. طريقك إلى القرب الإلهي
إنَّ أسمى الأهداف التي أراد الله تعالى للإنسان تحصيلها في هذه الدنيا، هو الوصول إلى مقام القرب الإلهي. كيف يمكن تحصيل هذا الفوز وبلوغ مقام المقربين؟
سؤال وردت إجابته في حديث للإمام الصادق (ع) حيث قال: «يا ابن جندب إن أحببت أن تجاور الجليل في داره وتسكن الفردوس في جواره فلتهن عليك الدنيا، واجعل الموت نصب عينيك» (1).
* المعرفة أول محفزات الهمة
اعلم أن الإيمان ذو مراتب متفاوتة، ومعرفة الأفراد بحقائق الدين مختلفة. وكذلك تختلف همّة الأفراد بالنسبة للدين. ولكن الوصول إلى الهدف المتعالي يتطلب أولاً: معرفة الهدف والإيمان به، وثانياً: امتلاك الهمة الكافية للوصول إليه. أما ضعيفو الإيمان فيمكنهم من خلال تقوية معارفهم ورفع مستوى الهمة الوصول إلى الهدف. وهناك قسم ثالث، وهم الأشخاص ضعيفو الهمة ـ حتى في الأمور الدنيوية ـ الذين مهما تهيأت الأرضية لزيادة معرفتهم وإيمانهم لا يتمكنون من الحركة نحو الهدف. ينبغي تنبيه هؤلاء إلى ضرورة تقوية الهمة واختيار الطريق الصحيح للوصول إلى الأهداف المتعالية.
أراد الإمام الصادق (ع) في هذا القسم من الرواية المتقدمة تحفيز المؤمنين على طاعة الله تعالى من خلال تقوية الدافع لديهم؛ وكأنه أراد القول: لا تفكروا بالنجاة من عذاب جهنم فقط، بل ينبغي أن تكون همتكم أرفع وأعلى من ذلك بكثير. والمؤمنون بالمعاد يدركون أن القيام ببعض الأعمال يقتضي العذاب الأبدي، لذلك يحاولون عدم ارتكاب المعاصي ليحافظوا على إيمانهم، وإذا ارتكبوا بعض الأمور يحاولون تجاوزها من خلال الشفاعة. أما أصحاب الهمّة العالية في هذه الدنيا فيجهدون لعدم الوقوع أصلاً في المعاصي. وهناك فرقة أخرى أعلى من المتقدمتين حيث لا يكتفي هؤلاء بالنجاة من العذاب، بل يعملون للوصول إلى أعلى الدرجات في الجنة. ودرجات الجنة متعددة وقد تحدثت بعض الروايات عن أن عددها بمقدار عدد آيات القرآن الكريم. عن موسى بن جعفر (ع): «درجات الجنة على قدر آيات القرآن» (2).
وهناك فرقة أخرى لا تعير أي اهتمام للدنيا ولا لنعم الجنة، بل تسعى في طلب رضا الله تعالى. وقد تجذرت محبة الله في قلوبهم فلا يقنعون بغير رضاه. هؤلاء الأشخاص بلغوا درجات عالية من المعرفة فأصبح لقاء الله أفضل وأعلى وأرقى ما يسعون إليه. وهذا ما نفهمه من خلال الحوار الذي جرى بين فرعون وزوجته عندما هددها بالقتل إن لم تترك إيمانها، قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} (التحريم:11).
كانت زوجة فرعون على استعداد لتحمل العذاب حتى تحافظ على إيمانها، لا بل لم تكن ترغب بالنعم واللذائذ وكل ما كانت تطلبه هو القرب من الله تعالى. طبعاً القرب من الله تعالى ليس مادياً فالله تعالى ليس بجسم ولا جسماني ويستحيل الاقتراب الجسماني منه، بل القرب هنا هو القرب المعنوي والروحي.
* طريق الوصول إلى مقام القرب
إذا وُجد بين المؤمنين من يمتلك همّة عالية (يعمل ويكدّ) للقرب من الله فهذا يعني أنه يمتلك معرفة بالله ومحبة له مما يجعله يقدّم رضوانه على كل شيء. ويلزم من ذلك تهيئة بعض المقدمات في الدنيا، لأن الدنيا دار العمل. يجب أن يدرك الشخص ما هي الأمور التي يعمل بها في الدنيا والتي توصله إلى ذاك المقام، وما هي الموانع التي قد تقف في طريقه.
يخاطب الإمام (ع) في الرواية الأشخاص أصحاب الهمّة الضعيفة، وأصحاب الهمة العالية الذين لا يدركون طريق الوصول إلى الهدف، لذلك يتحدث إلى عبد الله بن جندب: «يا ابن جندب إن أحببت أن تجاور الجليل في داره وتسكن الفردوس في جواره فلتهن عليك الدنيا». أي إن الاهتمام بالدنيا والعمل لها يمنع الشخص من الوصول إلى تلك الأهداف المتعالية. فعندما يتعلق القلب بالدنيا يصبح خالياً من حب الله.
* ذكر الموت وذخيرة الآخرة
قد لا نجد خطبة في نهج البلاغة لا تشير إلى الدنيا وصغرها. وقد تحدثت بعض الخطب عن الدنيا بشكل قاطع وصارم ناهية المؤمنين عنها. يقول الإمام علي (ع): «فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ...» (3) ويقول: «والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم» (4). وغيرها الكثير من الروايات التي تذم الدنيا . فالاقتراب من الدنيا يبعد المؤمن عن الهدف. طبعاً هذا لا يعني أن يبتعد الإنسان عن النشاطات والوظائف الفردية والاجتماعية المطلوبة منه في الدنيا، لأن أداء التكليف شيء آخر، وإنما الكلام هنا عن المعرفة والرؤية. يجب أن لا تسلبنا الدنيا قدرة الالتفات إلى الآخرة والمقامات المعنوية، لذلك يجب أن نحافظ على ذكر الموت، لأن الموت يقلل قيمة الدنيا في نظر الإنسان. يتابع الإمام الصادق (ع): «واجعل الموت نصب عينيك».
ويمكننا النجاة من شباك الدنيا إذا جعلنا آمالنا المستقبلية قليلة وابتعدنا عن اللذائذ الدنيوية. لنفكر في يومنا ولا نحمل همّ الغد حيث لا نعلم إن كنا سنبقى أحياءً أم لا. يمكن محاربة الدنيا من خلال الإنفاق، وهو حالة قد اعتاد عليها أصحاب المقامات العالية وعلى الآخرين الاعتياد بالممارسة...
في الختام علينا التوقف ملياً عند الرواية الشريفة: «ولا تدخر شيئاً لغد واعلم أن لك ما قدمت وعليك ما أخرت» (5).
******
الهوامش:
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 75، ص 282.
(2) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 606.
(3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج 1، ص 79.
(4) نهج البلاغة، م. س، ج 4، ص 52.
(5) بحار الأنوار، م. س، ج 75، ص 282.
مجلة بقية الله
إنَّ أسمى الأهداف التي أراد الله تعالى للإنسان تحصيلها في هذه الدنيا، هو الوصول إلى مقام القرب الإلهي. كيف يمكن تحصيل هذا الفوز وبلوغ مقام المقربين؟
سؤال وردت إجابته في حديث للإمام الصادق (ع) حيث قال: «يا ابن جندب إن أحببت أن تجاور الجليل في داره وتسكن الفردوس في جواره فلتهن عليك الدنيا، واجعل الموت نصب عينيك» (1).
* المعرفة أول محفزات الهمة
اعلم أن الإيمان ذو مراتب متفاوتة، ومعرفة الأفراد بحقائق الدين مختلفة. وكذلك تختلف همّة الأفراد بالنسبة للدين. ولكن الوصول إلى الهدف المتعالي يتطلب أولاً: معرفة الهدف والإيمان به، وثانياً: امتلاك الهمة الكافية للوصول إليه. أما ضعيفو الإيمان فيمكنهم من خلال تقوية معارفهم ورفع مستوى الهمة الوصول إلى الهدف. وهناك قسم ثالث، وهم الأشخاص ضعيفو الهمة ـ حتى في الأمور الدنيوية ـ الذين مهما تهيأت الأرضية لزيادة معرفتهم وإيمانهم لا يتمكنون من الحركة نحو الهدف. ينبغي تنبيه هؤلاء إلى ضرورة تقوية الهمة واختيار الطريق الصحيح للوصول إلى الأهداف المتعالية.
أراد الإمام الصادق (ع) في هذا القسم من الرواية المتقدمة تحفيز المؤمنين على طاعة الله تعالى من خلال تقوية الدافع لديهم؛ وكأنه أراد القول: لا تفكروا بالنجاة من عذاب جهنم فقط، بل ينبغي أن تكون همتكم أرفع وأعلى من ذلك بكثير. والمؤمنون بالمعاد يدركون أن القيام ببعض الأعمال يقتضي العذاب الأبدي، لذلك يحاولون عدم ارتكاب المعاصي ليحافظوا على إيمانهم، وإذا ارتكبوا بعض الأمور يحاولون تجاوزها من خلال الشفاعة. أما أصحاب الهمّة العالية في هذه الدنيا فيجهدون لعدم الوقوع أصلاً في المعاصي. وهناك فرقة أخرى أعلى من المتقدمتين حيث لا يكتفي هؤلاء بالنجاة من العذاب، بل يعملون للوصول إلى أعلى الدرجات في الجنة. ودرجات الجنة متعددة وقد تحدثت بعض الروايات عن أن عددها بمقدار عدد آيات القرآن الكريم. عن موسى بن جعفر (ع): «درجات الجنة على قدر آيات القرآن» (2).
وهناك فرقة أخرى لا تعير أي اهتمام للدنيا ولا لنعم الجنة، بل تسعى في طلب رضا الله تعالى. وقد تجذرت محبة الله في قلوبهم فلا يقنعون بغير رضاه. هؤلاء الأشخاص بلغوا درجات عالية من المعرفة فأصبح لقاء الله أفضل وأعلى وأرقى ما يسعون إليه. وهذا ما نفهمه من خلال الحوار الذي جرى بين فرعون وزوجته عندما هددها بالقتل إن لم تترك إيمانها، قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} (التحريم:11).
كانت زوجة فرعون على استعداد لتحمل العذاب حتى تحافظ على إيمانها، لا بل لم تكن ترغب بالنعم واللذائذ وكل ما كانت تطلبه هو القرب من الله تعالى. طبعاً القرب من الله تعالى ليس مادياً فالله تعالى ليس بجسم ولا جسماني ويستحيل الاقتراب الجسماني منه، بل القرب هنا هو القرب المعنوي والروحي.
* طريق الوصول إلى مقام القرب
إذا وُجد بين المؤمنين من يمتلك همّة عالية (يعمل ويكدّ) للقرب من الله فهذا يعني أنه يمتلك معرفة بالله ومحبة له مما يجعله يقدّم رضوانه على كل شيء. ويلزم من ذلك تهيئة بعض المقدمات في الدنيا، لأن الدنيا دار العمل. يجب أن يدرك الشخص ما هي الأمور التي يعمل بها في الدنيا والتي توصله إلى ذاك المقام، وما هي الموانع التي قد تقف في طريقه.
يخاطب الإمام (ع) في الرواية الأشخاص أصحاب الهمّة الضعيفة، وأصحاب الهمة العالية الذين لا يدركون طريق الوصول إلى الهدف، لذلك يتحدث إلى عبد الله بن جندب: «يا ابن جندب إن أحببت أن تجاور الجليل في داره وتسكن الفردوس في جواره فلتهن عليك الدنيا». أي إن الاهتمام بالدنيا والعمل لها يمنع الشخص من الوصول إلى تلك الأهداف المتعالية. فعندما يتعلق القلب بالدنيا يصبح خالياً من حب الله.
* ذكر الموت وذخيرة الآخرة
قد لا نجد خطبة في نهج البلاغة لا تشير إلى الدنيا وصغرها. وقد تحدثت بعض الخطب عن الدنيا بشكل قاطع وصارم ناهية المؤمنين عنها. يقول الإمام علي (ع): «فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ...» (3) ويقول: «والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم» (4). وغيرها الكثير من الروايات التي تذم الدنيا . فالاقتراب من الدنيا يبعد المؤمن عن الهدف. طبعاً هذا لا يعني أن يبتعد الإنسان عن النشاطات والوظائف الفردية والاجتماعية المطلوبة منه في الدنيا، لأن أداء التكليف شيء آخر، وإنما الكلام هنا عن المعرفة والرؤية. يجب أن لا تسلبنا الدنيا قدرة الالتفات إلى الآخرة والمقامات المعنوية، لذلك يجب أن نحافظ على ذكر الموت، لأن الموت يقلل قيمة الدنيا في نظر الإنسان. يتابع الإمام الصادق (ع): «واجعل الموت نصب عينيك».
ويمكننا النجاة من شباك الدنيا إذا جعلنا آمالنا المستقبلية قليلة وابتعدنا عن اللذائذ الدنيوية. لنفكر في يومنا ولا نحمل همّ الغد حيث لا نعلم إن كنا سنبقى أحياءً أم لا. يمكن محاربة الدنيا من خلال الإنفاق، وهو حالة قد اعتاد عليها أصحاب المقامات العالية وعلى الآخرين الاعتياد بالممارسة...
في الختام علينا التوقف ملياً عند الرواية الشريفة: «ولا تدخر شيئاً لغد واعلم أن لك ما قدمت وعليك ما أخرت» (5).
******
الهوامش:
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 75، ص 282.
(2) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 606.
(3) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج 1، ص 79.
(4) نهج البلاغة، م. س، ج 4، ص 52.
(5) بحار الأنوار، م. س، ج 75، ص 282.
مجلة بقية الله
تعليق