعد إلى السماء ! فأتاهم بعشرة آلاف درهم وأخذ الرأس ، وأدخله صومعته ، فسمع صوتا ولم ير شخصا ، قال : طوبى لك وطوبى لمن عرف حرمته ! فرفع الراهب رأسه وقال : يا رب ، بحق عيسى ! تأمر هذا الرأس بالتكلم معي . فتكلم الرأس وقال : يا راهب ! أي شيء تريد ؟ ! قال : من أنت ؟ قال : أنا ابن محمد المصطفى ، وأنا ابن علي المرتضى ، وأنا ابن فاطمة الزهراء ، وأنا المقتول بكربلاء ، أنا المظلوم ، أنا العطشان .
فسكت ، فوضع الراهب وجهه على وجهه فقال : لا أرفع وجهي عن وجهك حتى تقول : أنا شفيعك يوم القيامة ! فتكلم الرأس فقال : ارجع إلى دين جدي محمد .
فقال الراهب : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله .
فقبل له الشفاعة ، فلما أصبحوا أخذوا منه الرأس والدراهم ، فلما بلغوا الوادي نظروا الدراهم قد صارت حجارة .
وروي لما اجتز الشمر لعنه الله رأس الحسين أخذه وعلقه على فرسه ، فسمعت أذناي ، ونظرت عيناي ، ووعى قلبي ، ورأس الحسين يكلمه بلسان فصيح ، ويقول : يا شمر ! يا شقي الأشقياء ! يا عدو الله ورسوله ! فرقت بين رأسي وجسدي ، فرق الله بين لحمك وعظمك ، وجعلك نكالا للعالمين .
قال : فرفع اللعين سوطا كان بيده ولم يزل يضرب الرأس حتى سكت عن الكلام ، فقلت : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وأنا والله ! لا أستطيع قتال اللعين بن اللعين الذي يضرب رأس الحسين ، وليس بيدي سيف ولا كعب ولا رمح ولكن صبرت حتى يحكم الله تعالى ، وهو خير الحاكمين .
ثم حمل عمر بن سعد أسارى أهل البيت ، ورؤس الشهداء إلى الكوفة ، وكان رأس الحسين يقرأ القرآن في الكوفة وهو على الرمح .
روي عن زيد بن أرقم أنه قال : مر به علي ، وهو على رمح وأنا في غرفة لي ، فلما حاذاني سمعته يقرأ : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آيتنا عجبا ) ، فقف والله شعري ! وناديت : رأسك والله يا ابن رسول الله ! أعجب وأعجب .
روي أنه صلب رأس الحسين بالصيارف في الكوفة ، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله : ( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) فلم يزدهم ذلك إلا ضلالا .
وفي أثر : أنهم لما صلبوا رأسه على الشجرة سمع منه : ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) ، وسمع أيضا صوته بدمشق يقول : لا قوة إلا بالله . وسمع أيضا يقرأ : ( أم حسبت أن أصحب الكهف والرقيم كانوا من آيتنا عجبا ) ، فقال زيد بن أرقم : أمرك أعجب يا ابن رسول الله !
روى من حضر اليوم الذي ورد فيه رأس الحسين على ابن زياد لعنه الله قال : رأيت قد خرجت من القصر نار ، فقام عبيد الله بن زياد هاربا من سريره إلى أن دخل بعض البيوت ، وتكلم الرأس الشريف بصوت فصيح جهوري ، يسمعه ابن زياد ومن كان معه : إلى أين تهرب من النار ! ؟ يا ملعون ! لئن عجزت عنك في الدنيا فإنها في الآخرة مثواك ومصيرك .
قال : فوقع أهل القصر سجدا لما رأوا من رأس الحسين ، فلما ارتفعت النار سكت رأس الحسين !
تعليق