الصبر هو أم الفضائل، و أصل مكارم الأخلاق، و منه تتفرع كل موهبة و مكرمة فكما أن الحي القيوم أم الأسماء الحسنى و منهما تتفرع سائرها، كذلك يكون الصبر، فهو حقيقة المقاومة مع المكاره و الشهوات و المشتهيات، و الاستقامة مع ما يرتضيه العقل و الشرع من محاسن الأخلاق، و الوصول إلى المعارف و الكمالات، و المواظبة على الواجبات و ترك المحرمات
و قد اعتنى اللّه تعالى به اعتناء بليغا، فقد وردت مادة (ص ب ر) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة موضع، و لم يرد فضيلة أكثر ذكرا منه فيه، و قد تكرر الأمر به، قال تعالى: وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سورة هود، الآية: 115]، و قال جل شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران، الآية: 200]، و قال عزّ و جل: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [سورة غافر، الآية: 55]. و ورد الأمر بالاستعانة به في قوله تعالى: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 153
و الاستعانة بالصبر في الأمور التكوينية استعانة بأسبابها الظاهرية و المعنوية، و كلها ترجع إلى مراعاة حصول المسببات عند حصول أسبابها المقتضية لها، و استنتاج النتائج من المقدمات المعدة لها، و ترك المبادرة الى نقض هذا الأمر العقلي النظامي، فإنه يؤدي إلى خلاف المطلوب.
و في الأمور الاختيارية فهو إما على ما تكره النفس، أو على ما تحبه، و الأول عبارة عن مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها و ثباتها في مقابلها، و عدم تأثرها، و عدم انفعالها، و قد يعبر عن ذلك بالشجاعة وسعة الصدر أيضا. و الثاني عبارة عن مقاومة النفس لمدافعة القوى الشهوانية و الغلبة عليها بالعقل و الفكر، و كل ذلك من الحكمة العملية التي اهتم الفلاسفة، و علماء الأخلاق بشرحها
فما ورد في السنة المقدسة من «أن الصبر مفتاح الفرج مطابق للقاعدة العقلية، لأنه دخول في الشيء من أحسن أبوابه
و قد أشار نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الى عظيم منزلته لما سئل عن الإيمان، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «هو الصبر
كما جعله جزء الإيمان، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «الإيمان نصفان فنصف صبر، و نصف شكر
و قال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما أعطي أحد عطاء خيرا له و أوسع من الصبر
و عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فمن لا صبر له لا إيمان له
و الصبر من صفات الأنبياء و المرسلين الذين أمرنا بالاقتداء بفعلهم و الاهتداء بهديهم، قال تعالى مخاطبا للرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [سورة الأحقاف، الآية: 35]، و قال جلّ شأنه: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا [سورة الأنعام، الآية: 34]، و قال تعالى : ( وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنبياء، الآية 85
و قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ [سورة السجدة، الآية: 24]، فكما أن الصبر من أهم مقومات حياتهم (عليهم السلام) فهو من أقوى محققات شؤونهم، فما بعث اللّه تعالى نبيا و لا أرسل رسولا، بل و لم يفض علما على عالم إلّا و كان الصبر أليفه حتّى صار النصر حليفه، و قد تحمل من المشاق حتّى صار شهير الآفاق، و ذلك من سنة اللّه: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [سورة الفتح، الآية: 23
و قد عدّ الصبر في السنّة المقدسة من جنود العقل و ضده من جنود الجهل، فهو من حيث كونه من جنود العقل له دخل في نظام التكوين، و من حيث إنه الإيمان، أو جزء الإيمان له دخل في نظام التشريع فهو جامع للمنزلتين، و حائز للدرجتين، فله دخل في الأمور الطبيعية فإن مراتب استكمالها لا تتم إلّا بالتدرج و عدم العجلة- و إن لم يصح إطلاق الصبر بالمعنى المعهود عليها- و لذلك ترى أن بذور النباتات و الأشجار لا تصل إلى مرتبة الكمال إلّا بالتدرج
و قد ورد في الحديث: أن ذكر ستة أيام في خلق السموات و الأرض إنما كان لتعليم العباد التأني و الصبر، و إلّا فهو قادر على خلقهنّ في أقل من ذلك فهو من أهم موجبات تحقق المقاصد و الظفر بالمطلوب إن توفرت بقية الشرائط،
قال علي (عليه السلام): «لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمان
فليس للصابر إلّا أن يظفر بالمقصود، أو بما أعدّه اللّه تعالى له من الأجر المحمود
و تقدم في تعريف الصبر أنه: حبس النفس عن الهوى مع مراعاة تكليف المولى، بل يمكن تعريفه بالمعنى العام ليشمل صبر الواجب و الممكن، و أنواعه و أقسامه، بأن يقال: «هو تقدير الشيء بالنحو الأتم على ما يناسب النظام الأحسن نوعيا كان أو شخصيا» فيشمل صبر الواجب، حيث أطلق الصبور عليه تعالى في الأسماء الحسنى على ما روي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و ما ورد في الحديث القدسي،
و في الحديث: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللّه عزّ و جل
و في دعاء المجير و غيره «يا صابر»، فإنه يتفرع منه الحلم و العفو، و الرفق و المداراة كل ذلك متشعب عن الصبر المختلف باختلاف الخصوصيات و الجهات، فيختلف معناه كذلك فلا نحتاج إلى تفسير الصبر فيه تعالى بالمعنى العدمي، أي عدم التعجيل في عقوبة العصاة، كما عن جمع من المفسرين و اللغويين
و الصبر في الإنسان قد يكون من طبيعته و جبلته فإننا نرى أن بعض الأفراد يصبر على ما يرد عليه من المكاره و يتحمل من المشاق ما لا يقدر غيره على تحملها. و قد يكون بالاكتساب و المصابرة، و هذا أفضل من القسم الأول، و هو موضوع منازل السائرين إلى اللّه تعالى في سيرهم و سلوكهم، و أهم عمادهم في التخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل و التجلية بالتخلق بأخلاق اللّه تعالى، و بقية الدرجات من الفناء و الطمس، و المحو، و المحق و غيرها مما شرحه أهل الفلسفة العملية و العرفاء
كما أن الصبر عن الشيء تارة يكون مع وجود المقتضي و فقد المانع خارجا، و أخرى مع الميل النفساني و عدم المقتضي، و ثالثة مع الميل و وجود المانع، و تختلف مراتب فضل الصبر باختلاف هذه المراتب
و للصبر أنواع و أفراد كثيرة كلها من الفضائل، و لكل فرد اسم خاص به، و ضد مختص به، فيسمى الصبر في الحرب شجاعة و ضده الجبن. و في المصيبة الصبر- بقول مطلق- و ضده الجزع، و في الحوادث المضجرة رحابة الصدر و ضده الضجر، و في الكلام كتمانا و ضده الإذاعة و الإفشاء، و إن كان الصبر عن المفطرات سمي صوما و ضده الإفطار، و عن شهوة البطن و الفرج سمي عفة و ضده التهتك، و إن كان في كظم الغيظ و الغضب سمي حلما و يضاده التذمر، و إن كان عن حطام الدنيا سمي زهدا و ضده الحرص، و في المأكل و المشرب سمي قناعة و ضده الشره، و قد سمّى اللّه تعالى كل ذلك صبرا، و أشار إليه سبحانه في قوله: وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية 177
و الصبر لا يتحقق إلّا مع عقد القلب عليه و العزيمة على الاستمرار عليه، و إلّا فإن صرف وجود الشيء لا أثر له، و إنما الأثر يترتب على البقاء و هو يحصل بالصبر و المصابرة و الاستقامة على تحمل المكاره و لذلك كان الصبر من عزائم الأمور فقال تعالى: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [سورة لقمان، الآية: 17
و عن علي (عليه السلام): «ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصبر، عوّد نفسك الصبر فنعم الخلق الصبر
ثم إنّ الصبر تارة: يكون بتوفيق من اللّه و للتقرب اليه، و في مرضاته كصبر الأنبياء و المرسلين و لا سيما سيدهم (صلّى اللّه عليه و آله)، و هذه أعلى درجات الصبر، و يترتب عليه الثواب العظيم المعد للصابرين، و أخرى: يكون بتوفيقه تعالى، و ليس للّه تعالى. بل لأجل أغراض صحيحة أخرى، و ثالثة: لا يكون بتوفيقه أيضا و إن كان لأجل أغراض صحيحة أخرى و الغفلة عنه عزّ و جل، و الثواب يتحقق في الجميع لأن الصبر بنفسه محبوب له تعالى
و ربما يكون اختلاف الثواب و الجزاء عليه في القرآن الكريم لأجل اختلاف درجات الصبر، فهو تعالى يخبر تارة: بأنه: يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 146]، و محبته تعالى لشيء من أعلى المقامات و أجلها، و أنه مع الصابرين، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنفال، الآية: 46]، و أنه بشر الصابرين، فقال تعالى: وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 155]. و أنه خير لهم، فقال تعالى: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [سورة النحل، الآية: 126
و أخرى: يخبر بأن لهم الثواب الجزيل قال تعالى فيهم: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة، الآية: 157].
و يخبر ثالثة بمضاعفة الأجر لهم، قال تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [سورة القصص، الآية: 54]
ورابعة: أنّ لهم الأجر بلا حساب، قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة الزمر، الآية: 10
و عن الصادق (عليه السلام) قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إني لأصبر من غلامي هذا، و من أهلي على ما هو أمر من الحنظل، إنه من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم و درجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدام محمد (صلّى اللّه عليه و آله
والصبر من الصفات ذات الإضافة، فإذا لوحظ بالنسبة إليه تبارك و تعالى يكون محبوبه و مورد بشارته، و إذا لوحظ بالنسبة إلى الصابر يكون من جهات كماله و مكرمة له، و إذا لوحظ بالنسبة إلى الاجتماع يكون مورد التحبب و التودد و العناية. و هو في كل شيء بحسبه بشرط أن لا يصل إلى مرتبة يقبح الصبر فيها شرعا أو عرفا و عقلا، و إلّا فلا يكون صبرا مرغوبا، كالصبر على هتك العرض، أو المال، أو النفس و هو قادر على دفع المظالم. و عليه ينقسم الصبر حسب الأحكام التكليفية الخمسة
و قد ورد في الشرع موارد يستحب التعجيل فيها،فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خير الخير ما كان عاجله
وعنه (صلّى اللّه عليه و آله): «عجلوا بموتاكم إلى مضاجعهم
و في نصوص كثيرة التعجيل في تزويج الأبكار بالكفؤ و التعجيل بإتيان الصّلاة في أول وقتها، إلى غير ذلك من الموارد التي تستحب العجلة فيها
ثم إنّ في الصبر عن الشهوات النفسانية فضلا كبيرا،
فعن الباقر (عليه السلام): «الصبر صبران، صبر على البلاء حسن جميل و أفضل الصبر الورع عن محارم اللّه
سواء أ كان الصبر فيها مع تهيئة أسبابها، أو مع إمكان التهيئة، أو مع عدمهما معا، و الصبر عنها يدور مدار زوال حب النفس و الهوى و ترك متابعة الدنيا، و الأولان يرجعان في الحقيقة إلى ترك حب الدنيا، بل يدور جميع مكارم الأخلاق مدار التجنب عنها، و مذام الأخلاق مدار التقرب منها
و قد تواتر عن نبينا الأعظم: «حب الدنيا رأس كل خطيئة
و علامة تقوية الصبر و تضعيف حب الدنيا هي كثرة التفكر في الدنيا و فنائها و انها أقوى الحجب عن الوصول إلى المعنويات، بل أصل الحجب الظلمانية عن المعارف الربوبية، و الأخلاق الإلهية
المصدر : مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 215 وما بعدها
و قد اعتنى اللّه تعالى به اعتناء بليغا، فقد وردت مادة (ص ب ر) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة موضع، و لم يرد فضيلة أكثر ذكرا منه فيه، و قد تكرر الأمر به، قال تعالى: وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سورة هود، الآية: 115]، و قال جل شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران، الآية: 200]، و قال عزّ و جل: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [سورة غافر، الآية: 55]. و ورد الأمر بالاستعانة به في قوله تعالى: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 153
و الاستعانة بالصبر في الأمور التكوينية استعانة بأسبابها الظاهرية و المعنوية، و كلها ترجع إلى مراعاة حصول المسببات عند حصول أسبابها المقتضية لها، و استنتاج النتائج من المقدمات المعدة لها، و ترك المبادرة الى نقض هذا الأمر العقلي النظامي، فإنه يؤدي إلى خلاف المطلوب.
و في الأمور الاختيارية فهو إما على ما تكره النفس، أو على ما تحبه، و الأول عبارة عن مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها و ثباتها في مقابلها، و عدم تأثرها، و عدم انفعالها، و قد يعبر عن ذلك بالشجاعة وسعة الصدر أيضا. و الثاني عبارة عن مقاومة النفس لمدافعة القوى الشهوانية و الغلبة عليها بالعقل و الفكر، و كل ذلك من الحكمة العملية التي اهتم الفلاسفة، و علماء الأخلاق بشرحها
فما ورد في السنة المقدسة من «أن الصبر مفتاح الفرج مطابق للقاعدة العقلية، لأنه دخول في الشيء من أحسن أبوابه
و قد أشار نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الى عظيم منزلته لما سئل عن الإيمان، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «هو الصبر
كما جعله جزء الإيمان، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «الإيمان نصفان فنصف صبر، و نصف شكر
و قال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما أعطي أحد عطاء خيرا له و أوسع من الصبر
و عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فمن لا صبر له لا إيمان له
و الصبر من صفات الأنبياء و المرسلين الذين أمرنا بالاقتداء بفعلهم و الاهتداء بهديهم، قال تعالى مخاطبا للرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [سورة الأحقاف، الآية: 35]، و قال جلّ شأنه: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا [سورة الأنعام، الآية: 34]، و قال تعالى : ( وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنبياء، الآية 85
و قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ [سورة السجدة، الآية: 24]، فكما أن الصبر من أهم مقومات حياتهم (عليهم السلام) فهو من أقوى محققات شؤونهم، فما بعث اللّه تعالى نبيا و لا أرسل رسولا، بل و لم يفض علما على عالم إلّا و كان الصبر أليفه حتّى صار النصر حليفه، و قد تحمل من المشاق حتّى صار شهير الآفاق، و ذلك من سنة اللّه: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [سورة الفتح، الآية: 23
و قد عدّ الصبر في السنّة المقدسة من جنود العقل و ضده من جنود الجهل، فهو من حيث كونه من جنود العقل له دخل في نظام التكوين، و من حيث إنه الإيمان، أو جزء الإيمان له دخل في نظام التشريع فهو جامع للمنزلتين، و حائز للدرجتين، فله دخل في الأمور الطبيعية فإن مراتب استكمالها لا تتم إلّا بالتدرج و عدم العجلة- و إن لم يصح إطلاق الصبر بالمعنى المعهود عليها- و لذلك ترى أن بذور النباتات و الأشجار لا تصل إلى مرتبة الكمال إلّا بالتدرج
و قد ورد في الحديث: أن ذكر ستة أيام في خلق السموات و الأرض إنما كان لتعليم العباد التأني و الصبر، و إلّا فهو قادر على خلقهنّ في أقل من ذلك فهو من أهم موجبات تحقق المقاصد و الظفر بالمطلوب إن توفرت بقية الشرائط،
قال علي (عليه السلام): «لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمان
فليس للصابر إلّا أن يظفر بالمقصود، أو بما أعدّه اللّه تعالى له من الأجر المحمود
و تقدم في تعريف الصبر أنه: حبس النفس عن الهوى مع مراعاة تكليف المولى، بل يمكن تعريفه بالمعنى العام ليشمل صبر الواجب و الممكن، و أنواعه و أقسامه، بأن يقال: «هو تقدير الشيء بالنحو الأتم على ما يناسب النظام الأحسن نوعيا كان أو شخصيا» فيشمل صبر الواجب، حيث أطلق الصبور عليه تعالى في الأسماء الحسنى على ما روي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و ما ورد في الحديث القدسي،
و في الحديث: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللّه عزّ و جل
و في دعاء المجير و غيره «يا صابر»، فإنه يتفرع منه الحلم و العفو، و الرفق و المداراة كل ذلك متشعب عن الصبر المختلف باختلاف الخصوصيات و الجهات، فيختلف معناه كذلك فلا نحتاج إلى تفسير الصبر فيه تعالى بالمعنى العدمي، أي عدم التعجيل في عقوبة العصاة، كما عن جمع من المفسرين و اللغويين
و الصبر في الإنسان قد يكون من طبيعته و جبلته فإننا نرى أن بعض الأفراد يصبر على ما يرد عليه من المكاره و يتحمل من المشاق ما لا يقدر غيره على تحملها. و قد يكون بالاكتساب و المصابرة، و هذا أفضل من القسم الأول، و هو موضوع منازل السائرين إلى اللّه تعالى في سيرهم و سلوكهم، و أهم عمادهم في التخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل و التجلية بالتخلق بأخلاق اللّه تعالى، و بقية الدرجات من الفناء و الطمس، و المحو، و المحق و غيرها مما شرحه أهل الفلسفة العملية و العرفاء
كما أن الصبر عن الشيء تارة يكون مع وجود المقتضي و فقد المانع خارجا، و أخرى مع الميل النفساني و عدم المقتضي، و ثالثة مع الميل و وجود المانع، و تختلف مراتب فضل الصبر باختلاف هذه المراتب
و للصبر أنواع و أفراد كثيرة كلها من الفضائل، و لكل فرد اسم خاص به، و ضد مختص به، فيسمى الصبر في الحرب شجاعة و ضده الجبن. و في المصيبة الصبر- بقول مطلق- و ضده الجزع، و في الحوادث المضجرة رحابة الصدر و ضده الضجر، و في الكلام كتمانا و ضده الإذاعة و الإفشاء، و إن كان الصبر عن المفطرات سمي صوما و ضده الإفطار، و عن شهوة البطن و الفرج سمي عفة و ضده التهتك، و إن كان في كظم الغيظ و الغضب سمي حلما و يضاده التذمر، و إن كان عن حطام الدنيا سمي زهدا و ضده الحرص، و في المأكل و المشرب سمي قناعة و ضده الشره، و قد سمّى اللّه تعالى كل ذلك صبرا، و أشار إليه سبحانه في قوله: وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية 177
و الصبر لا يتحقق إلّا مع عقد القلب عليه و العزيمة على الاستمرار عليه، و إلّا فإن صرف وجود الشيء لا أثر له، و إنما الأثر يترتب على البقاء و هو يحصل بالصبر و المصابرة و الاستقامة على تحمل المكاره و لذلك كان الصبر من عزائم الأمور فقال تعالى: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [سورة لقمان، الآية: 17
و عن علي (عليه السلام): «ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصبر، عوّد نفسك الصبر فنعم الخلق الصبر
ثم إنّ الصبر تارة: يكون بتوفيق من اللّه و للتقرب اليه، و في مرضاته كصبر الأنبياء و المرسلين و لا سيما سيدهم (صلّى اللّه عليه و آله)، و هذه أعلى درجات الصبر، و يترتب عليه الثواب العظيم المعد للصابرين، و أخرى: يكون بتوفيقه تعالى، و ليس للّه تعالى. بل لأجل أغراض صحيحة أخرى، و ثالثة: لا يكون بتوفيقه أيضا و إن كان لأجل أغراض صحيحة أخرى و الغفلة عنه عزّ و جل، و الثواب يتحقق في الجميع لأن الصبر بنفسه محبوب له تعالى
و ربما يكون اختلاف الثواب و الجزاء عليه في القرآن الكريم لأجل اختلاف درجات الصبر، فهو تعالى يخبر تارة: بأنه: يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 146]، و محبته تعالى لشيء من أعلى المقامات و أجلها، و أنه مع الصابرين، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنفال، الآية: 46]، و أنه بشر الصابرين، فقال تعالى: وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 155]. و أنه خير لهم، فقال تعالى: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [سورة النحل، الآية: 126
و أخرى: يخبر بأن لهم الثواب الجزيل قال تعالى فيهم: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة، الآية: 157].
و يخبر ثالثة بمضاعفة الأجر لهم، قال تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [سورة القصص، الآية: 54]
ورابعة: أنّ لهم الأجر بلا حساب، قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة الزمر، الآية: 10
و عن الصادق (عليه السلام) قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إني لأصبر من غلامي هذا، و من أهلي على ما هو أمر من الحنظل، إنه من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم و درجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدام محمد (صلّى اللّه عليه و آله
والصبر من الصفات ذات الإضافة، فإذا لوحظ بالنسبة إليه تبارك و تعالى يكون محبوبه و مورد بشارته، و إذا لوحظ بالنسبة إلى الصابر يكون من جهات كماله و مكرمة له، و إذا لوحظ بالنسبة إلى الاجتماع يكون مورد التحبب و التودد و العناية. و هو في كل شيء بحسبه بشرط أن لا يصل إلى مرتبة يقبح الصبر فيها شرعا أو عرفا و عقلا، و إلّا فلا يكون صبرا مرغوبا، كالصبر على هتك العرض، أو المال، أو النفس و هو قادر على دفع المظالم. و عليه ينقسم الصبر حسب الأحكام التكليفية الخمسة
و قد ورد في الشرع موارد يستحب التعجيل فيها،فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خير الخير ما كان عاجله
وعنه (صلّى اللّه عليه و آله): «عجلوا بموتاكم إلى مضاجعهم
و في نصوص كثيرة التعجيل في تزويج الأبكار بالكفؤ و التعجيل بإتيان الصّلاة في أول وقتها، إلى غير ذلك من الموارد التي تستحب العجلة فيها
ثم إنّ في الصبر عن الشهوات النفسانية فضلا كبيرا،
فعن الباقر (عليه السلام): «الصبر صبران، صبر على البلاء حسن جميل و أفضل الصبر الورع عن محارم اللّه
سواء أ كان الصبر فيها مع تهيئة أسبابها، أو مع إمكان التهيئة، أو مع عدمهما معا، و الصبر عنها يدور مدار زوال حب النفس و الهوى و ترك متابعة الدنيا، و الأولان يرجعان في الحقيقة إلى ترك حب الدنيا، بل يدور جميع مكارم الأخلاق مدار التجنب عنها، و مذام الأخلاق مدار التقرب منها
و قد تواتر عن نبينا الأعظم: «حب الدنيا رأس كل خطيئة
و علامة تقوية الصبر و تضعيف حب الدنيا هي كثرة التفكر في الدنيا و فنائها و انها أقوى الحجب عن الوصول إلى المعنويات، بل أصل الحجب الظلمانية عن المعارف الربوبية، و الأخلاق الإلهية
المصدر : مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج1، ص: 215 وما بعدها
تعليق